• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المكان يصنع المشاعر

أ. د. عبدالكريم بكّار

المكان يصنع المشاعر

◄إنّ التاريخ لا يعيد نفسه، أما الجغرافيا فإن معطياتها ثابتة. ومن الواضح أنّ الله – تعالى – فطر الأشياء على تبادل التأثر والتأثير من خلال العلاقات التي تربط بينها، إلى درجة يصح معها القول: إنّ الشيء هِبَةُ علاقاته، وقد قال (تشرشل) في إحدى ملاحظاته الدقيقة: (نحن نشكِّل مساكننا، ثمّ تشكِّلنا مساكنُنا). فعلاً نحن الذين نخطط منازلنا ونشيِّدها، ثمّ بعد ذلك نصبح أشبه بالأسرى لإيحاءات تلك المنازل وتأثيرها في أخلاقنا ومشاعرنا. الإنسان يشعر دائماً بالحاجة إلى المكان، وهو مفطور على الشعور بالحاجة إلى حيز خاص يمارس فيه خصوصياته، ويحمي من خلاله نفسه ومصالحه. نحن في مكانٍ ما نشعر بالارتياح والاطمئنان، ونتمنى لذلك الإقامةَ فيه أطول فترة ممكنة. ونشعر في بعض الأماكن بالضيق، ويعلونا نوع من الكآبة، ولهذا فإننا نشعر بالحاجة الماسّة إلى مغادرته في أسرع وقت ممكن، لكننا في الحالين لا نعرف لماذا يحدث ذلك. والحقيقة أن هناك الكثير من الدراسات التي تتناول تأثير المكان في الإنسان وضرورة اهتمام الإنسان بمكان سكناه حتى يشعر بالطمأنينة والارتياح. وهذه بعض الملاحظات في هذا الشأن:

1-    تدل بعض الدراسات والكثير من المشاهدات على أنّ الناس حين يكونون في مكان واسع وأنيق ونظيف ومنظم وهادئ يتبادلون بينهم مشاعر جميلة: مشاعر مشحونة بالغبطة والامتنان والتعاطف واللطف، فترى السلام الحارّ والعناق، وتسمع الكلام اللطيف المعبر عن السرور والهناء.. وعلى العكس من هذا فإنّ الناس حين يكونون في مكان ضيق وقذر وحار وفوضوي ومملوء بالضجيج فإنهم يتبادلون فيما بينهم مشاعر السأم والملل والتشاؤم والضيق وعدم الاكتراث، وقد رأيت هذا، ولاحظته في العديد من المواقف، وأعتقد أنّ القراء الكرام قد لمسوا ذلك أيضاً. وفي هذا يقول أحد الرجال الذين أجريت تجارب عليهم: إنني أستطيع أن أتحمل كلّ شيء تقريباً طالما لدي غرفاً  كبيرة وسقوفاً عالية، قد نشأت في بيت قديم، ولم أتمكن أبداً من تعويد نفسي على أي شيء مختلف.

2-    فطر الخالق – جلّ وعزّ – الناس على الاحتياج إلى مساحة مكانية يعيشون فيها، ويمارسون فيها أنشطتهم وخصوصياتهم، وفطر كثيراً من أنواع الحيوان على مثل ذلك، وقد أجرى العلماء المهتمون بسلوك الحيوان العديد من الدراسات والتجارب على بعض الحيوانات مثل الفئران والسرطانات، وتبيَّن منها أنّ الحيوانات حين تزدحم في مكان ما، ويصبح نصب الواحد منها من الحيِّز أقل من الحد الأدنى المطلوب – فإنّها تتضايق إلى حد بعيد، ويتغير سلوكها في بعض جوانب حياتها، ومن ذلك – مثلاً –:

أ‌)      حين تزداد أعداد السرطانات في مكان ما، فإنّها تخفِّف من الاكتظاظ عن طريق التهام عدد وافر من أفرادها، وهي في مرحلة القواقع، وذلك من أجل إعادة التوازن بين السرطانات والمكان الذي تقيم فيه.

ب‌) في دراسة لـ(فئران المسك) وجِد أنّ الاكتظاظ الشديد أدى بها إلى أن تضعف مناعتها، وتكثر الوفيات بين أفرادها، كما وُجِد كذلك أن فئران المسك تتشارك مع الإنسان في ميلها لأن تصبح متوحشة نتيجة التوتر الناجم عن الاكتظاظ.

ت‌) إنّ الفأر رغم قدرته الشديدة على الاحتمال لا يمكنه أن يتحمل الفوضى، ووُجِد أنّه يحتاج إلى بعض الوقت كي يكون وحده، وقد تدهور تصرف الذكور الاجتماعي نتيجة الزحام، وانتشر بينها عض الذيول.

3-    حين يزدحم الناس في مكان، فإن احتمال احتكاك أجسادهم ببعضها يصبح أكبر، وهذا يثير لديهم مشاعر الضيق، وأحياناً التوجس والعدوانية، كما أنّ الزحام يجعل الناس يشمون بقوة روائح الأجساد المزدحمة، وهذا كثيراً ما يثير النفور وعدم الارتياح. ونحن نرى كيف تتحول البيوت في الأحياء شديدة الفقر إلى بيئة طاردة بسبب ضيقها واكتظاظها بسكانها، ومن ثمّ فإنك تجد الشوارع مملوءة بالأطفال الصغار حيث يتعرضون للمخاطر المختلفة، ويتعلمون الكثير من الأشياء السيئة. وقد رأينا في الصفوف (الطوابير) المكتضة في انتظار شراء بعض السلع أو الحصول على بعض الخدمات –الكثيرَ من سوء الخلق والسأم، وسمعنا الكثير من التأفف والتعليقات اللاذعة، وكل ذلك بسبب إيجاءات الوضعية الصعبة لمن يقف في صف طويل، وبينه وبين الناس من خلفه ومن أمامه مسافة قصيرة جدّاً.►

 

 

المصدر: كتاب هي.. هكذا (كيف نفهم الأشياء من حولنا/ ثلاثون سُنّة إلهية في الأنفس والمجتمعات)

ارسال التعليق

Top