• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الشكر في القرآن

السيد هاشم الموسوي

الشكر في القرآن

(وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ  ) (لقمان/ 14).

الشكــر.. يعرف:

وفي كلّ موقع من مواقــع البيان والتربية والثقافة القرآنية نجده معنياً بالاخلاق والتربية الاخلاقية، وبالتعامل مع الاخر.. ذلك لانها المشكلة الكبرى في العلاقات الاجتماعية وفي السلوك البشــري.. كما يحدد للانسان منهج العلاقة مع الله سبحانه.. بل ومع الطبيعة والاحياء فيها.. وهكذا فان قراءة المحتوى القرآني توصلنا الى ا ن القران حدد للانسان منهج العلاقة مع الله سبحانه.. ومع الاخر من النــاس.. ومع الطبيعة والاحياء فيها.. وبذا استوعب بمشروعه الكبير نظام الحياة، وكيفية التعامل مع الوجود..

الله سبحانه هو مصدر الوجود وهو مصدر الخير والعطاء والاحسان في هذا العالم.. لذا استحق الشكر.. لانه المنعم على الانسان.. ووسائل الشكر وادواته والياته متعددة.. منها الكلمة الشاكرة.. ومنها العمل والتعامل مع صانع المعروف برد الجميل اليه او بصنع ما يجلب الشكر عنده.. ومنها الشعور والاحساس الوجداني واعتراف الضمير..

والقرآن يريد ان يربى الانسان تربية اخلاقية متسامية.. يريده ان يكون شكوراً او شاكراً.. معترفاً باحسان من احسن اليه.. لينقذه من اخلاقية التنكر والجحود وكفران المعروف ونكرانه.. بل من مقابلة الاحسان بالاساءة.. تلك الاخلاقية التي اوردت الناس تجربة مرة حتى قالوا: (( اتق شر من احسنت اليه))

او تلك الاخلاقية  المتردية التي صاغتها شعراً فجاءت مثلا:

ومن يصنع المعروف في غير اهله*****يلاقي الذي لاقي مجير ام عامر

ان القرآن يثبت قاعدة كلية لمقابلة المعروف بالمعروف.. والاحسان بالاحسان.. والفضل بالشكر والامتنان.. نقرأ هذه القاعدة في قوله تعالى:

( هل جزاء الاحسان الا الاحســان)

ان من جزاء الاحسان والمعروف ان يقابل فاعله بالشكر.. الشكر بالقلب واللسان والعمل المعبّر عن اداء الشكر لصانع المعروف..

ان المجتمع البشري بحاجة الى اخلاقية مقابلة الاحسان بالاحسان.. بل يدعو القران الى مقابلة الاساءة بالاحسان.. ان اخلاقية الشاكرين وكلمة الشكر واداء الشكر المقابل للمعروف المسدي للانسان ترزع في النفوس الحب المتبادل.. والتشجيع لاهل المعروف والاحسان باسداء المعروف الى الاخرين.. ان النفسية الشاكرة تعبّر عن الرضا والحب والشعور بتعاطف الاخرين، وسلامة البنية النفسية من التعقيد والتعالي والانانية .. 

ان الشكر يعُبر عنه بالكلمة التي تزرع المودة والحب والعلاقة الطيبة، وتؤسس لعلاقات اجتماعية متنامية.. ويعبر عن الشكر بالعمل المقابل فيعمل المعروف لمن اسدى اليه معروفاً، رداً لمعروفه وتعبيراً عن الشكر له..

ان الشكر كله يجب ان يكون لله تعالى، فهو الذي خلق وانعم وافاض الخير والنعم على هذا الانسان فاستحق الشكر..

اننا نجد نعمة البصر والسمع، ونعمة النطق وسلامة اللسان.. ونعمة المعافاة، ونعمة الزوجية الصالحة والابناء الصالحين والحياة العائلية الهانئة.. ونعمة المحبة والمودة للآخرين.. نحن نصبح اصحاء في اجسادنا.. امين في اوطاننا.. مطمئنين على رزقنا.. سالمين من السوء والمكروه.. سعداء في اسرنا..

قد مّن الله علينا بحسن الخلق، وبطاعة الرحمن.. وبالقبول والاحترام في المجتمع.. وجنبنا المعاصي والجرائم وافعال السوء.. واختار لنا نعمة الايمان.. وكل ذلك فضل يحتاج الى الشكر..

ويتحدث القرآن في العديد من آياته عن الشكر وجزاء الشاكرين.. ويصف نفسه سبحانه بانه شاكر لكل خير يفعله الانسان بالتقرب اليه سبحانه.. بل هو شكور، كثير الشكر وعظيمه..

(مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ) (النساء/ 147).

ان معنى شكر الله هو تقبله وتكريمه لهذا الفعل ورضاه عنه والمجازات عليه بالخير والثواب وبالمزيد من العطاء وادامة النعم.. نقرأ ذلك في قوله تعالى: ((لئن شكرتم لازيدنكم)) تراجع

ويتحدث القرآن في الشكر، ويوضح للانسان ان المستحق للشكر هو الله، والوالدين.. وكل من يعمل المعروف.. بل ويقرن شكر الوالدان بشكره.. واذا فلنقف بين يدي القرآن ولننصت لما يتلى:

((وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ )) (لقمان/12).

نقف امام المعنى الذي حملته هذه الاية الينا، وهو ايتاء لقمان الحكمة وعلاقته بالشكر الذي امر به لقمان: (ان اشكر الله)..

فان العلماء يعرفون الحكمة بقولهم: ((والحكمة اصابة الحق بالعلم والعقل))

فالحكيم من يصيب الحق بفعله وقوله.. منطلقا من معارف العلم والعقل السديد.. ومن هذا الحق الذي يصيبه الانسان هو الشكر لله وللوالدين.. وبذلك يعظم الله سبحانه حق الوالدين ويقرنه بحقه، فيرتقي بعلاقة الابوة وحق الابوين الى هذا المقام السام؛ ليقول للانسان ان صاحب الفضل الذي يجب ان تعترف له وتشكره هو الله سبحانه.. وبعد ذلك ان تشكر لوالديك.. وبذا يؤسس  علاقة الشاكرين بين الانسان وخالقه وبين الانسان ووالديه.. فلم يزل ينظر لهما بعين الشكر وبضمير الشاكرين وباحساس الفضل والاحسان، ليرد عليها بعض الفضل والاحسان.. وبذا يحكم بناء الاسرة والعلاقة الاسرية.. فالابوان هما الاصل الذي نتج عنه هذا الانسان، وهما مصدر الرحمة والحب والعطاء للابناء والام هي من حملته في بطنها وغذته من دمها ولبنها، وسهرت عليه الليالي، ووهبتها قلبها وحبها، وتحملت الالام والمتاعب من اجل راحته وسلامة حياته؛ لذلك خصها القرآن بالذكر بعد التعميم: (حملته امه وهنا على وهن وفصاله في عامين).

لذلك ثبت القرآن الوصية بالوالدين واصدر كتاب الشكر لهما.. جاءت هذه الوصية وتسجيل الشكر في جميل قوله تعالى: ((ووصينا الانسان بوالديه حملته امه....))

وفي موارد عديدة من آياته المشرقة يذكر القرآن بالنعم وبفضل الله على الانسان، ويدعوه الى تذكر النعم والى اعلان الشكر والثناء الجميل على الله سبحانه..

ويُذكرنا القرآن بما وهبنا الله سبحانه من وسائل وادوات تكتسب بها العلم والمعرفة ونتفاعل مع محيطنا وندرك العالم من حولنا ولولاها لكنا كالجماد..

نقرأ من هذه الابيات:

(ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ ) (السجدة/9).

(وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (النحل/78).

(وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ ) (المؤمنون 78).

(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ) (الملك/ 23).

لنقف امام هذا التكرار في النصوص والمفاهيم.. فقد جاء التذكير بنعمة العقل والسمع والبصر اربع مرات وبالالفاظ ذاتها واستعمل القران لفظة (الانشاء) للسمع والبصر والافئدة مرة واحدة واستعمل لفظة الجعل للسمع والبصرة والافئدة ثلاث مرات ولغة العرب تفرق في المعنى بين الجعل والانشاء..

فالانشاء في اللغة كما يقول اللغويون: هو ايجاد الشيء وتربيته

والفعل جَعَلَ: هو لفظ عام في الافعال كلها، وهو اعم من فعل وصنع وسائر اخواتها..

وهذا الاهتمام القرآني في اربع ايات بالحديث عن السمع والبصر والابصار والافئدة ودعوة الانسان الى الشكر.. بل وتأنيب من لم يشكر هذه النعم.. ذلك لان السمع والبصر والفؤاد هي الادوات الاساسية للمعرفة ولاتصال الانسان بالعالم الخارجي وفهمه والتواصل مع المخلوقات بصورة عامة ومن المجتع الانساني بصورة خاصة..

ويسترسل القرآن في الفات نظر الانسان ووعيه الى ما حوله من نعم، وما خوله الله من فضله؛ ليعرف عظمة الخالق ووافر نعمه فيشكره.. ومن افضل صور الشكر للنعم هو استعمالها في طاعة الله وسبل الخير والمعروف.. ومن اسوأ مظاهر التنكر للنعم وكفرانها، هو استعمالها في المعصية وفي سبيل الشر.. ويحذر القران من ان يبدل الانسان نعمة الله كفراً.. نعمة الايمان والخير والرفاه.. قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) (ابراهيم/ 28)

لقد وهب الله سبحانه الانسان: العقل والعلم والقوة البدنية والمال والجمال والسلطة وخيرات الارض.. وسخر الحيوان وعوالم الطبيعة وقوانينها لصالحه ليستفيد منها وينتفع بها..

والنعم بمختلف الوانها هي من وسائل الاختبار الالهي.. فالله سبحانه عندما ينعم على الانسان ويختبره فيها.. أيشكر النعم ام يكفر بها.. ذلك ما نقرأه في مقالة سليمان (ع) حين رأي ما سخر الله له من نعم وملك وسلطة وامكانات.. قال تعالى: (قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) (النمل/ 40)

ويعقب القرآن بقوله: (وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل/41)

ومما يدعو القرآن الانسان الى ان ينظر فيه، فيشكر لله هو الرزق.. هو من وهبه الله من خيرات ونعم فقد دعاه الى ان يأكل من هذه الطيبات والنعم وان يشكر لخالقها..

ان بعض الناس لا يعرف قيمة النعمة الا اذا فقدها.. ويعرفها عندما يزور المستشفى ودور العجزة والايتام والسجون.. ويعرفها عندما يقرأ محنة الشعوب الفقيرة والجائعة ومن يموت جوعاً.. وما جاع اولئك الا بظلم الانسان للانسان.. ذلك ما يوضحه القرآن بقوله: (وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (ابراهيم/ 34)

ان القرآن يدعو الانسان الى ان يعمل ويكسب الرزق الحلال بالعمل فيشكر الله على هذه الخيرات وعلى نعمة الصحة والقوة التي يكسب بها الرزق.. انه يدعوه للعمل، فالعمل هو اداة اداة الانتاج، وهو مصدر الحفاظ على الصحة البدنية والنفسية وحفظ كرامة الانسان..

(فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (العنكبوت/ 17)

(فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ) (النحل/ 114)

وفي افق اخر يذّكر القران بنعمة السلم، ويعتبر مع حدوث الحروب والقتال نعمة تستحق الشكر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) (المائدة/ 11).. وفي هذا السياق يعبتر القران الوحدة واستبدال العداوة بالصلح والمحبة والاخوة.. يعتبرها نعمة.. والنعمة تستحق الشكر.. نقرأ هذا البيان في قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (ال عمران/103.

وحقيقة كبرى في هذا العالم.. ان نعم الله محيطة بنا ونحن لا ندركها، ولا نستطيع الاحاطة بها.. والقرآن يذكرّنا بذلك: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النحل/ 18)

فتلك اجهزة الجسم وخلاياه المختلفة تعمل وتصان ذاتياً وتحفظ لنا استمرار الصحة والحياة.. ونحن لا نعلم بعملها، ولانوجه حركتها.. ولولا فضل الله علينا لتحملنا الوان الالام والعلل المرضية.. وهذا الكون مليئ بما يضر الانسان والطبيعة والبيئة.. ولولا فضل الله ونعمه وحفظه لسلامة البيئة والطبيعة لحدثت كوارث ومخاطر كان الانسان صيحتها.. كل ذلك يحثد في عالم الكون يحدث في عالم الكون والطبيعة، لصالح الانسان، ولا علم للانسان به ولا دور في الوقاية منه.. ويجري ذلك بحكمة الله وفضله على الانسان..

ومن نعمه ان يشكر الله يقابله الله بالشكر وبزيادة العطاء.. وبموازين العدل فان الشكر واجب للمنعم، ولا يستحق شاكر النعمة شيئا مقابل شكره.. فهو كالمدين الذي ادى دينه.. ان هذا الاحسان الالهي يستحق الشكر ايضاً، فنحن نشكره على شكرنا له، وعلى ان يزيد الشاكرين عطاء ومنَّه.. (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) (ابراهيم/ 7)

ارسال التعليق

Top