• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الصائم بين جناحي الخوف والرجاء

د. أحمد عيسى

الصائم بين جناحي الخوف والرجاء
القلب في سيره إلى الله بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه.. ومتى سَلِم الرأس والجناحان فالطائر جيِّد الطيران، ومتى قُطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر. والصائم؛ الطائر الرمضاني يطير بجناحَيْ الخوف والرجاء.. وإذا تعرّض جناح الرجاء للعطب أوشك جناح الخوف أن يهوي بالطائر من شدة الوجل، ويعود الأمر إلى إتزانه متى سرت في جناح الرجاء دماء الاستبشار برحمة الله الواسعة. وفي أثناء طيرانه يرى البرق خوفاً للمسافر يخاف أذاه ومشقته، وطمعاً للمقيم يرجو بركته ومنفعته ويطمع في رزق الله، (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ) (الرعد/ 12). يقول الله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) (الأعراف/ 205)، (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) (الإسراء/ 57)، ويَدعُوننا رَغَباً وَرَهَباً) (الأنبياء/ 90)، (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (السجدة/ 16). يقول ابن القيم: والرهبة الإمعان في الهرب من المكروه، وهي ضد الرغبة التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه، والفرق بين الرغبة والرجاء أنّ الرجاء طمع والرغبة طلب، فهي ثمرة الرجاء، فإنّه إذا رجا الشيء طلبه، والخشية أخص من الخوف فإنّ الخشية للعلماء بالله. قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 28)، فهو خوف مقرون بمعرفة، وقال النبي (ص): "إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية". والخوف المحمود الصادق ما حال بين صاحبه ومحارم الله، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط.. ومدح الله خوف المؤمنين في سورة "المؤمنون" في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) (المؤمنون/ 57-61). والخوف ليس مقصوداً لذاته، بل هو مقصود لغيره قصد الوسائل، ولهذا يزول بزوال المخوف، فإنّ أهل الجنة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وأول الخوف: الخوف من العقوبة، وهو الخوف الذي يصح به الإيمان، وهو يتولد من تصديق الوعيد وذكر الجناية ومراقبة العاقبة. وأوسطه إشفاق على الوقت.. أي يحذر على وقته أن يخالطه ما يصرفه عن الحضور مع الله عزّ وجلّ، وعلى القلب أن يزاحمه عارض من فترة أو شهية أو شهوة، وكلها أسباب إعاقة لهذا الطائر لغرضه وهي الجنة.. ونهايته إشفاق يصون سعيه عن العُجب الذي يفسد العمل كما يفسده الرياء.   - الإشفاق: وفي رمضان، حينما يسبح الطائر الملون الجميل الرشيق في فضاء الزمن، ويتلذذ بالصيام والقيام والصدقة والاعتكاف، هو أيضاً يحمل في جسده المنساب نوعاً رقيقاً من الخوف يتمشى مع رقته الرمضانية، وهو الإشفاق، الذي قال عنه ابن القيم: إنّه خوف برحمة من الخائف لمن يخاف عليه، فنسبته إلى الخوف نسبة الرأفة إلى الرحمة، فإنّها ألطف الرحمة وأرقها، وبدايته إشفاق على النفس أن تجمع إلى العناد، أو أن تسرع وتذهب إلى طريق الهوى والعصيان ومعاندة العبودية، ثمّ هو إشفاق على العمل أن يصير إلى الضياع. ومن آيات الإشفاق: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (الأنبياء/ 28)، (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) (المعارج/ 27). وهناك خوف في الدنيا يبدله الله أمناً لعباده المؤمنين: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور/ 55). الخوف كما في القرآن الكريم يكون من الله ومن مقام الله ووعيد الله وعذاب الله والحشر إلى الله، ومن الساعة والآخرة ويوم القيامة وشره وسُوء الحِسابِ وظلل النار. والرجاء يكون لله ولرحمة الله ولقاء الله وأيام الله (ثوابه، أياديه ونعمه) والتجارة مع الله ورجاء اليوم الآخر، (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (العنكبوت/ 5)، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب/ 21). أما جناح الرجاء، فقد يلبس الناس جناحاً "مقلداً مزوراً" بديلاً له هو جناح "التمني".. وشتان بينهما، فالتمني يكون مع الكسل، والرجاء يكون معه بذل الجهد وحسن التوكل.   - ثلاثة أنواع: يقول ابن القيم: الرجاء ثلاثة أنواع، نوعان محمودان، ونوع مذموم. الأوّل: رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله فهو راجٍ لثوابه. الثاني: رجل أذنب ذنوباً ثمّ تاب منها، فهو راجٍ لمغفرة الله تبارك وتعالى وعفوه وإحسانه وجوده وحلمه وكرمه. والثالث: رجل متمادٍ في التفريط والخطايا، يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هم الغرور والتمني والرجاء الكاذب. قال يحيى بن معاذ: "يكاد رجائي لك مع الذنوب يغلب رجائي لك مع الأعمال، لأني أجدني أعتمد في الأعمال على الإخلاص، وكيف أصفيها وأحرزها وأنا بالآفات معروف، واجدني في الذنوب أعتمد على عفوك، وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف؟". ومن شدة تكامل الجناحين، قال العلماء: كل راجٍ خائف من فوات مرجوه، والخوف بلا رجاء يأس وقنوط. فالخوف مستلزم للرجاء، والرجاء مستلزم للخوف، فكل راجٍ خائف وكل خائف راجٍ.   - رجاء أرباب القلوب: وأوّل الرجاء رجاء يبعث العامل على الاجتهاد، فإن من عرف قدر مطلوبه هان عليه ما يبذل فيه، كحال من يرجو الأرباح العظيمة في سفره، ويقاسي مشاق السفر لأجلها، فكلما صورها لقلبه هانت عليه تلك المشاق وتلذذ بها. وأعلى من هذا الرجاء رجاء أرباب القلوب، وهو رجاء لقاء الخالق الباعث على الاشتياق، المنغص للعيش، المزهد في الخلق. قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف/ 110). وهذا الرجاء هو محض الإيمان وزبدته، وإليه شخصت أبصار المشتاقين، ولذلك سلاهم الله بإثبات أجل اللقاء، وضرب لهم أجلاً يسكِّن نفوسهم ويطمئنها. ما أعظم كرم الله وسعة رحمته حين يشعر بها الإنسان في رمضان، وبُعَيْد رمضان حينما يفرح بإكمال العدة فيكبر فرحاً.. وتتجسد في ليلة القدر رحمات الله، ويكون المرء فيها أقرب للرجاء منه للخوف في هذا المقام.. ولِمَ لا؟ فإن الله: الفضل أحب إليه من العدل.. والعفو أحب إليه من الانتقام.. والمسامحة أحب إليه من الاستيفاء.. ورحمته سبحانه غلبت غضبه.. سبحانه من إله عظيم!

ارسال التعليق

Top