مايكل هاينز/ ترجمة: د. عبدالرحمن الطيب*
أوضحت الدراسات التجريبية العديدة أنّ السمات النفسية تأخذ عادة في توزيعها شكل المنحنى الاعتدالي، وهو منحنى بالارتفاع عند منتصف التوزيع ثمّ يأخذ في الانخفاض التدريجي كلما ابتعدت عن المنتصف وتفسير ذلك (فيما يتعلق بالذكاء) هو أن معظم الناس متوسطي الذكاء. وكلما ابتعدنا عن المتوسط بالزيادة أو النقص يقلل عدد الأفراد تدريجياً، بحيث نجد أنّ المتفوقين عقلياً أو الأذكياء جدّاً حوالي (3% من المجتمع) وضعاف العقول نادرون أيضاً (3% من المجتمع). ويعتمد تفسير نسبة الذكاء التي يحصل عليها أحد الأشخاص (بعد تطبيق أحد اختبارات الذكاء عليه) على معرفتنا بتوزيع الفروق الفردية من الذكاء داخل المجتمع العام. وللحصول على هذا التوزيع يطبق مقياس للذكاء (تتوافر فيه كافة الشروط السيكومترية) على عينة كبيرة من الأفراد ممثلة للمجتمع الأصلي.
- الذكاء والعمر:
أجريت العديد من الدراسات للوقوف على علاقة العمر بالذكاء وقد اعتمدت هذه الدراسات على منهجين أساسيين من مناهج دراسات النمو:
1- أسلوب الدراسة الطولية: التي يتم فيها تتبع عينة من الأفراد لسنوات طويلة ويدرس النمو أو التدهور العقلي عند نفس الأفراد.
2- أسلوب الدراسة العرضية: وهنا تتم المقارنات بين مجموعات من الأشخاص المختلفين في العمر. وتشير هذه الدراسات في جملتها إلى أن ذكاء الإنسان يستمر في النمو حتى سن الرشد ويظل ثابتاً إلى حد ما عدة سنوات ثمّ يأخذ بعد ذلك في التناقص التدريجي سنة بعد أخرى.
من أهم الدراسات في هذا الصدد الدراسة التي قام بها وكسلر باستخدام مقياسه الشهير، فقد طبق المقياس على 1700 حالة تشتمل على أعداد متساوية من الجنسين موزعة من 7 مستويات عمرية بين 16، 64 سنة وعينة أخرى من كبار السن (فوق سن الستين). وقد أوضحت هذه الدراسة أنّ درجات الذكاء تأخذ في الارتفاع حتى أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات ثم تنحدر ببطء حتى سن الستين، ثمّ نجد بعد ذلك انحداراً أسرع فوق سن الستين. وهذا الانحدار أو التناقص في درجات الذكاء يتضح بصورة أكبر في حالة الاختبارات العملية عنه في حالة الاختبارات اللفظية كما يتفاوت من إختبار إلى آخر. فمثلاً نجد أن إختبار رموز الأرقام يظهر أكبر قدر من التناقص المصاحب لكبار السن وتفسير ذلك أن هذا الاختبار يعتمد الأداء عليه على عوامل السرعة والإدراك البصري وهي عوامل يطرأ عليها الضعف والتناقض مع كبر السن.
ويوجه النقد عادة للدراسات التي تستخدم الطريقة العرضية (ومن ضمنها دراسة وكسلر) لأن مقارنة العينات المختلفة في السن تنطوي على عدة مخاطر: فهذه العينات لا تختلف في العمر فقط بل تختلف في البيئة الحضارية التي نمت فيها ومن مقدار تعرضها لأساليب الإعلام والتثقيف التي تتزايد سنة بعد أخرى فحظ الجماعات الأصغر سناً أكبر من ناحية التعرض لهذه الوسائل الحضارية ولذلك فإنّ المقارنة تنطوي على بعض المحاذير.
ولقد أوضحت الدراسات الطولية التي تتبعت نمو الذكاء مع العمر أن الجماعات المتفرقة عقلياً والتي يستمر تعليمها المستوى الجامعة أو بعدها أو التي تعمل في مهنة عقلية تميل إلى أن تتحسن من أدائها على اختبارات الذكاء طوال الحياة بدلاً من أن تظهر تناقصاً أو انخفاضاً في هذا الأداء. ولعل هذه الملاحظات تجعلنا ننتبه إلى أهمية عمل مراجعات متكررة لمقاييس الذكاء لجعل معاييرها متلائمة مع التطورات الحضارية التي تميل إلى رفع الدرجات على اختبارات الذكاء.
- هل الذكاء موروث أم مكتسب؟
يعتبر هذا السؤال مشكلة عسيرة ومزمنة ترد في كل مناقشة لموضوع الذكاء. والإجابة المعتدلة هي أنّ الذكاء موروث ومكتسب معاً بمعنى أن هناك تفاعلات بين الوراثة والبيئة. ومهمة البحوث العلمية تحديد مدى إسهام كل من عوامل البيئة والوراثة في تشكيل الذكاء وبالرغم من كثرة البحوث في هذا الموضوع لا نستطيع حتى الآن أن نقول على وجه التحديد إلى أي حد يتوقف الذكاء على الوراثة وإلى أي حد يتوقف على البيئة وحتى لو عرفنا الإجابة المحددة فإنّه سيظل على الدوام مجالاً للفروق الفردية، فمثلاً إذا وضعنا طفلين يتيمين متساويين من ناحية الذكاء في منزل واحد تتوافر فيه كل خصائص البيئة النفسية والاجتماعية الممتازة، فقد يستفيد أحدهما ولا يستفيد الآخر.
وفيما يلي نعرض لأهم نتائج الدراسات المؤيدة للدور الفعال للوراثة: فحينما قارن العلماء بين تشابه معاملات الذكاء حسب درجات من الاتفاق الوراثي تبين لهم:
1- أنّ التوائم المتماثلة والتي تتماثل في رصيدها الوراثي (بنسبة 10%) تكاد تتطابق معاملات ذكائها.
2- التوائم الأخوية (نسبة الرصيد الوراثي 50% تقريباً) تظهر فروقاً أكبر في الذكاء من التوائم المتماثلة.
3- الأخوة الأشقاء أقل تشابهاً في معاملات ذكائها من التوائم الأخوية.
4- الأخوة غير الأشقاء يظهرون تباعداً أكبر في معاملات ذكائهم.
5- نسبة الأبناء المتخلفين عقلياً تزيد إذا كان الأبوان من المتخلفين عقلياً وتقل نوعاً إذا كان أحد الوالدين متخلفاً عقلياً.
6- تبين أنّ الأطفال المتفوقين عقلياً يأتون من أبوين مرتفعي الذكاء وتقل نسبة إنجاب المتفوقين عقلياً في الأسر التي تتكون من أبوين متوسطي الذكاء.
أما عن دور البيئة فقد أشارت العديد من الدراسات إلى عدد من العوامل لها تأثيرها في نسب الذكاء زيادة أو نقصاناً مثل:
- التغيرات الكبيرة في بناء الأسرة أو ظروف البيت.
- ظروف المرض الشديد أو المستمر.
- الاعتماد العاطفي لدى الأطفال في سن ما قبل المدرسة يرتبط بانخفاض نسب الذكاء.
- توفر فرص التعليم ونوعه وأسلوب تقديمه.
- كلام البالغين كثيراً مع الطفل (التنبيه الاجتماعي) حتى قبل أن يستطيع الإجابة يجعل نمو ذكاء الطفل يسرع في السنوات الأولى.
- اتجاهات الوالدين لها آثار كبيرة في نمو الذكاء، فالأطفال الذين يجدون من آبائهم قبولاً واحتراماً لشخصياتهم والذين يجدون تقديراً أو تشجيعاً لمجهوداتهم دون إجبار أو تدقيق في مطالبتهم بها يتقدمون في مدى ثلاثة أعوام بما يعادل ثمان درجات في المتوسط من نسبة الذكاء (حسب ستانفورد بينيه).
- في حين يفقد الأطفال الذين يشعرون بالإهمال قدراً قليلاً. ومن الواضح أنّه كلما كان الطفل صغيراً كان مجال التأثير الإيجابي للبيئة أكبر، فالسنوات الصالحة لتحديد الموقف النسبي للذكاء هي السنوات السابقة لدخوله المدرسة.
- الحرمان الحسي والعزلة البيئية: تؤثر في اتجاه انخفاض نسبة الذكاء (ما بين 12-20 درجة) كما اتضح من الدراسات التي تناولت أطفال من جماعات منعزلة في الجبال، وجماعات متأخرة حضارياً، وفي هذه الدراسات كانت نتائج اختبارات الذكاء العملية وهي التي تعتمد بدرجة أقل على التعليم تميل إلى أن تكون أحسن من نتائج الاختبارات اللفظية.
ولعل دراسة التوائم المتماثلة (الذين فصلوا منذ الطفولة ونشأوا في بيوت حاضنة) تلقي الضوء على أثر البيئة على الذكاء – ففي بحث متسع أجري على التوائم المتماثلة الذين فصلوا منذ الطفولة المبكرة درست حالة 19 منهم واختلفت النتائج من زوج إلى آخر، وقد أظهر التوائم اختلافات كبيرة في نسب الذكاء عندما كانت البيئات متباينة إلى حد كبير (المقصود هنا المؤثرات الثقافية والوجدانية وليس مجرد الاختلاف في المكان الجغرافي).
وفيما يلي نعرض للنتائج التي أمكن الحصول عليها من دراسة زوج من أزواج التوائم التسعة عشر موضع الدراسة، وهي الحالة التي كانت الاختلافات في البيئة كبيرة بدرجة تعطي نتائج قاطعة:
الحالة: توأمان فصل بينهما وهما في الشهر الخامس من عمرهما ورباهما الأقارب، وكان عمرهما 29 سنة عند بحث حالتهما. كانت الأولى واسمها مايل تعيش كريفية نشيطة في مزرعة ناجحة، وكانت الثانية واسمها ماري تحيا حياة مريحة في مدينة صغيرة وكانت تعمل في أثناء النهار كاتبة في أحد المخازن، وفي الليل تعمل مدرسة موسيقى وقد وصلت مايل على تعليم أولي في مدرسة ريفية بينما حصلت ماري على تعليم كامل في مدرسة ثانوية ممتازة في المدينة. وبعد إجراء الاختبار لوحظت فروق كبيرة بين الأختين التوأمين في النواحي الثقافية والوجدانية والجسمية، فوصفت مايل بأنها ممتلئة قوية العضلات وصحتها العامة جيِّدة في حين كانت ماري نحيلة ضعيفة العضلات سيئة الصحة عامة. ومن الناحية العقلية وجد فارق كبير بينهما في صالح ماري إذ حصلت على نسبة ذكاء قدرها (106) على اختبار ستانفورد بينيه في حين حصلت مايل على نسبة (89) فقط كما لوحظت اختلافات في سمات الشخصية، فوصفت التوأم الريفية بأنها أكثر ثباتاً واستقرار وسلوكها العصابي أقل ولا تقلق إلا قليلاً واستجابتها أقل انفعالية من التوأم التي نشأت في المدينة. وعموماً يعد مجال الفروق بين الجماعات والأفراد في الذكاء مجالاً خصباً للدراسات النفسية.
المصدر: كتاب (القوى العقلية.. الحواس الخمس)
* أخصائي علم النفس
ارسال التعليق