تتمثّل القيمة الكبرى للعبادات الإسلامية أنّها لا تمثّل مجرد حالة وجدانية ذاتية غارقة في ضباب المحبّة وغيبوبة الخشوع ليبقى الإنسان بعيداً عن حركة الحياة عندما يقف بين يدي الله، بل هو تعبير عن الخطّ الإسلامي العملي في علاقة العبد بربّه، حيث يلتقي الجانب الروحي بالحياة في أوسع مجالاتها وأرحب آفاقها، ليتصوّر معها حياته التي تضجّ فيها الحركة، فنجد في الصلاة. التصوّر الإسلامي لله في صفاته المتصلة بحركة الحياة في مخلوقاته من التربية والرعاية والرحمة، وبطبيعة العلاقة التي تشدّ الإنسان إلى الله وبالتوجه إليه في مجال الصراع الذي تزدحم فيه التيارات الضالة والجاحدة في مقابل الخطّ المستقيم. فإذا التقينا بالحجّ، فإنّنا نلتقي بالعبادة الزاخرة بأكثر من معنى، فهي تلتقي بالصلاة في أجواء الطواف والسعي، والوقوف بعرفات والمزدلفة والمبيت بمنى، حيث يعيش الإنسان أعمق حالات التأمّل وأصفى مشاعره وأرفع درجاته. أمّا الإحرام، فإنّه يمثل الالتقاء بالصوم، حيث يفرض على الإنسان الالتزام الطوعي الاختياري بكثير من الأشياء التي تتصل بشهواته وعاداته وأخلاقه، فتمثل مرحلة تدريبية صعبة يتعلّم فيها الصبر والخشونة واحترام مشاعر الآخرين، واحترام كلّ شيء محترم حوله حتى الحيوان والنبات. إلى جانب دقّة الملاحظة عندما يراقب كلّ حركة من حركاته حتى سقوط الشعر وحلّ البدن والنظر في المرآة، أمّا رمي الجمار فإنّه يمثّل الرمز العملي للصراع مع الشيطان في ما تمثّله الجمرات من رمز.
وفي أجواء الحجّ، لابدّ لنا من أن ندرس المفاهيم التي يريد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يركّزها في عقله وقلبه، وأن يحرّكها في حياته من خلال الحجّ، لأنّ الحجّ كأيّة عبادة من العبادات، ليس مجرّد كلمات وحركات ووقوفات، ولكنّ العبادة، صلاة كانت أو صوماً أو حجّاً، تستهدف بناء إنسانيّة الإنسان للارتفاع بعناصر إنسانيته في انفتاحه على ربّه. فالمطلوب من الإنسان في هذه الحياة في كلّ الرسالات، أن يتقرّب إلى الله، وأن يعيش معه، ويفكّر فيه، وأن يذكره، وأن يتعبَّد له، وأن يطيعه، وأن يجعل دنياه في كلّ معانيها تجربة لما يحياه في الآخرة، وذلك بأن تكون دنياه لله، لتكون الآخرة في جوار الله. إذاً، الارتفاع بإنسانية الإنسان، وتقوية عناصر شخصيته وربطها بأصالة هُويّتها وقيمتها في انفتاحها على ربّها ومواقع مرضاته، هو من الأبعاد الحقيقية والأساسية لموسم عبادة الحجّ.
وهكذا يتحرّك الإنسان من عمل إلى عمل ليحقّق لنفسه البناء الروحي والفكري والعملي في أجواء العبادة التي يعيش في داخلها اللقاء بالله، وبذلك لا تشارك العبادة في عزل الإنسان عن الحياة، بل هي على العكس من ذلك، تدفعه دفعاً إليها بكلّ قوّة من موقع الروحية التي تعطي المادّة معناها دون أن تفقدها صفاتها المادّية، وقد لا يكتفي الإسلام في تحقيق معنى العبادة بما افترضه وشرّعه من أشكالها، بل يمتد بها حتى يجعل كلّ عمل محبوب لله عبادة إذا قام به الإنسان لوجه الله. فالحجّ تجربة عبادة ترفع من إحساس المؤمن بمسؤولياته في الحياة، فعندما يعود إلى موطنه ومجتمعه عليه واجب العمل بهذا الإحساس. وعندما نريد أن نحدّق بالحجّ في إيحاءاته وفيما يرمز إليه لنخرج من الاستغراق في ذاتية الأعمال إلى الانفتاح على الآفاق الواسعة التي بلّور فيها شخصية الإنسان المسلم ليعود من حجّه إنساناً منفتحاً على كلِّ مسؤوليته في الحياة منطلقاً من الساحات الواسعة التي كلّما عاش فيها مسؤوليته كلّما اتّسعت أكثر.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق