• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

ثقافة العمل المشترك

ثقافة العمل المشترك

◄قال الله تعالى في كتابه الحكيم: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة/ 2).

ونبدأ بهذه المقدَّمة قبل الدخول في صلب الموضوع.. حيث إنّ العمل يتنوّع إلى نوعين:

النوع الأوّل: العمل الفردي

لاشكّ أنّ العمل الفردي له قيمة كبيرة عند الله سبحانه وتعالى، ولاشكّ أنّ كثيراً من التحوّلات التاريخية حدثت على أثر أعمال فردية، ولاشكّ أنّ الأعمال الفردية لها دور كبير في الحياة الراهنة، وربّما يكون العمل الفردي ضرورة من الضرورات في بعض الحالات، وذلك ممّا لاشكّ فيه، ولكنّ هنالك قاعدة عامّة في الحياة ذكرها القرآن الكريم في مواضع متعدّدة، وهي أنّ المؤمن ينبغي عليه دائماً أن يتحرّى الأفضل، ويجب أن نفكّر هل هذا الوضع الذي نعيش فيه هو أفضل الأوضاع؟ أم هنالك وضع أفضل؟ وهل هذه الخطّة التي ننتهجها هي أفضل الخطّط؟

نحن عندنا نزعة إبقاء ما كان على ما كان، نظل نعيش في الماضي، فإذا كانت ثمّة خطّة جيِّدة يوماً ما، فلا يُعلم أنّ هذه الخطّة ستبقى جيِّدة إلى النهاية، لعلّها يوماً ما تتبدل، أو لعلّه توجد ما هو أفضل منها، فالمؤمن دائماً يعيش حالة تطلّع نحو الأفضل.

الله تعالى يشير إلى هذه الحقيقة في مواضع متعدِّدة من القرآن الكريم، مثلاً يقول الله تعالى: (وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا) (الكهف/ 24)، ولعلّ معنى الآية الكريمة كما يشير إليه بعض المفسرين إنّه ابحث عن الأقرب رَشداً، فإذا مشيت على خطّ، ابحث عن الأفضل، وقبل هذه القطعة من الآية يقول الله تعالى: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا) (الكهف/ 23)، ولعلّ معنى الآية كما يذكر بعض العلماء أنّه لا تحتم أنّي سأعمل هذا الشيء، لعلّه جاء الغد ولم يكن هذا الشيء الذي فكّرت فيه هو الأفضل، بل إنّ الله تعالى يشاء لك الأفضل (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ) (الكهف/ 23-24)، وهنالك تفسيرات أُخر في معنى هذه القطعة، يقول الله تعالى في القرآن الكريم: (يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) (الأعراف/ 145)، فالشريعة هي شريعة الله، وهل في شريعة الله تعالى حسن وأحسن؟ نعم، لأنّ الشريعة لها مجال عريض، (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) (الأعراف/ 145)، ويقول الله تعالى في آية أخرى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (الزّمر/ 18)، أمّا أن يجلس الواحد منّا في الغرفة المغلقة ويقول: إنّ ما انتهى إليه تفكيري هو الصيغة النهائية التي لا نهاية ورائها، فهو أمر مرفوض، بل اجلس مع الآخرين واستمع إليهم ولاحظ الأفضل وخذ به، وربّما يكون هذا الشيء أفضل، ولكن يأتي غداً بأفضل منه.

بعض المتديّنين اليوم غالباً ما تكون حركة أعمالهم فردية، يُولِّدون أفراداً ويعيشون أفراداً ويموتون أفراداً، هذه الحالة قد تكون جيِّدة في بعض الأحيان، ولكن قد يوجد هنالك أفضل من العمل الفردي وهو العمل الجمعي، وهذا لا يختص فقط بالمجالات العلمية، إنّما يشمل المجالات العلمية والمجالات العملية والاقتصادية والاجتماعية، فكيف يجب أن نعمل؟

وأمّا النوع الثاني فهو محور موضوعنا...

الفصل الأوّل: ما هي ضرورة العمل الجمعي؟

نذكر هنالك ثلاث ضرورات:

الأولى: مواجهة التحدّي

نحن نعيش اليوم في مواجهة تحدّيات ضخمة في المجالات كافة، هذه التحدّيات لا يوجد وراءها أفراد وإنّما قوى عالمية ضخمة مترابطة ومتكاتفة، فالصهيونية العالمية لا تمثِّل أفراداً، هنالك مثال معروف يقول: إذا اجتمع ثلاثة يهود كوّنوا ثلاثة تشكّلات، لأنّ من طبيعة اليهود التفرّق، والله تعالى يقول: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) (الحشر/ 14)، اذهبوا إلى المجتمع اليهودي في الدولة المحتلة، لتروا هناك أبشع أنواع التمييز بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين، فقد كُتبت كُتُبٌ حول هذه الظاهرة، فاليهود طبقتان تحتقر إحداهما الأُخرى، (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) فقد أخبرنا القرآن الكريم بذلك، ولكنّهم مع ذلك في قبال (العدو المشترك) أو ما يتصوّرونه عدواً مشتركاً، يكونوا كتلة واحدة.

الثانية: استمرارية العمل الفردي

يولد مع الفرد ويموت مع الفرد...

نحن نعيش في ظل أنظمة القائد الأوحد، فكلّ شيء يدور حول فرد واحد ومحور واحد، كلّ الخيوط بيد الفرد الواحد، وكلّ شيء يجب أن يمر عبره، هذا يرضي الذات ويرضي الأنانية ويرضي الكبرياء، فالفرد يعجبه أن يكون أنانياً وأن يكون كلّ شيء بيده، لا يحدث هنالك عمل إلّا بمشورته، وما من صغيرة ولا كبيرة إلّا تكون بمشورته ورأيه، وعندما يتمرض تتعطّل كلّ الأعمال، أو بعد فترة يموت، فيموت معه العمل، ويأتي هنالك فرد آخر ويبدأ من حيث بدأ الآخر.

يقول علماء الحضارة: إذا كلّ إنسان يبدأ من حيث بدأ الآخرون، لكنّا نعيش في عهد الكهوف الأولى - كما يدّعون- بينما الحضارة التي نعيشها مبنية على عنصر التراكم، لأنّ كلّ واحد بدأ من حيث انتهى الآخرون، وليس من حيث بدأ الآخرون، أمّا نحن فطبيعتنا في العمل، كلّ واحد يأتي ويبدأ من حيث بدأ الآخرون، لأنّ الأوّل جمع الخيوط في يديه واختزن التجارب لنفسه، وعندما يأتي الثاني يكون بدون تجربة فيبدأ أيضاً من نقطة البداية.

الثالثة: الرؤية المستوعبة

في العمل أبعاد متعدِّدة، فيه زوايا مختلفة، فعندما تنظرون إلى قضية، إنّما تنظرون إليها من زاوية معيّنة، فقضية الزاوية في النظرة، أو من مجموعة زوايا قضية مهمّة، بينما الظاهرة الواحدة تحتوي على زوايا متعدِّدة وكثيرة ومتنوّعة، فالظاهرة الواحدة فيها زوايا سياسية، وزوايا اقتصادية وزوايا اجتماعية، فهل يمكن للعقل الواحد أن يحيط بكلِّ هذه الزوايا؟

إنّ الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن ولا يغفله شأن عن شأن، نحن ننظر إلى زاوية معيّنة ونغفل بقية الزوايا، وعندما تكون هنالك مجموعة وعمل مشترك، فأنتم تنظرون من هذه الزاوية، فيما الآخرون يرشدونكم إلى بقية زوايا العمل التي غفلتم عنها.

أحد الروؤساء في العالم يُقال إنّ له أكثر من أربعمئة مستشار خاص يتشاور معهم، هذا الرئيس ذهب إلى منطقة من المناطق لتوقيع اتفاقية أو اتفاقيات ومعه جيش من الخبراء وقد ذكروا عددهم.

الفصل الثاني: القاعدة:

العمل المشترك يحتاج إلى قاعدتين: الأولى: القاعدة الفكرية، والثانية: القاعدة النفسية.

أمّا القاعدة الفكرية التي يحتاج إليها العمل المشترك فهي ثقافة العمل الجمعي، وهي الثقافة المفقودة عند الكثير منّا، فهل رأيتم مجموعة من العلماء أو من الفضلاء أو من المتديّنين يجتمعون ويؤلفون كتاباً مشتركاً؟

قد تفرض الظروف أحياناً العمل الفردي، فالواحد منّا يكون مجبراً أن يعيش في ظروف استثنائية، لكن نجد هذه الثقافة موجودة في الغرب، وهي التأليف المشترك.

وأما القاعدة النفسية، وهي المشكلة الكبرى عندنا، وهي القدرة على التعايش، من المؤسف نسمع عن - ثقافة التعايش - وفي النفس الوقت نحن لا نستطيع أن نعيش مع الآخر، الرجل لا يستطيع أن يعيش مع زوجته، إلّا في البعض، يقول الله تعالى: (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) (العنكبوت/ 41)، وبيت العنكبوت لا تعايش فيه، لأنّ الأُنثى تأكل الذكر في تفصيل، ونحن أيضاً فإنّ كثيراً من بيوتنا هي بالحقيقة بيوت العنكبوت، كلّها نزاع وخلاف وخصام، كما إنّ سلطانان في الكرة الأرضية لا يتمكنان من العيش معاً، لأنّ هذا يقول: أنا، وذاك يقول أيضاً: أنا، ويشنّ أحدهما الحرب على الآخر، أمّا فقيران فيتمكنان من العيش على سجادة واحدة.

إنّ ذاتنا هي المحور في هذ الوجود، وليس بالضرورة أن نُعبّر عن ذلك، لكنّه في الواقع ننظر إلى جميع الأُمور من خلال أنفُسنا.

جاء رجل إلى النبيّ (ص) كما في الروايات وقال: اللّهُمّ ارحمني وارحم محمّداً (ص) ولا ترحم معنا أحداً، فابتسم النبي (ص): «وقال يا هذا! لقد ضيّقت واسعاً»، إنّ رحمة الله واسعة، فنحن حتى في أدعيتنا هكذا، إذا عندنا مشكلة صغيرة في حياتنا فهي تؤرقنا ونفكّر فيها دائماً، بينما الملايين يموتون في العالم جوعاً وعطشاً.

ربّما تقولون أنّ الزوجة هي المقصّرة، فلتكن... فالذي يصمم على التعايش يتمكّن من ذلك، فبدل أن يخرب البيت ويشرد أطفاله وأولاده، يلتزم خيار التعايش، لأنّ البيت المتوتر يربّي أفراداً متوترين وقلقين، إذن، ليتعايش ويرتاح ويريح، وكذلك المرأة عندها نفس المشكلة، يقول بعض الأفراد: إذا كان الشريك جيِّداً وحسناً، كان الله قد اتّخذ شريكاً، مع إنّ اتّخاذ الله للشريك محال عقلي، أمّا اتّخاذنا للشريك فهو ليس بمحال.

عندنا تجّار صغار كلّ واحد يدور في فلكه الخاص، ثمّ تأتي الأيدي التي تعبث وراء الستار وتجعل السوق يعلو ويهبط، وتتلاعب بالبورصة، بحيث ترمي الكثيرين على الرمال، وهو ما حصل عند الكثير من التجّار الذين كان الواحد منهم تاجراً بالأمس واليوم عند درجة الصفر، والسبب لأنّه فرد يواجه قوّة اقتصادية كبرى متماسكة، فيعجز عن مواجهتها، إنّه الفكر المنغلق عند البعض، فهل نحن قادرون على العيش في هذا العالم المتحرّك والمتطوّر بسرعة مذهلة؟!

إنّ القاعدة الفكرية عبارة عن ثقافة العمل المشترك، والقاعدة النفسية عبارة عن القدرة على التعايش مع الآخر، لكن التعايش مسألة صعبة للغاية، وتحتاج إلى تربية وإلى تمرين.

الفصل الثالث والأخير: مظاهر العمل المشترك

نذكر مظهرين من مظاهر العمل المشترك:

الأوّل- المظهر العلمي:

أي مسألة كانت يجب التشاور بها، حتى ولو كان الشخص مجتهد وعنده قدرة إبداء الرأي والاستنباط، لكنّه يجب أن يسأل الأفراد المحيطين به حتى ولو أقل مقدرة.

الثاني- المظهر العملي:

لنحاول أن نجعل أعمالنا مشتركة، فإذا ذهبتم إلى منطقة ما، لا تكونوا فرداً وإنّما حاولوا أن تبدأوا مع مجموعة، وحاولوا أن تنمّوا مجموعة، حاولوا أن تفوّضوا الأعمال إلى مجموعة، حتى تنطلقوا، لأنّ الواحد إذا بقي في دائرة عمل معين سيبقى محدوداً، وعلى الواحد دائماً أن يرفع نفسه مثل النبتة التي تزرعونها في الأرض فإنّها ترفع نفسها شيئاً فشيئاً.►

ارسال التعليق

Top