◄من المهم أن ننظر إلى الكلام الذي نوجهه للنّاس على أنّه وسيلة اتصال وامتزاج وتأثير، وليس وسيلة بلاغ وبيان فحسب، وحين ننظر إلى أحاديثنا إلى النّاس على أنّها جزء من عملية اتصال لها طرفان، فإنّ قيمة الاستماع للآخرين تساوي حينئذٍ قيمة الحديث إليهم. إنّ رؤانا لكلّ شيء ناقصة، وإنّ في كلّ قضية نطرحها عنصراً غيبياً لم نطلع عليه، وقد يسمع العالم الفذ الألمعي من رجل عادي شيئاً ينفعه الله به، وقد ينبهه إلى خطأ شنيع وقع فيه دون أن يشعر.
المقصود بالتغذية المرتدة أو الراجعة ما يمكن أن يستفيده المتحدث من توجيه وملاحظات وإضافات من سامعيه. وهذه بعض الإشارات حول هذه القضية المهمة:
1- المتحدِّث الجيِّد هو في الأساس مستمع جيِّد، إنّ تكوينه الثقافي قائم في بعض جوانبه على حرصه على الاستفادة ممّا لدى غيره، وعلى إيمانه بالحوار والتقاط الحكمة وتلقف الفكرة المضيئة، وهو من خلال ما لديه من معرفة راقية يعرف فضل العلم والعلماء، ويعرف حيوية الاستفادة من الآخرين. حين يرفض المتحدث السماع ممن صبروا على سماعه، فإنّه لا يكون عادلاً؛ حيث إنّ العدل يقتضي بأن ننصت للآخرين بالقدر نفسه الذي نود أن ينصتوا به إلينا.
2- إنّ الإنصات لا يعني فحسب أن نسمح للآخرين بأن يعلِّقوا على كلامنا أو يعترضوا عليه، أو يوجهوا أسئلة حوله، وإنما يعني كذلك ألا نغضب إذا كانت تعليقاتهم تنطوي على شيء من التهكم أو الاستفزاز، وربما شاهدنا كثيراً من المتحدثين الذين يرحبون في البداية بمن ينتقد بعض ما قالوه، ثمّ إذا سمعوا ما لا يُرضيهم من أسئلة أو تعليقات ثارت ثائرتهم، وتحولوا إلى مهاجمين شرسين، فينسى النّاس كلّ أو جُلَّ ما قالوه من كلام نفيس، ويتذكرون المشادة الكلامية التي خُتمت بها الندوة أو المحاضرة.
إنّ الجمهور يعجب كلّ الإعجاب بالمتحدث الذي يمتص غضب الذين يعلقون على كلامه، ويقدِّر عالياً حسن الخلق واللطف والأناة والحلم في مثل هذه المواقف، وهذا أيضاً ما تحثنا عليه أدبيات الدين الحنيف.
3- قد تعودنا في أحاديثنا الإطالة، وتناول العديد من القضايا في الحديث الواحد، مما يجعلنا نشعر دائماً بأنّ الوقت المتاح غير كافٍ، وبالتالي فإنّه لا يتاح أي وقت للمداخلات والتساؤلات والمحاورات، وهذا نابع من رغبتنا الشديدة في الكلام، ومن ضعف اهتمامنا بالسماع، وأعتقد أنّنا في حاجة إلى تقاليد ثقافية تحبِّذ الشروح المختصرة والبيانات المقتضبة حتى يجد المستمعون الفرصة للمشاركة. بعض المتحدثين الجيِّدين لا يتركون وقتاً في آخر حديثهم للسماع من جمهورهم فحسب، وإنما يخبرونهم بأنّ هناك إمكانية لأن يتحدثوا معهم أثناء المحاضرة، وبالتالي فإنّ المحاضرة تتحول إلى ما يشبه الندوة أو حلقة النقاش، مما يضفي على الجو مسحة فريدة من الحيوية والتفاعل والمشاركة، وقد يكون هذا أفضل أسلوب في التعليم.
4- من المهم أن نشجِّع المستمع على التحدث من خلال الإصغاء الجيِّد له، ومن خلال الانتباه الشديد لما يقوله، ومن أساليب التشجيع: الابتسام، وهزّ الرأس وتحريكه على نحو يفهم منه محدّثك أنك مرتاح لحديثه، وسوف نحمس السامع كثيراً للكلام إذا قلنا له بعد كلّ جملة أو جملتين ينطق بهما: تمام، ممتاز، صحيح، لا بأس، جيِّد... بعض المتحدثين يسمح لمستمعيه بالأسئلة والتعليق، لكنه يتجهم، ويثبِّت رأسه، ويقطِّب جبينه، ويصمت على نحو يوحي للسامع بالانزعاج من كلامه، ويرسل له رسالة عبر النظرات، تشعره وكأنّه في ورطة، وأنّ عليه ألا يطيل في تعليقه، وبأن يلطِّف نقده. وربّما ألقى في روعه من خلال جمود عينيه بأنّه سيتلقى ردّاً، لا يسرُّه!.
5- المتحدّث هو سيد المكان ومالك الموقف على المستوى المعنوي والأدبي؛ ولهذا فإنّه مطالب بأن يوجد نوعاً من الألفة مع من يقوم للتعليق ونوعاً من الاحترام المتبادل، ليقل لمن يطلب منه السماح بالتعليق: تفضل يا أخي الله يحييك، وإذا استطاع إطلاق عبارة مؤنسة فيها معنى الدعابة أو الطرفة فليفعل؛ حتى يتشجع السامعون على المشاركة في الحديث. بعض المتحدثين يفعل العكس من هذا؛ حيث إنّه قد يسخر، ويستهزئ بأسلوب ما من السائل، ولابدّ أنّ كثيرين منّا سمعوا من بعض المتحدثين من يقول لمن طلب الكلام: هات شنِّف آذاننا، أو يقول له بعد تقديم مداخلته: ما شاء الله درر! وذلك على سبيل الاستخفاف. وبعضهم لا يسمح للمعلق بإكمال تعليقه، ويقول: الفكرة مفهومة، أو سؤالك واضح، دون أن يشعر السائل أنّه قال ما عليه أن يقوله، وبعض المتحدثين يظهر بالمظهر الأبوي أو مظهر الأخ الأكبر، حيث تجده يقول لطالب التعليق: هات يا بني قل ما عندك، أو يقول له: تكلم إن كان عندك شيء نافع نستفيد منه، أو يقول له: سؤالك هذا غريب، وما كت أظن أنّ أحداً سيلقي مثل هذا السؤال؛ لأنّ القضية واضحة جدّاً، وأنا بذلت جهداً كبيراً في توضيحها...!
إنّ السائل لم يسأل إلا لأنّ لديه شيئاً غامضاً، وإنّ صاحب التعليق لم يطلب الإذن بالتعليق إلا لأنّه يشعر أنّ لديه شيئاً مهمّاً يود أن يفضي به، وإنّ علينا احترام ذلك.
ابحث عن الفكرة الرئيسة فيما يقول؛ إذ إنّ بعض المعلِّقين لا يحسن التعليق، فيتكلم كثيراً دون أن يكشف عن مقصوده، وربما أورد عدداً من الملاحظات الرئيسية والجزئية. ومهمة المتحدث أن يلخص تلك الملاحظات، ويحاول أن يرد على الرئيس منها والمهم، إذا كان لا يجد الوقت للإجابة عليها جميعاً، وإذا كان بعض كلام المعترض أو السائل غير واضح، فإنّ من المطلوب أن نستفسر منه عن معاني كلامه.
من حسن الخلق وحسن التعامل أيضاً أن يجيب المتحدث عن الاعتراضات والملاحظات التي يدلي بها بعض الجمهور بوضوح ودقة، ولا يغيِّر الموضوع. وكم رأينا من المتحدثين من يستمع باهتمام إلى جمهوره، وحين يجيب على تساؤلات المتسائلين فإنّه يبتعد عن صلب الموضوع، ويملأ الوقت بشيء هامشي أو بعيد عن محور التساؤل. الأمانة واللباقة تقضيان بأن يجعل المتحدث جوابه مطابقاً للسؤال أو التعليق وإذا كان لا يملك الجواب، فالأولى أن يقول: ليس عندي جواب على هذا السؤال.
من حقّ المتحدث أن يناقش المعترض في اعتراضاته، ومن حقّه أن يوجه له الأسئلة حول ما فهمه من كلامه؛ والحقيقة أن سوء الفهم ليس حادثاً غريباً، وفي كثير من الأحيان يكشف المعترضون على بعض الكلام عن استيعاب منقوص لما سمعوه، كما يكشفون عن سوء تقدير وسوء تحليل للمعلومات التي سمعوها، وعلينا أن نقول هنا: إنّ النّاس حين يسمعون محاضراً أو خطيباً يختلفون معه، يقعون تحت وطأة توجهاتهم الثقافية والحزبية وتحت وطأة حساسياتهم نحو الموضوع المطروح؛ بمعنى أنّهم في أحيان كثيرة يسمعون ما يحبون سماعه، ويفسرونه من أفق معارفهم وثوابتهم الثقافية، ولهذا فإنّ من الملاحظ أنّ المتحدث حين يكون انتماؤه الحزبي أو المذهبي... مغايراً لانتماء السامعين فإنّه يكون عرضة للكثير من سوء الفهم من قِبَل جمهوره، وكلما اتسعت دوائر النقل ودوائر الحديث عن محاضرته أو خطبته، أضاف النّاس ما لم يقله، وحمَّلوا كلامه ما لا يحتمله من المعاني بسبب التباين بينه وبينهم. والحقيقة أنّ المشكلة لا تتجسد في سوء الفهم وسوء التفسير فحسب، وإنما في سوء الاستنتاج أيضاً؛ وأذكر في هذا السياق أنني كنت في محاضرة عن (التفكير الموضوعي) وقد أجاد المحاضر وأفاد، ولكنه لم يذكر إلا القليل من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ولكن المحاضر بإجماع السامعين لم يتكلم بشيء مخالف لروح الشريعة أو أي نص من نصوصها أو أي حكم قطعي، وبعد انتهاء المحاضرة قام أحد أساتذة الجامعة، وسأل المحاضر: هل محاضرتك التي سمعناها عن التفكير الموضوعي على نحو عام أو عن التفكير الموضوعي الخاص بالمسلمين؟ وكان جواب المحاضر للسائل: ما دمتَ متخصصاً في علوم الشريعة، فإنّك أنت الذي يحكم على مدى شرعية الموضوع المطروح. إنّ السائل ظن أنّ قلة الآيات والأحاديث في المحاضرة تجعل التناول عامّاً، وليس خاصّاً؛ لكن المحاضر يرى أنّ الذي يجعل الطرح في الدائرة الإسلامية ليس نوعية الاستدلالات وإنما مدى موافقة الأفكار المطروحة للشريعة الغرّاء، وهذا في نظري هو المعيار.
في أحيان كثيرة يسيء بعض الجمهور الأدب، ويكيلون التهم للمتحدث بغير حساب، وعلى المتحدث آنذاك أن لا يقابل السيئة بالسيئة، وإنما يقابلها بكرم الخلق والصفح والهدوء. إنّ أكثر ما يحتاج من المتحدث إلى الصبر والتحلي بالخلق الإسلامي الرفيع هو ما قد يتعرض له المحاضر أو الخطيب من تجريح شخصي من قَبِل بعض مستمعيه، وهذا لدينا كثير جدّاً، فحين يكون انتماء المتحدث مغايراً لانتماء جمهوره، فإنّ شهية الجمهور تنفتح نحو إسكاته وإفشال محاضرته عن طريق إلصاق التهم التي تمس حياته الشخصية وسلوكه الخاص، أو عن طريق تذكيره بما قاله في كتاب له أو في محاضرة أخرى. إنّ التجريح البعيد عن الموضوع الذي تكلم فيه المتحدث، قد يجعل المجرّحين يشعرون بأنّهم حصلوا على نصر فوري، وهذا صحيح؛ لكن كلما مرّ يوم إضافي على تأريخ المحاضرة تراجعت مباهج ذلك النصر، وصار التأثير لمضامين المحاضرة ومقولاتها؛ وفي هذا مكافأة للأفكار القوية والطرح الجيِّد، ومكافأة للمتحدّث الخلوق المحتسب. ►
المصدر: كتاب المتحدِّث الجيِّد
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق