• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

القرآن الكريم والطريق نحو الكمال

الشيخ محمد تقي مصباح

القرآن الكريم والطريق نحو الكمال

إنّ جميع النظريّات الأخلاقيّة – فضلاً عن الأنظمة الأخلاقية والتربوية – تبتني على مبادئ عامّة، هي:

أوّلاً: مبدأ حرية إرادة الإنسان.

ثانياً: مبدأ وجود مثل أعلى أو كمال نهائي وراء كلّ عمل إرادي يصدر من الإنسان. وإذا كان وراء كلّ سلوك إرادي داعٍ يحرّك الإنسان لاتيانه وأمكن تحليل هذا الداعي بداعٍ أعلى لتسلسلَ التعليلُ حتى ينتهي إلى داعٍ ليس وراءه داعٍ آخر، وذلك الداعي النهائي هو المثل الأعلى والهدف الأقصى للإنسان، ويكون مطلوباً بالفطرة ومُراداً ذاتيّاً للإنسان بحيث يكون طلبه بديهيّاً لا يحوجه إلى تجشّم استدلال أو تفسير. وهذا مبدأ تعترف به الأنظمة والنظريات الأخلاقيّة لا محالة. وإن اختلفت في تفسير ما ينبغي أن يكون هو الهدف الأقصى. وقد أوضح القرآن الكريم موقفه من هذا المبدأ حيث علّل كلّ سلوك وفسّره بتفسير ينتهي به إلى الفوز والفلاح أو السعادة. ولم يتعرّض لتعليل الحاجة إلى الفوز أو السعادة.

ثالثاً: إنّ هذا المبدأ يتمحور حول ضرورة وجود طريق نحو الكمال اللائق بالإنسان. وقد صرّح القرآن الكريم بأن مصير الإنسان أو الكمال الذي ينبغي أن يصير إليه الإنسان رهين بعمل الإنسان. فالعمل الاختياري للإنسان أو سلوكه وسعيه هو الذي يصنع له مصيره لا غير.

ويتضمن هذا المبدأ ما يلي:

1-    إنّ سعي الإنسان لا يذهب سُدىً بل له ناتج وثمرة.

2-    إنّ نتيجة هذا السعي تعود لنفس الإنسان قبل كلّ شيء.

3-    إنّ الفوز أو الفلاح لا يمكن تحصيله من دون توسّط عمل الإنسان الذي يصدر عنه باختياره.

4-    لا توجد أيّة علّة أخرى لتحصيل الفلاح والسعادة إلّا عمل الإنسان نفسه.

إذاً لا يؤثّر عمل الآخرين على المصير الواقعي للإنسان.

لاحظ الآيات التي تربُط بين العمل والجزاء، أو الكسب والجزاء، أو الفعل والعاقبة، أو تشير إلى أنواع السلوك من إحسان وإساءة، أو إبصار وعماية، أو شكر وكفران، أو تزكية للنفس وإهمالٍ أو قبولٍ للهداية ورفضٍ لها. فإنّها جميعاً تشير بوضوح إلى موقف القرآن الكريم من هذا المبدأ بشتّى فروعه.

قال تعالى:

1-    (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة/ 7-8).

إذاً لابدّ عمل للإنسان من أثر وإنّ هذا الأثر يعود إليه "إن خيراً فخير وإن شرّاً فشر".

2-    (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) (النساء/ 123). فجزاء العمل السيِّئ يعود لنفس الإنسان.

3-    (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الحج/ 77). والفلاح يترتّب على فعل الخير، والفلاح إنّما هو لفاعل الخير.

4-    (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (يونس/ 52).

5-    (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (التوبة/ 82). فالجزاء هو نفس الأعمال المكتسبة أو هو مجموع نتائج الأعمال.

6-    (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (الإسراء/ 7).

7-    (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا) (الأنعام/ 104).

8-    (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) (يونس/ 108).

9-    (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) (لقمان/ 12).

10-                      (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) (فاطر/ 18).

11-                      (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) (فصلت/ 46).

12-                      (أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (النجم/ 38).

إذاً الطريق الوحيد – لكلّ إنسان – للوصول إلى المصير الذي يبتغيه والكمال الذي ينشده أو ينبغي له أن ينشده إنما هو عمله فحسب، وإرادته التي تتجلّى في سلوكه لا غير.

ومن هنا سوف يتّضح دور النيّة في مصير الإنسان أيضاً، وكيف يكون نوع النوعيّة دخيلاً في نوع المصير الذي يصل إليه الإنسان.

 

شبهات وحلول:

إذا كان المصير الواقعي للإنسان رهيناً بعمل الإنسان نفسه، ولا يمكن لأيّ أحدٍ أن يتدخّل في مصير الآخرين، وكانت هذه قاعدة شاملة لا يشذّ عنها مورد كما صرّح القرآن الكريم قائلاً: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى) (النجم/ 39). وقال: (أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (النجم/ 38).

فهنا قد يورد للنقض على كلّية هذه القاعدة العامّة عدّة موارد جاءت في القرآن الكريم نفسه:

1-    لقد أقرّ القرآن الكريم مبدأ الشفاعة في الآخرة.

2-    قال تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) (الأنعام/ 159).

فإذا تفضّل الله سبحانه بإثابة الحسنة بعشر أمثالها، فإذاً تسعة أمثالها من باب التفضّل الذي يزيد على عمل الإنسان نفسه، وليس العمل هو وحده الدخيل في حصول هذا المصير.

3-    إنّ مبدأ المغفرة من الله سبحانه وتكفير السيِّئات أيضاً مبدأ يبتني على التفضّل واللطف الإلهيين، فلا دخل لفعل الإنسان فيه.

4-    صرّح القرآن الكريم بأنّ الذين يُضلّون الآخرين ويكونون سبباً في غوايتهم فإنّهم سوف يتحمّلون أوزار أنفسهم وأوزار الذين يضلّونهم. وهذا معناه أنّ الإنسان قد يتحمّل تبعة الآخرين، فإنّ الذي يَضلّ إنّما يضلّ بحسب إرادته واختياره، فلماذا يتحمّل غيرُه وزرَه أيضاً وقد قال تعالى: (أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).

وعلى هذا فكيف يمكن إقرار كليّة هذا المبدأ الثالث وشموليّته بحيث يكون عمل الإنسان هو الطريق الوحيد لتحقّق مصيره؟

والجواب عن النقض بالشفاعة أن يقال: إنّ الشفاعة وإن لم تكن بمعنى التجاوز عن الذنب أو التقصير بدل عملٍ اختياري، ولكن استحقاق الفرد للشفاعة لا يكون إلّا بعمل اختياري يقوم به الذي يتوقّع الشفاعة ليستحق الشفاعة، ولهذا لم يُدّعَ بأنّ الشفاعة تشمل كلّ إنسان بل لابدّ من تحقّق مواصفات خاصّة يحصل عليها الفرد خلال عمله وسلوكه الإرادي، قال تعالى: (وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى) (الأنبياء/ 28).

وأمّا الجواب عن النقض بتعويض الحسنة بعشر أمثالها بل أكثر من هذا قوله تعالى: (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) (البقرة/ 261)، أو قوله: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر/ 10)، فكلّ هذه الموارد تبتني على نفس المبدأ الشامل حيث أنّ هذه الإثابة مشروطة بإتيان الحسنة أو الصبر أو أيّ عمل إرادي آخر. وليس هذا التعويض من باب التعويض بلا استحقاق، بل الإستحقاق إنّما يحصل عليه الفرد بعد القيام بعملٍ خاصّ يستدعي ويستتبع مثل هذا الجزاء.

وأمّا تكفير السيِّئات والمغفرة فإنّ مثل قوله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) (هود/ 114)، يرشدنا إلى أنّ المغفرة والتكفير إنما يحصلان بالقيام بعمل إرادي يستدعي أن يستلزم محو السيئة، قال رسول الله (ص): "إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة تمحها".

وأمّا حمل المضلّين أوزار الضالّين فإنّ التأمّل في الآية يرشد إلى جوابها حيث يقول: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) (النحل/ 25)، فإنّ الآية لا تقول: إنّهم يحملون كلّ أوزار الضالّين بل تقول: (وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) (النحل/ 25)، وهذا يعني أنّ الضالّ يتحمّل تبعة ضلاله الإختياري، والمضلّ إنّما يتحمّل من وزره بمقدار ما يكون دخيلاً في ضلاله وغوايتِه. وكأنّ هذا المقدار هو النتيجة الطبيعيّة لعمله وإضلاله، فالإنسان يحصل على كل نتائج عمله المباشرة وغير المباشرة بلا استثناء.

إذاً لم تبطل كليّة هذا المبدأ الثالث، بل الآيات تؤكّد أن مصير الإنسان رهين بعمله لا غير.

وهكذا يتّضح لنا أنّ العمل الإرادي لأيّ إنسان هو طريقه الطبيعي للحصول على مصيره الذي يترتّب على مجموع أعماله. فلا يمكن الحصول على الكمال اللائق بالإنسان إلّا عن طريق والسّلوك الذي يصلح لمثل هذا الهدف الأقصى.

ومن هنا كان الإيمان والعمل الصالح شرطين أساسيين لبلوغ هذه الغاية. ومن هنا نعرف كيف أنّ العاقل لا يتّكل على المُنى ولا يتواكل في أمر مصيره وإنما يكدح ويجتهد طوال حياته لأنّه لا يجني إلّا ثمار عمله، ولا سعادة من دون دليل كما لا شقاء من دون سبب. فعلى العاقل أن يبحث عمّا يؤدّي إلى السعادة وعمّا يؤدّي إلى الشقاء بعد أن اتّضح انّ العمل هو الطريق فحسب.

 

المصدر: مجلة رسالة الثقلين/ السنة الثانية/ العدد السابع

ارسال التعليق

Top