يعرف الجميع أنّ من أهم ما يُميِّز الشيخوخة ما يُصيب ذاكرة كبار السن، حيث يأخذون في نسيان كلّ شيء، ولا يقتصر النسيان على ذكرياتهم القديمة أو بعض المناسبات والمواعيد الهامّة، بل يمتد ليشمل أسماء أصدقائهم وأفراد عائلتهم، حتى بات النسيان وضعف الذاكرة مرتبطاً بالشيخوخة رغم أنّ كلّ الناس صغاراً وكباراً قد لا يذكرون بعض الأشياء في كثير من الأحيان.
ويضحك الإنجليز من ظاهرة النسيان في المسنين رغم أنّها شرّ البلية في الشيخوخة، فيقولون إنّ أحد المسنين كان يتحدّث مع زميل له في هموم السن، فقال له: "إنّ في هذه السن التي نعيش فيها ليس أمام الواحد منّا ما يفعله سوى أن يعيش في ذكريات الماضي".
فردَّ عليه زميله العجوز قائلاً: "حسناً.. ولكن كيف ونحن لا نستطيع أن نذكر أي شيء من هذا الماضي؟".
ويقولون بأنّ أحد المسنين كان يجلس مع مجموعة من رفاقه وأخذ يُوجِّه لهم النصائح للتغلب على متاعب الشيخوخة والاستمتاع بالحياة حتى نهاية العمر، فقال من فعلاً: حسناً.. "هناك أشياء ثلاثة هامة جداً تجعلنا نستمتع بالحياة، وعليكم أن تُفكِّروا بها كما فعلت أنا، هذه الأشياء هي الحب والسعادة و... و..."، ثمّ توقّف قليلاً وقال: "لا أذكر الثالثة!!".
كما يضحك المصريون على أحد كبار السن الذي طلب من طبيبه دواء يساعده على النسيان، فسأله الطبيب: "وماذا تريد أن تنسى؟"، فأجاب: "مش فاكر!".
إنّ تدهور الذاكرة في الشيخوخة أمر هام، وهو جد لا هزل فيه، وهو بلية حتى إذا بعث أحياناً على الضحك. والحقيقة أنّ أشياء أخرى يصيبها التدهور في نفس الوقت بعث أحياناً على الضحك. والحقيقة أنّ أشياء أخرى يصيبها التدهور في نفس الوقت منها السمع والبصر والحركة.. وأمر هذه قد يهون، فالسماعات الطبية قد تساعد على السمع، والنظارات قد تساعد على الإبصار، والحركة قد يحل مشكلتها جزئياً استخدام عصا أو كرسي متحرك؛ لكن الذاكرة لا يوجد لها حتى يومنا هذا أي شيء يساعد على استرداده أو دواء ضدّ النسيان.
ووظيفة الذاكرة تتكوّن من مراحل ثلاث: الأولى هي تسجيل المعلومة سواء كانت واردة إلينا بالسمع أو بالمشاهدة، ثمّ اختزانها في الذاكرة، وأخيراً استدعاء هذه المعلومة عند الطلب، وهذه العملية تشبه ما يحدث بالكمبيوتر حيث يفترض أنّ المعلومات بعد رصدها توضع في ترتيب خاص أشبه بأرفف محلات البقالة أو علب الدواء بالصيدلية، حيث يتجمّع كلّ نوع في مكان مُحدَّد يسهل الوصول إليه عند طلبه، وتماماً مثل ما يحدث حين نطلب الدواء من الصيدلي فيتجه إلى مكان مُحدَّد يجده فيه ويحضره، فإنّ الذاكرة في الأحوال العادية يعني أنّنا حين نتذكّر أي شيء سواءً كان معلومة أو اسم شخص أو مكان، فإنّنا – بعملية تلقائية – يمكن أن نصل إلى ما نريد فوراً من بين ما تزدحم به الذاكرة من مواقف ومعلومات وأسماء تمّ تسجيلها واختزانها بها منذ بداية عهدنا في الحياة، ويصيب الاضطراب هذه العملية التلقائية في الشيخوخة، وأكثر المراحل تأثراً تكون مرحلة استدعاء المعلومات، فنرى الشخص المسن يبذل جهداً ليتذكّر اسم شيء ولا يستطيع؛ ولكنّه قد يذكر هذا الشيء في وقت آخر حين لا يحتاج إلى ذلك!
وتنقسم الذاكرة إلى ثلاثة أنواع حسب طبيعة الشيء الذي نتذكّره، فالأحداث التي حدثت منذ زمن بعيد يطلق عليها الذاكرة البعيدة.. أمّا التي حدثت قريباً في خلال ساعات أو أيام، فيطلق عليها الذاكرة القريبة. والنوع الثالث هو الذاكرة الحالية التي تتعامل مع ما يحدث في نفس اللحظات. وفي الشيخوخة، فإنّ تدهور الذاكرة لا يؤثر في القدرة على تذكر الأحداث البعيدة، فترى الشخص المسن يتذكّر مواقف حدثت في طفولته وصباه وهو الذي تعدّى الثمانين، بينما تراه يعجز عن تذكر طعام الإفطار الذي تناوله في صباح نفس اليوم!
ومشكلة نسيان الأسماء والمواعيد والمعلومات رغم أنّها قد تبدو ثانوية أو أقل شأناً من مشكلات الشيخوخة الأخرى التي تتسبب في العجز والإعاقة وتهدِّد حياة المسنين، إلّا أنّ ما يصيب الذاكرة من تغيير قد يأتي في مصاف الأولويات بالنسبة للذين يؤدُّون أعمالاً ذهنية، فالكاتب أو المؤلف الذي يعدّ الكُتُب، والعالم الذي يجري التجارب، والمحامي الذي يعدّ المذكرات، هؤلاء قد يكون النسيان وتدهور الذاكرة بالنسبة لهم أسوأ من أي مشكلة أخرى، والسؤال الآن: هل من حل لهذه المشكلة؟
الإجابة أنّه لا يوجد دواء من شأنه أن يحل هذه المشكلة، فلا توجد حتى يومنا هذا حبّة يتناولها الإنسان فتنشط قدرته على تذكر ما ينساه من أحداث وأسماء ومعلومات؛ لكن الحل الممكن يكون بتطبيق بعض الخطط التي تساعد الذاكرة حين تتأثر وظيفتها في السن المُتقدِّم، ومن الأفضل الاهتمام بهذه (الاستراتيجية) في سن مبكر حتى تكون جاهزة للاستخدام في الشيخوخة لأنّ صغار السن أيضاً قد ينسون في ظروف معيّنة.
وفيما يلي عرض لبعض الجوانب العملية للمشكلات والحلول فيما يختص بموضوع ضعف الذاكرة والنسيان.
من خلال العمل مع المسنين والحديث معهم، نلاحظ أنّ نسيان الأسماء هو أمر يشترك فيه الكثير منهم، فمنهم مَن ينسى أسماء أصدقائه، ومنهم ينسى اسم الطبيب، ناهيك عن أسماء الشخصيات العامّة، ويصل الأمر ببعضهم أن ينسى أسماء أفراد أُسرته أو يخلط بينها.. ورغم أنّ هذا النسيان لا يكون مطلقاً، بل يحدث في مناسبة معيّنة ثمّ يستطيع تذكّر نفس هذه الأسماء دون مناسبة في اليوم التالي مثلاً، إلّا أنّ ذلك يتسبب لهم في مواقف تدعو للخجل، فتخيل حين يحاول أحد كبار السن تقديم شخص أمام أُناس آخرين لا يعرفونه وينسى الاسم في هذه اللحظة!
إنّ الحل يكون بالتخلص من الخوف من النسيان الذي يكون في الغالب السبب المباشر الذي يجعل المسن ينسى ما يعتبر معروفاً لديه، ويمكن حل مثل هذه المواقف الحرجة كما يفعل الكثير من المسنين بلباقة حين يتذرّعون بالسن فيقوم الآخرون بمساعدتهم على تذكر الاسم الذي يحاولون تذكره، وبدلاً من الاجتهاد لتذكر اسم صديق نلتقي به بعد طول غياب طويل، يمكن حل هذا الموقف بأن نُقدِّم نحن اسمنا له حتى يذكر هو أيضاً اسمه، فقد يكون هذا حلاً مناسباً للموقف.
وثمة مشكلة أخرى يشكو منها كبار السن الذين يطلب إليهم الحديث في أحد الموضوعات وتناول تفاصيله، فتكون هذه المهمّة بالنسبة لهم عسيرة للغاية، فمن ناحية فإنّ الحديث الذي يتطلّب التركيز وعرض أفكار متتابعة يكون من الصعب على المسن في ظل حالة الذاكرة في الشيخوخة، وبطء التفكير. ومن ناحية أخرى، يصعب متابعة نفس الموضوع عند الحديث فيه ارتجالاً وقد ينتقل الحديث إلى موضوع آخر يصعب العودة إلى الفكرة الأولى التي تضيع من الذاكرة، والحل لهذا الموقف أنّ على كلّ المسنين خصوصاً الذين يقومون بأعمال ذهنية أن يعلموا أنّ الأفكار ليست كالثمار اليانعة التي تتدلى من شجرة الفاكهة ويمكن أن نقطفها من العقل وقت نشاء.. إنّها تذهب وتأتي وعلينا أن نقطفها حين تجيء ونُدوِّنها ونضعها في مكان مناسب حتى نستخدمها. إنّ الحل هو في عدم الاعتماد الكلّي على الذاكرة، بل علينا أن نُدرِّب أنفسنا حتى قبل بلوغ مرحلة الشيخوخة على الإعداد المسبق للمواقف والاعتماد على التدوين وعمل (البروفات) للموقف حتى نعتاد عليها.. وإذا كان الحديث مرتجلاً، فالأفضل الاختصار واستخدام جمل قصيرة حتى لا تشرد عن الموضوع.
والمشكلة الأخرى التي يشكو منها المسنين – وأحياناً صغار السن أيضاً – هي نسيان المواعيد أو عدم تذكر عمل بعض الأشياء في وقتها، فكثير من الأشياء يجب عملها في وقت محدد وعلينا أن نتذكّرها، مثال ذلك دعوة على الغذاء لدى صديق، أو زيارة الطبيب، أو مشاهدة مباراة رياضية، أو بعض الأعمال مثل السيِّدة التي يجب أن تخرج الطعام المجمد من الثلاجة قبل الطهي بساعتين.. ونسيان هذه الأمور قد يدعو للإحباط حتى وإن لم يترتب عليه أي أضرار جسيمة، والحل ببساطة هو استخدام مفكرة جيب لتدوين هذه المواعيد، إنّ ذلك قد يكون غير مستساغ؛ لكن التعوّد عليه سيجعله أمراً معتاداً وقد يكون ممتعاً، وأفضل من ذلك في المنزل أن نعلق على الحائط في مكان واضح لنا واحدة من تلك النتائج الكبيرة مثل تلك التي توزع للدعاية ونضع ملاحظاتنا بخط واضح وليكن بقلم أحمر بجانب التاريخ لنتذكّر ما نريد.
وثمة طريقة أخرى طريفة كان يتبعها أحد المسنين وكان لا يعرف القراءة والكتابة كي يتذكر مواعيد تناول أقراص الدواء في الصباح والمساء، حيث كان يضع حبوب الصباح بجانب ملابسه التي يرتديها حين يصحو من نومه، وحبوب المساء مع فرشة الأسنان التي يستخدمها قبل أن ينام.. إن ابتكار مثل هذا الأسلوب للربط بين شيء وآخر يساعد على التغلب على النسيان.
وحالات أخرى شائعة للنسيان بيننا جميعاً، وفي المسنين بصفة خاصّة، تلك هي: أين وضعنا الأشياء؟ فالمفتاح مثلاً قد نبحث عنه في مكان ولا نجده، والنظارة مشكلة أخرى لأنّنا حين نبحث عنها نحتاج إلى النظارة لكي نراها، وهذه مشكلة كلّ مَن يعتمد على النظارات الطبية مثلي، قد يكون الحل هو باتباع النظام بتحديد مكان لكلّ شيء، ووضع كلّ شيء في مكانه؛ لكن من الأمور الطريفة في هذا الموضوع أنّنا نحتاج أحياناً إلى إخفاء بعض الأشياء في مكان لا يعرفه الآخرون وأحياناً يتفتق الذهن عن مكان لا يخطر على بال أحد لنخفي به الأشياء الثمينة والمشكلة التي تحدث هو أنّنا قد ننسى نحن أنفسنا هذا المكان، ولعلّ حكايات كثيرة مألوفة تروي أنّ بعض المسنين الأذكياء يحاولون إخفاء ثروتهم في مكان غريب وسط المهملات أو يدسون النقود في الكتب القديمة لإخفائها عن أعين اللصوص، والغريب حقاً أنّ اللصوص أصبحوا يتوقّعون هذه الأماكن غير المألوفة ليبحثوا فيها عن الأشياء الثمينة في بيوت المسنين!
والحل المقترح كي نتعرّف على أماكن الأشياء ونتجنّب نسيان موضعها في المنزل، يمكن أن نتعلّمه أيضاً من اللصوص أو القراصنة الذين يخفون الكنز في باطن الأرض؛ لكنّهم يقومون بعمل خريطة لمكانه يحتفظون بها، وهذا ما يمكن عمله في المنزل أيضاً بعمل رسم أو خريطة خاصّة معنا لمواقع الأشياء الهامة نرجع إليها إذا غابت عن ذاكرتنا، وهذه مجرد فكرة، وعلى كلّ واحد منّا أن يحاول تطبيق مثل هذه الأفكار التي تساعد الذاكرة، وقد حكى لي أحد الأساتذة المتقاعدين وكان يقوم بالتأليف والكتابة الصحفية أنّ بعض الأفكار كانت تأتيه أحياناً في منتصف الليل وهو في الفراش، فاحتفظ معه ببطارية إضاءة صغيرة وجهاز تسجيل حتى يسجلها في وقتها قبل أن تذهب ولا تعود!.
الكاتب: د. لطفي الشربيني
المصدر: كتاب الزهايمر.. مرض أرذل العمر
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق