• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العبرة التربوية من الحج

د. محمد بديع

العبرة التربوية من الحج

فريضة الحج مرّة واحدة في العمر، لكن شحنة دروسه وعبره التربوية تكفل أن يشحن بها العبد المؤمن قلبه، فيدوم معه أثرها بقية عمره؛ مصداقاً لقول الرسول (ص): "يرجع كيوم ولدته أُمّه"، وكأنه بعدها يفتح صفحة جديدة بغد غسيل كلّ الذنوب، ولكل من حضر عرفة؛ حتى يولول الشيطان ويصرخ من كثرة من يغفر له، وما يغفر بفضل الله ورحمته، ولنبدأ الحديث عن الحج بسورة الحج؛ حيث إن درسها هو الدرس الأوّل لمن أراد أن يتربى على مادة القرآن: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (الحج/ 1).

حديث يزلزل القلوب عن الساعة، وأهوالها، افتتاحه لسورة الحج واضح لكل ذي عينين وقلب أو ألقى السمع وهو شهيد، إن أوجه الشبه بين مشاهد الحج ومشاهد القيامة كثيرة، أوّلها: إعداد الكفن، وثانيها: ترك الدنيا وراء الظهر، وثالثها: حشد بشري هائل لكل مسلمي الدنيا شرفهم الله بحج بيته الحرام في صعيد واحد، كأنّه يوم الحشر، يخرجون بأكفانهم من الأجداث، فإذا ما عادوا بعد أداء هذه الشعيرة على ملة إبراهيم وسنة نبينا محمّد (ص)؛ كانوا كمن منحهم الله وقتاً إضافياً في عمرهم، وصفحات بيضاء جديدة بعد إلغاء إجاباتهم الخاطئة في الامتحان السابق؛ فيسطرون فيها أعمالاً صالحة، على نحو ما ذاقوا من حلاوة الإيمان وصفاء الطاعات ونورها.

-        تحري الحلال:

لابدّ من التنبيه على أن اشتراط المال الحلال، والراحلة الحلال، والغداء الحلال والملبس الحلال لقبول الحج، كما قال رسول (ص): "يقال له لبيك وسعديك"، على عكس تلبية مَنْ ماله حرام، وراحلته حرام، ومطعمه حرام، يقال له: "لا لبيك ولا سعديك"، كل هذا يخيف المسلم المسافر هذا السفر الطويل، وهو يعلم أنّه سيكلفه مالاً كثيراً، وجهداً أكثر، فيتحرى حلال المال والمأكل والملبس؛ خشية ضياع كل جهده وماله بلا فائدة، حتى ولو كان عاصياً بعيداً عن الله عزّ وجلّ؛ فإنّه عند استعداده لرحلة العمر هذه يتحرى مبلغاً يدخره من مصدر حلال للإنفاق على هذه الرحلة؛ عسى الله أن يتقبلها؛ فيغسل بها الذنوب؛ ويمحو بها الخطايا، يذكرني هذا بعهد كفار مكة، عندما اتفقوا عند إعادة بناء الكعبة ألا يدخل في بنائها مال حرام من مهر بغي، أو حلوان كاهن، أو مال مغصوب يقيناً، فإنّ الفطرة تعترف بأنّ الله عزّ وجلّ طيب لا يقبل إلا طيباً.

ويزيد من خوف العبد، وهو مقدم على هذه الرحلة أنّه سيترك زوجه وأولاده، وأمواله وديعة عند الله متمثلاً حج أبينا وجدنا إبراهيم الذي قالت له زوجه هاجر: "الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لن يضيعنا"، فلمن سيترك هؤلاء؟! إنّه سيتركهم لله، ومَنْ هو ذاهب؟ إنّه زائر لبيت الله الحرام، وحق على المزور أن يكرم زائره، ومؤدياً لخامس أركان الإسلام، ثمّ زائراً لمسجد حبيبه محمّد (ص).

إنّ تحريم دخول مكة والمدينة على مشرك أو كافر يؤكد معنى مهمّاً وخطيراً: أنكم أيّها المسلمون إذا فرطتم في كل أرضكم الإسلامية أو يعتموها لأعدائكم، أو لم تحموها من أعدائكم، فإنّ البلدين الحرامين حرامٌ على الكفار ممنوعان بحفظ الله من دخول المشركين أو الكفار، وهما وقف فقط للمسلمين بأمر الله، وسلطان الله، وقدرة لإقامة الحجة على المسلمين بتقصيرهم في حق بقية مقدساتهم، وعلى رأسها المسجد الأقصى الذي أوكل الله إلينا المحافظة عليه، أو سائر بلاد وأراضي المسلمين التي سلط الله علينا بذنوبنا عدوّاً من غيرنا، فاستنفد بعض ما في أيدينا، كما ورد في الحديث الصحيح عن رسول الله (ص)، تحديد أماكن للميقات، وتحديد زمان للحج، وتحديد مواقيت ومناسك للحج عند كل شعيرة منها، تكليف بأمر ما، وإحياء لمناسبة من ذكريات السيرة الإسلامية الأولى لأبينا إبراهيم وزوجه هاجر وابنهما إسماعيل عليهم صلوات الله وسلامه.

درس لا يُنسى: فمن درس افتراق الأسرة الإسلامية على الله مقابلاً لإجتماعها على الله، ولكلٍّ أجره وثوابه، ومن تسليم الزوجة الطائعة لربها وزوجها؛ درس يجب ألا تنساه الأُمّة المسلمة نساؤها على الأخص، فخروج أزواجهنّ للجهاد هو حفظ لهنّ ولأولادهنّ أفضل من بقاء أزواجهنّ معهنّ، فمن أين كان سيأتي لها أبونا إبراهيم بماء هو آية إلى قيام الساعة، طعام، وشراب، وشفاء، وأمان، وما تحقق لها ولإبنها الرضيع لم يأت إلا بعد التسليم والرضا، وعون الزوج على طاعة الله: "اذهب لما أمرك الله"، واليقين في حفظ الله وموعوده، مع تمام انقطاع الأسباب (... بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) (إبراهيم/ 37)، وحوله الوحوش والسباع، ولا يوجد مأوى، والطفل الرضيع، أو يدافع عنهما، ولكن مع كل هذا لابدّ من بذل الجهد، أي الأخذ بالأسباب، فمهما تكالبت المصائب، وأظلمت الدنيا، وانقطعت الأسباب، لا يأس ولا قعود عن بذل الجهاد، وإلا لكانت أُمّنا هاجر تواكلت، ويئست، واستسلمت، فكيف يا أُمّة الإسلام، وحالنا الآن مهما بلغ أهون بكثير من حال أُمّنا هاجر وابنها الرضيع، وهي لم تقعد عن بذل جهدها الضعيف ولو لم تملك غيره، وهي تمشي وتهرول بين الصفا والمروة (750 متراً × 7 مرّات) أي حوالي 5 كيلومترات مشياً، وهرولة، وأقصى أملها ترى قافلة معها ماء وطعام، ونحن نسير نفس الخطوات، ولكننا ننسى أن نعيش نفس الظروف والحالات التي مرّت بها، أو حتى نتخيلها، لنخرج منها بالنتيجة المرجوة، فما الذي كانت تحلم له؟ وماذا كانت أقصى أمانيها؟ طعام أو شراب ليوم أو يومين، ثمّ ماذا بعد؟ لا.. إنّ العطاء عطاء الكريم الذي أمرنا أن نعبده، ونتوكل عليه، فيكون الدرس الأساسي في السعي الأخذ بالأسباب وترك النتائج على الله، فإذا بجبريل الأمين ينزل ليفجر البئر المباركة "زمزم" من تحت أقدام الطفل، وليس من تحت أقدام الأُم؛ ليكون آية أخرى أنّ الله عزّ وجلّ يأتي بالخير من باب أضعف الأسباب إذا أراد تنبيه الغافلين إلى طلاقة القدرة التي لا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء.

وتخيل معي أخي المسلم أن ماء زمزم قد فاض لتشرب منه أُمّنا هاجر وابنها الرضيع، ولكن من أين يأتي الأمان، وهو أهم من الطعام والشراب، انظر إلى القدرة تسخر طيور السماء؛ لتكون جهاز الإعلام الذي ينقل الخير إلى كلّ القوافل التي تعرف مغزى هذه الرسالة الطائرة، فتلتف القوافل حول البئر، وتستأذن السيدة المصونة هاجر؛ ليكون عزّاً وشرفاً وسيادةً تأذن لمن تشاء، وتمنع مَنْ تشاء، والقوافل تحميها بالتبادل، وتحمل لها طعاماً وشراباً، وتتناقل القوافل الخير؛ لتكون زمزم محط كل القوافل ذهاباً وإياباً، فلا ينقطع الأمان، ولا ورديات الحراسة مع الرعاية والحماية بكل الوسائل من الغوئل، كل هذا، والأب في لقاء ربه لا يدري ما حدث لزوجه وولده، ولاشكّ أنّه كان في قلق، وإشفاق بلا رسائل تصله أو تطمئنه، ولكن على يقين أنّه قد استخلف الله عزّ وجلّ عليهم وهو نعم الخليفة في المال والأهل والولد مع التسليم بلا تفاصيل، كما قالتها زوجه الصابرة الثابتة "إذن لن يضيعنا"، وهي لا تدري كيف وليس هناك كيف؟!

أمّا الطواف فهو درس روحاني عجيب بسبع، هي من بركات التكاليف، بسبع نسعى، وسبع نطوف؛ ولكن العجيب والغريب أن كل الكائنات تطوف في هذا الإتّجاه، اتّجاه طواف الطيور والملائكة، بل وطواقف الأفلاك حول نجومها، بل وطواف أجزاء الذرة حول مركزها والملائكة حول البيت المعمور.

-        دورات شحن:

إنّها دورات شحن للقلب والروح في مجال مغناطيسي لا يدرك كنهه أحد.. لكن حلاوته تلامس شغاف القلب، وتبارك من هذا عطاؤه بغير حساب.

أمّا مقام إبراهيم، فهو دليل الحب للتكليف، فالمقام كان لبناء الكعبة بأعلى مما تستطيعه يداه فكان حقّاً (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ) (إبراهيم/ 97). أما منى، ومعركتك فيها مع الشيطان تجسيد لهذه المعركة التي هي محور حياتك كلها مع عدوك الأوّل والأوحد، والذي منه تتشعب عداوات كل أعدائك، تنبه يا مسلم أنّ الشيطان سيأتيك عند إصرارك على الطاعة، ولن ييأس عند تكرار الوسوسة فهو لم يتوان عن الوسوسة مرّة بعد مرّة، بعد مرّة أملاً في أن يثنيه عن طاعة ربه، رغم قسوة الإبتلاء بذبح الإبن الوحيد، فهل سيتركك أنت، وهو لم يترك أبا الأنبياء؟ وهل ستضعف في مواجهته، رغم الفارق الشاسع بين الإبتلاء الذي كان يمر به جدك، وما ستمر به أنت من إبتلاءات؟ مهما بلغت فلن تصل إلى الأمر بذبح ابنك الوحيد بيديك، فهل وعيت الدرس؟ والعجب أنّ الطاعة في الإلتزام بالسلاح الذي أمرت به في هذه المعركة الفاصلة، ورغم أن عدوك مدجج بكل صور الأسلحة الفتاكة، والإغراءات العديدة، وخطط المكر والكيد الذي لا يقدر على مثله أو على مواجهته، فما سلاحك؟ تخيل.. حصاة من حصى الأرض الطاهرة في حجم حبة الفول بعدد من مضاعفات السبعة (حكمة يعلمها الله) يتضاءل سلاحك المادي إلى هذه الدرجة التي يبرز معها السلاح الحقيقي طاعة للرحمن، ورجماً للشيطان بهذا، فقط يحترق الشيطان كما تفعل به سورة الناس، وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلا يثقل مع اسم الله شيء، ولا تقف في وجه قرآن الله قوة، ولا يصمد شيطان في وجه الجمرات، وهي حصيات ولكنها سميت جمرات، فيا ترى لماذا؟ إنّ الله يحول حصياتك إلى جمرة نار تحرق الشيطان المخلوق من نار (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) (الأنفال/ 17). ثمّ الشكر على نعمة الفداء بالهدي الذي سيظل نعمة لا ندركها إلا إذا تخيلنا أنّ الله لو أنفذ أمر ذبح أبينا إبراهيم لإبنه الوحيد إسماعيل؛ لأصبح لزاماً علينا أن نذبح أولادنا قرباناً لله (... وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة/ 220).

-        أهداف ثلاثة:

ولنبلور الأهداف الثلاثة الرئيسة للحج: إظهار الربوبية من كل خلق الله لرب واحد:

كل خلق الله يعترفون لله بأنّه رب واحد لا شريك له "إنّ الحمد والنعمة لك، لا شريك لك".

-        إظهار الإلوهية بالطاعة:

فلم تستجب هذه الأُمّة الإسلامية بقوة ما، ولا لأحد ما، مثل إستجابتها لربها في هذا الإقبال منقطع النظير، إقبال القلوب والأرواح قبل الأبدان؛ إستجابة لدعوة أبينا إبراهيم الذي كان كل همّه أن يأتي أناس ليؤنسوا زوجه هاجر وابنه إسماعيل، كي يتمكنا من إقامة الصلاة فقط، فهي الغاية والنهاية (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم/ 37)، وقد كان جميعنا شهوداً على ذلك، بل إن ماء زمزم حاولوا في كلية العلوم جامعة الملك عبدالعزيز أن يربوا عليه فيروسات أو ميكروبات أو طفيليات أو فطريات وفشلوا تماماً، بل اعترفوا أنّه فوق ذلك، يزيد مدده رغم كل ما يستهلك منه، يزداد عاماً بعد عام، فتبارك الله خير الرازقين.

-        بقي درس شفاء النفس البشرية من أمراضها:

لغياب معنى العبودية وإستكبارها على أوامر الله فعلاجها هذا التدريب العملي.

البس بالأمر هذا اللباس، وامتنع عن أي لباس آخر.. من هنا.. لا تقرب زوجتك.. من هنا لا تقص أظافرك.. ابتداء من هنا مكاناً وزماناً لا تقص شعرك، لا تقطع شجرة، ولا تصطد طيراً أو حيواناً، امش هنا، اجر هنا، هرول هنا، طف في هذا الإتّجاه، اشرب من هذا الماء، تضلع منه ولو لم تكن ظمآناً، وهذا لخيرك وصالحك، فالله لن يناله من طاعتك هذه كلها شيئاً، إنّما هو منك لله عائده عليك، بعد قبول الله له، قبّل هذا الحجر، امسك بهذا الحجر، ارجم هذا الحجر، نم هنا، صل هنا قصراً وجمعاً، وفرّغ يوم عرفة من كل ألوان العبادات بعد جمع الظهر والعصر تقديماً، وتحريم صيامه، وأخّر المغرب مع العشاء؛ ليكون يوم عرفة يوم دعاء مفتوح، وذكْر مطلق، وبلا أية مشقة خاصة، ولا عبادة مميزة؛ للفت النظر أنّ المهم هو تعلقك بالله بلا أشكال ولا طقوس، وهو لب ونخاع العبادة والذكر وحلاوتها.

مؤتمر جامع: أمّا الأُمّة فليتها تدرك قيمة هذا المؤتمر الإسلامي الجامع؛ الذي يوحد القلوب والأرواح والأجساد والمشاعر والمظاهر والقادة والزعماء والرؤساء والأمراء والعبيد والأغنياء والفقراء والحمر والبيض والصفر والسود من أجناس الخلق جميعهم، الإسلام دينهم، ويلفهم الحب في الله، ويتوجهون بالأعمال جميعاً إلى رب واحد لا شريك له ولا طاعة لغيره، والكل عبيده، أليس هنا، وهنا فقط يمكن للأُمّة أن تتكامل إقتصادياً وعسكرياً وتجاريّاً وإعلاميّاً وثقافيّاً وتعليميّاً، ويتبادلون المنافع، والأفكار بعيداً عن عدوهم (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ) (الحج/ 28)، بل إنّك لو رأيت حال كل الألسنة، الأعجمية والعربية وهي تنطق بين الركن، والمقام والحجر الأسعد: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وأدخلنا الجنة مع الأبرار برحمتك يا عزيز يا غفار؛ توحيد الكلمات والحروف في مكان واحد، وعلى حالة واحدة، إلى رب واحد، في وقت واحد، عوامل كلها توحد الأُمّة، وتعالج أخطر أمراضها وهو الفرقة (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء/ 92).

أمّا زيارة الحبيب (ص) ومعانيها الجميلة عند إلقائك السلام، وتصورك أنّ الله يرد روحه (ص) ليرد عليك السلام، وتذكرك للتشهد وما فيه من مشهد منقول لفظاً ومعنى من حال رسول الله (ص) عند سدرة المنتهى، وهو يستصحب تحية الله – عزّ وجلّ – وسلامه ورضوانه ورحماته وبركاته؛ عليه يستصحبها مستئذناً ربه في أن يستظل بظلها كل تابعيه من عباد الله الصالحين، فاللّهمّ اجزه عنا خير ما جازيت نبيّاً عن أُمّته.. وهلم بنا لنعيش لحظات في رياض الجنة بين بيته ومنبره (ص)، وهي ليست قاصرة على هذا المكان فقط، ولكن طاعتك لله – عزّ وجلّ – وقيامك بتنفيذ سنة رسول الله (ص) في عيادة أخيك المسلم المريض يجعلك تعيش في فرحة الجنة أي جناها من طيب ثمارها حتى ترجع، بل أكثر من هذا أن سعيك في حاجة أخيك المسلم ساعة من نهار قضاها الله أو لم يقضها، يعدك الصادق المصدوق بما وعد به ربه أن يكتب لك أجر اعتكاف شهر، وفي رواية شهرين في المسجد النبوي الشريف، وبارك على صاحبه وساكنه، وجمعنا به في الفردوس الأعلى الصالحات، وآخر دعوانا أنّ الحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات.

-        دواء البخل:

أليس دواءٍ البخل والشح رصد مبلغ بالآلاف فرضاً على من نوى الحج؛ ليكون فوق زكاة ماله حق لله – عزّ وجلّ – ليعرف أن من رضي الله عليه أن ينخلع من بعض ماله، ليؤكد أنّ المال مال الله، وأنّه ما دام مستطيعاً فعليه فرض آخر غير الزكاة، ولو مرّة في العمر بنفقة حج حلال تجبره على تحري مصدر ماله، وإلا ضاع حجه وجهده وماله.

أليس من دواء الكبر والغرور أن يسير في ركب المسلمين لا يميز شيئاً من لباس ولا مظهر ولا حركات ولا شيئاً يفضله في حجه من زاد في تقواه عنه، ولو كان عبداً حبشيّاً كأن رأسه زبيبة، رغم أدائه نفس الشعائر، وقضائه نفس الأعمال في نفس الأوقات.

أليس من دواء الرياء الناجع أن تجد بجوارك أو قريباً منك من كنت ترائيه أو يرائيه الناس فقيراً محتاجاً، يطلب مثلك من ربه الذي يتوجه إليه الجميع بالطلب، وبالقصد والنية، فكيف يرائيه بعد ذلك وقد رأى بعينيه فقره وحاجته وذله بين يدي خالقه؟ ومَنْ مِنَ الناس يرائي الناس في هذا المقام، والكل يقول: نفسي نفسي، ولا يدري أيقبل منه أم لا؟

أليس من دواء المتعجل المتسرع أن يجبر على الرؤية والسكينة في طوافه طوال الأربعة أشواط الأولى، يؤمر بالهرولة ليس عندما يريد هو، ولكن عندما يحل مكان وموعد الهرولة الذي حدده رسول الله (ص)، وكذلك عن سعيه بين الصفا والمروة لا يهرول إلا لسبب اقتدائه بأُمّه هاجر، فلا هرولة إلا بسبب وفي طاعة: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) (طه/ 84)، يمشي في بقية الطريق؛ لأنّ الأصل سير الهوينى (... يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا) (الفرقان/ 63).

-        حماية المرأة:

وهنا لفتة لحرص الإسلام على حماية المرأة، فما كشف بعض ما خفي من زينتها؛ رغم أنّ أُمّنا هاجر هي التي هرولت، ولكن لم يكن معها أحد، أمّا هي الآن فهي بين رجال لا يليق بها أن تهرول، وقد بنى أمرها على الاستتار، فكيف بما هو أكثر من ذلك، فلا يلزمها الشرع بهذا الأمر.

أليس من دواء أمراض النفس البشرية الخاملة الكسولة المتراخية في أداء التكاليف أن تؤمر بالهرولة للتدريب على شحذ الهمم التي يظهرها بجلاء طبيعة ملابس الإحرام التي تبرز اليد، والذراع الأيمن في همة، ونشاط "رحم الله أمرأً أراهم اليوم من نفسه قوة".

أليس من دواء أمراض النفس البشرية من شهواتها التي يتدرب على السيطرة عليها في رمضان، فيأتي الحج يجبر كل مسلم ومسلمة على الإمتناع عن مباحات فترة أطول وهي حلال طيلة حالة الإحرام ومدة الإحرام، بل ويتدخل في أمور عظيمة تشعر بالإلتزام في الطاعة ولو في أبسط الأمور، نتف شعرة أو قص ظفر.

أليس من أمراض الفرد المسلم القعود عن الجهاد في سبيل الله تعالى إيثاراً للدعة وركوناً للدنيا، فيأتي الحج بجهد ومشقة يجاهد فيها نفسه وماله، بل هو للمرأة يعدل الجهاد عند الرجل؟

أليس من أمراض المسلم ترفهه وتنعمه، فتأتي مناسك الحج لتفرض عليه خشونة العيش والتقشف والتخفيف من المتعة والزينة والرفاهية؟

-        التعرف على التاريخ:

أليس من أمراض المسلم إهماله لتاريخ دينه ودعوته ورسالة نبيه (ص)، فتجبره مناسك الحج على أن يتعرف على جده إبراهيم، وجدته هاجر، وأبيه إسماعيل، وسيرة حبيبه (ص) وشهداء أحد وشهداء بدر وغار ثور، وغار حراء، وحصون اليهود، وجلائهم في كل موقعة، وهذا نخل سلمان الفارسي الذي غرسه رسول الله (ص)بيديه لمكانه من سيده، وهكذا عاش رسول الله (ص)، وهنا مات ودفن، وهذا أبو بكر، وهذا عمر – رضي الله عنهما – وهنا البقيع، وهنا المصلى؛ حيث صحابة رسول الله لقوا ربهم بعد جهادهم الطويل، واسترواح عبير الدعوة الإسلامية في طرقات مكة، وجنبات المدينة كلها، وحتى أبواب الحرم بأسمائها الإسلامية الأصلية وليس المستحدثة، تذكر المسلمين بتاريخ قبائل مكة المسلمة، وشخصيات الصحابة الأجلاء.

باب جبريل وباب العمرة وباب السلام وباب الصفا وباب المروة، فيجبر المسلم إجباراً أن يتعلّم ويتعرف على تاريخه الإسلامي الذي يحب أن يعتز به ويفخر، ولا يخضع لمؤامرات أعداء دينه بتجهيله، وطمس تاريخ أُمّته وتحريفه أو تزييفه، ولكن تظل هذه البقاع الطاهرة تاريخاً حيّاً لا يقدر على طمسه عدو ولا حاقد، فنور الله قد أضاء على هذه البقاع، فأضفي عليها كرماً وتكريماً وتشريفاً وتعظيماً وبرّاً ومهابةً، فأصبحت مكة المكرمة، بل نال كل من حج، أو اعتمر تشريفاً وتعظيماً ومهابةً وبرّاً بدعاء كل الحجاج والعمار له.

ارسال التعليق

Top