• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الرقابة الذاتية للنفس

عمار كاظم

الرقابة الذاتية للنفس

من خصائص شهر رمضان أنه يجدِّد للإنسان نفسه، ليجلس مع نفسه بين يدي ربه، ليفهم نفسه في نفسه، وليفهم موقعه وموقفه من ربه، وهذا ما نلاحظه في كلِّ ما حشد الله تعالى فيه من القرآن أو ما أتى به من عناصر العبادة في الصيام والصلاة والدُّعاء، فالمسألة هي مسألة مراقبة النفس، لأنّ الإنسان الذي يعيش الغفلة في حياته بفعل استغراقه في لذَّاته وشهواته وأشغاله وعلاقاته العامة، لا يلتفت إلى نفسه من هو، لماذا يفعل هذا الفعل ولماذا ينشئ هذه العلاقة، ولماذا يؤيد هذا ويرفض ذاك؟ إن الكثيرين منّا يتحركون تماماً كالإنسان الذي تنقله أمواج البحر من مكان إلى مكان دون أن يكون له الحرية في اختيار ذلك. فهذا الشهر هو شهر تأمّل وتفكّر، حيث يعيش الإنسان في البداية الإحساس بأنّ هناك رقابةً تنفذ إلى كلِّ كيانه من الله تعالى، فهو مكشوف أمام الله بكلِّه. وقد نشعر بالأمان عندما نفكِّر، سواء كان التفكير تفكير خير أو تفكير شر، أنّه ليس هناك من ينفذ إلى داخل أفكارنا وقلوبنا عندما تنبض بالخير أو بالشر، ليس هناك من ينفذ إلى داخل دوافعنا النفسية عندما نريد أن نعمل عملاً أو نترك آخر بدافع معين، ولذلك يشعر الإنسان بالحرية لأنّه ليس عليه رقيب. ولكن الفكرة الدينية تقول لك إن الله تعالى يراقبك وأنت تفكر، وأنت تتفاعل شعورياً، وأنت تندفع في نيّاتك بالخير أو بالشر: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً) (الأحزاب/ 52)، حتى الملائكة يسجّلون كلّ ما يصدر منك: (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق/ 18)، وحتى أعضاؤك يسجِّل كلٌّ منها ما يتمثَّل فيه من العمل، وهذا ما نستوحيه من دُّعاء كميل: «وكلّ سيئة أمرت بإثباتها الكرام الكاتبين، الذين وكّلتهم بحفظ ما يكون مني، وجعلتهم شهوداً عليّ مع جوارحي، وكنت أنت الرقيب عليّ من ورائهم، والشاهد لما خفي عنهم».

هذه الفكرة، فكرة اطّلاع الله على الإنسان وهو يفكِّر ويخطِّط، تجعله يشعر بالرقابة، فيعصمه ذلك عن التفكير بالشرّ: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر/ 19)، والصدور هي كناية عن العقول، فالله يعلم ما تخفيه في صدرك من الأسرار والأفكار التي لم يطّلع عليها أحد. لذلك على الإنسان أن يبدأ في هذا الشهر بصنع ذاته، بأن يبدأ بمحاسبة نفسه، في ما يفكِّر من المسائل العقيدية والانتمائية، وما إلى ذلك من الأمور التي تنطلق من خلال فكرٍ يجعله يقف موقفاً إيجابياً هنا وسلبياً هناك، ثم أن يصنع عاطفته عندما يحبّ ويبغض. ربما كنا نحبّ ونبغض تأثّراً بالبيئة التي عشنا فيها، فلو رجعنا إلى أنفسنا، فإنّنا نجد أنّنا لا نختار حبّنا ولا بغضنا، بل لأنّ أهلنا يحبون هذا أو يبغضون ذاك، لذلك علينا أن نعرف أن حبنا وبغضنا ينعكس علينا سلباً أو إيجاباً، فالذين يفرضون علينا الحبّ والبغض، لا يتحمّلون مسؤولية ذلك لا في النتائج السلبية ولا في النتائج الإيجابية، كما يقول الإمام عليّ (عليه السلام): «لا يغرّنّك سواد الناس عن نفسك، فإنّ الأمر يصل إليك دونهم». ويقول الإمام الكاظم (عليه السلام): «ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم ـ كما تحسب حساب المال الذي حصلت عليه، فإن عليك أن تحسب حساب الأعمال التي فعلتها ـ فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه». وقد ورد في تقسيم الزمن أنّه ينبغي أن يكون للمؤمن ثلاث ساعات: «ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يرمّ فيها معاشه ـ يحصّل فيها معاشه ومعاش عياله، ليتحمّل مسؤوليته تجاه حاجاته الشخصية وحاجات عياله ـ وساعة يخلّي بين نفسه وبين لذّتها في ما يحلّ ويجمل، فإنّها عونٌ على تينك الساعتين».

هذا الشهر هو شهرُ المراقبة، أن تراقب نفسك لتفهمها، وشهر المحاسبة، أن تحاسب نفسك في كلِّ عمل، ثم إذا حاسبتها فهناك المحاكمة بأن تحكم لها وعليها، وهناك المجاهدة بأن تجاهد نفسك فتمنعها عن الشرّ وتوجّهها إلى الخير. لذلك علينا أن نخرج من هذا الشهر بعقلٍ جديد ليس فيه إلّا الحق، وقلب جديد ليس فيه إلّا المحبة والخير، وحركة جديدة ليس فيها إلّا ما يرضي الله، ولا شيء إلّا لله تعالى.

ارسال التعليق

Top