• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الرقيّ الإيماني في شخصية الإمام السجّاد (عليه السلام)

عمار كاظم

الرقيّ الإيماني في شخصية الإمام السجّاد (عليه السلام)

قال الله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 133-143). في كلمة للإمام زين العابدين (عليه السلام) ـ هذا الإمام الذي تمرّ ذكرى ولادته في شهر شعبان المبارك ـ وهو يتحدّث عن أحبّ الأشياء إلى نفسه، قال: «ما تجرّعت من جرعةً أحبّ إليَّ من جرعة غيظٍ لا أكافئ بها صاحبها». فقد اعتبر الإمام (عليه السلام) أنّ أحبّ الأشياء إلى نفسه، هو أن لا يبادل الإساءة بمثلها، بل أن يبادلها بالإحسان منه. وهذا السلوك هو الذي طبع شخصية هذا الإمام (عليه السلام)، من بين العديد من المزايا التي اتّصفت بها شخصيّته، فقد كان زيناً للعابدين، وسيِّداً للساجدين لكثرة سجوده وعبادته، وكان محبّاً للفقراء، وهو الذي كان يقول (عليه السلام): «اللّهُمّ حبّب إليَّ صُحبة الفقراء، وأعنّي على صُحبتهم بحسن الصبر». وكان إذا جنّ الليل، وهدأت العيون، ونام الناس، خرج من بيته حاملاً الطعام على ظهره للفقراء كي لا يقضوا ليلتهم جائعين.

ومن المزايا والمواقف التي تميّز بها (عليه السلام) كظم الغيظ، والعفو، ومبادلة الإساءة بالإحسان. وقد برزت هذه المزايا لدى الإمام (عليه السلام) في تعامله مع مختلف تنوّعات المجتمع؛ مع العبد والسيِّد، ومع القريب والبعيد، والحاكم والمحكوم، ليؤكِّد الطابع الشامل لها. ومن مواقفه (عليه السلام) مع أحد أقربائه الذي كان يحسد الإمام (عليه السلام) ويحقد عليه، ما دفعه يوماً إلى أن يتهجّم عليه، ويصفه بنعوت مسيِّئة، وعلى مرأى من أصحابه، فلما انصرف، قال لأصحابه: «لقد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا أحبّ أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا ردّي عليه!». وهم لا يشكّون أنّ ردّ الإمام (عليه السلام) سيكون قاسياً. ولكن في الطريق، سمعوه يقول: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، فعرفوا أنّ الإمام (عليه السلام) لا يريد ما كانوا يتمنّون. فلمّا وصل الإمام (عليه السلام) إلى بيت ذلك الرجل، خرج متوثّباً للشرّ، لكنّ الإمام هدّأ من روعه وقال له: «يا أخي، إنّك كنت قد وقفت عليَّ آنفاً، فقلت وقلت، فإن كنت قلت ما فيَّ، فاستغفر الله‏ منه، وإن كنت قلت ما ليس فيَّ، فغفر الله‏ لك».. كلمات قليلة كانت كافية لتهزّ أعماق هذا الرجل، ولتجعله يعيد النظر في موقفه من الإمام (عليه السلام)، وليقول له: بل قلت فيك ما ليس فيك وأنا أحقّ به. أنا المخطئ وأنا الجاني. أرجو أن تعفو عني، وأن تستغفر لي ربَّك. وصار هذا الرجل من بعدها من أخلص الناس للإمام (عليه السلام).

وموقف ثان مع أحد مواليه ـ والمقصود أحد عبيده. ومن المعروف عن الإمام زين العابدين (عليه السلام)، أنّه كان يشتري في كلّ عام عبيداً، ليعتقهم في موسمين؛ في شهر رمضان، وفي يوم عرفة، إذ تذكر السيرة أنّ عدداً من الضيوف حضروا إلى الإمام (عليه السلام)، فآثر الإمام أن يعدّ لهم شواءً، فاستعان بهذا العبد ليعينه على تحضير الطعام ويقوم بالشواء، وعندما حلّ وقت الطّعام، تعثّر هذا الخادم، وهو يحمل السّفود الشديدة الحرارة، بعد أن أخرجها من التنور ـ والسّفود هي الأسياخ الطويلة التي كان يوضع فيها اللحم ـ فسقطت على رأس ابن صغير للإمام (عليه السلام)، فاحترق بسببها، فتغيّر وجه العبد، وأصابه الهلع من رهبة الجزاء. لكنّ الإمام (عليه السلام) قال له: «هوّن عليك، فإنّك لم تتعمّد ذلك». ولم يكتفِ الإمام (عليه السلام) بذلك، بل قال له: «اذهب فأنت حرّ لوجه الله».

لقد أراد الإمام (عليه السلام) من خلال مواقفه أن يعزّز قيمة الإحسان إلى الآخرين؛ هذه القيمة التي يحبّها الله ويحبّ مَن يقوم بها، أيّاً كان هذا الإحسان، والتي جعلها سبحانه وسيلةً لبلوغ الموضع المميَّز، عندما قال: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة/ 195)، وقال: (إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف/ 56)، وقال: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (يونس/ 26). ولا تتوقّف قيمة الإحسان عند الأصدقاء أو الأحبّة أو مَن يحسنون إليه، بل إنّها ترقى إلى أن يُحسن الإنسان حتى إلى الذين أساؤوا إليه، وهذا ما أشار إليه الله سبحانه عندما قال: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصّلت/ 34-35). فالإحسان في الإسلام إلى الذين أساؤوا، هو تعبير صادق عن عمق الإيمان، وهو ارتقاء في سلَّم الإنسانية، ولا يبلغها (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). وبالإحسان يملك الإنسان قلوب الناس، ويحوّل الأعداء إلى أصدقاء.

ارسال التعليق

Top