• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الفقر الروحي والفكري

مرتضى مطهري

الفقر الروحي والفكري

◄في السنة العاشرة من الهجرة أي قبل رحيل الرسول بعام واحد توجّه الإمام عليّ (ع) نحو اليمن مع بعض الصحابة، وذلك بأمر من الرسول (ص) بعد أن دخل الناس في دين الله أفواجاً وبرزت الحاجة إلى مَن يعلّمهم أحكام الدين وتعاليم الإسلام ومحو ما تبقّى من آثار الوثنية في نفوسهم وقلوبهم. وقد قال النبيّ (ص) لعليّ فيما أوصاه به: "لأن يهدي الله بك أحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس".

قال تعالى في أوّل سورة البقرة: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة/ 2-3).

والمراد من الإنفاق في بعض ما ورد من الروايات إنفاق العلم ونشره بين الناس، وهناك أحاديث تعبّر عن هذا المعنى أو تشير إليه من قبيل أنّ نشر العلم أفضل من إنفاق المال، وأنّه لا هدية أغلى من أن يتحف المرء صديقه بحكمة يرشده بها إلى غير ذلك من الأحاديث والروايات التي تعكس مدى اهتمام الدين بهذا الجانب، ذلك أنّ الإسلام يرى الجدب أو الفقر الروحي والفكري أسوأ من الفقر الاقتصادي.

فالعوز المالي يمكن جبرانه وعلاجه ولكن الفقر الروحي يؤدي بالإنسان إلى الشقاء حتى لو كان غنياً.

ونحن هنا لا نحاول أن نحمد الفقر والعوز، بل نؤكد على أنّ الفقر لا ينحصر بالجانب الاقتصادي فقط، إذ أنّ هناك ما هو أخطر من ذلك وهو الفقر في الفكر والروح.

ولعل اهتمام الإنسان في هذا الجانب من الفقر يعود إلى معاناته والآلام التي تنجم عن العوز المادي خلافاً للفقر الروحي والمعنوي الذي لا يمكن الشعور به من قبل الإنسان الفقير في هذا الجانب، بل إنّ الآخرين – خاصة أولئك الذين يتمتعون بالثراء الروحي والفكري – هم الذين يدركون مدى فقر الإنسان في هذه الناحية.

ولذا نرى الأنبياء ومَن سار على خطاهم منذ فجر التاريخ يؤكدون على رفع العوز الروحي والمعنوي، ذلك أنّ الفقر الاقتصادي أمر يدركه الناس كافة ولا يحتاج إلى من ينبههم إليه.

قال تعالى وهو يعدد النعم التي أنعم بها على نبينا الأكرم (ص): (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (الضحى/ 6-11).

ويقول الإمام عليّ (ع): "إنّ للجسم ستة أحوال: الصحة، والمرض، والموت، والحياة، والنوم، واليقظة. وكذلك الروح فحياتها علمها، وموتها جهلها، ومرضها شكّها، وصحتها يقينها، ونومها غفلتها، ويقظتها حفظها".

وكلّ امرىء لا يحسن إلى غيره يكون له نوع من السيادة حيث يشعر الطرف الآخر بأنّه قد تفضل عليه فيكون له حقّ الاتباع والاحترام فكيف إذا كان الإحسان علماً وهداية وإرشاداً؟! يقول الإمام (ع): "من علّمني حرفاً صيّرني عبداً".

لقد كان السيد الرضيّ العالم الكبير الذي جمع نهج البلاغة مشهوراً بعزة النفس وقد عرف عنه رفضه الهدية من أي كان حتى أنّه رفض هدية قدّمها له والده! فصادف أنّ أحد أساتذته قدم له كتاباً هدية فرفض قبول ذلك قائلاً: إني لا أقبل هدية حتى من أبي، فقال الأستاذ: ولكن مقام المعلم أعلى من مقام الوالد. وأمام هذا المنطق والدليل القوي رضخ الشريف الرضي وأخذ الهدية.

إنّ العلم في ذاته شرف وتعلمه عبادة وطاعة، ونشره أسمى من العبادة وإنّ حقّ المعلم والمرشد أعلى وأسمى بكثير من كلّ ذلك. ►

 

المصدر: كتاب سلوك وأخلاق الإسلام

ارسال التعليق

Top