أسرة
النصّ القرآني هو نصّ عربي معجز ببلاغته وبيانه.. وقد استعمل القرآن أرقى أساليب البيان العربي، ومنها استعماله اللّفظ على الحقيقة والمجاز، فكان المجاز القرآني من أهمّ مباحثه اللّغويّة.. لذا درسَ علماء البلاغة هذا الموضوع دراسة تحليليّة وعلميّة مستفيضة..
إنّ الفرز بين الحقيقة والمجاز القرآني من أهمّ القضايا اللّغويّة.. فالتمّييز بينهما يترتّب عليه معرفة الدّلالة القرآنيّة، وما حَوَت من أحكام وفكر وعقيدة وثقافة ومعرفة.. بل تسبّب الخلط بين الحقيقة والمجاز في انحرافات عقيديّة خطيرة، وخلافات في استنباط أحكام فقهيّة خاطئة... مثل لفظ (الكرسي).. في قوله تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ) (البقرة/ 255).
ولفظ (اليمين) في قوله تعالى: (وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (الزمر/ 67).
ففسّر (الكرسي) و(اليمين) تفسيراً جسميّاً بعد أن فهمه البعض، وهما الظّاهريّة والمجسّمة، بأنّه استعمال حقيقي وليس مجازيّاً، فكان هذا الفهم منحرفاً عن عقيدة التوحيد، وعن تنزيه الله سبحانه عن مشابهة الخلق: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى/ 11).
فانتهى هذا الفهم إلى عقيدة التجسيم التي تؤمن بأنّ الله جسماً ويداً، ويجلس على كرسي... إلخ.
وكما تسبّب هذا الفهم الخاطئ في الإنحراف العقيدي، فإنّه تسبّب في الخطأ في استنباط الأحكام الشّرعيّة، عندما فهم البعض من المفسِّرين والفقهاء الاستعمال المجازي للّفظ بأنّه استعمال حقيقي.. ومن أمثلة ذلك، تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء/ 43).
فقد فسّر بعض المفسِّرين والفقهاء كلمة: (لَامسْتُم النِّساءَ) الواردة في هذه الآية الكريمة بملامسة جسد الرجل لجسد المرأة.. كلمسها باليد أو تقبيلها.. واعتبره ناقضاً للوضوء ذلك لأنّهم فسّروا الكلمة بمعناها الحقيقي وليس بالمعنى المجازي، في حين فسّرها فريق آخر بالمعنى المجازي من فهمهم (الكناية) في لغة العرب، فقد استعمل القرآن كلمة (الملامسة) كناية عن المواقعة الجنسيّة.. وذلك يعني أنّ لمس الرجل للمرأة لا ينقض الوضوء، ولا يوجب الغُسْل.
ومن المفيد أن نعرض بعضاً من آراء الفريقين كدليل على أهمية (الحقيقة والمجاز) في التفسير، فهي: "اختلف السّلف – رضوان الله عليهم – في المُراد من الملامسة في قوله تعالى: (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ)، فذهب عليّ وابن عبّاس، والحسن إلى أنّ المُراد به الجُماع وهو مذهب الحنفيّة، وذهب ابن مسعود وابن عمر والشّعبي إلى أنّ المراد به اللّمس باليد وهو مذهب الشافعيّة.
قال ابن جرير الطّبري: "وأولى القولين في ذلك بالصّواب قول مَنْ قال: عنى الله بقوله: (أو لامَسْتُمْ النساء): الجُماع دون غيره من معاني اللّمس، لصحّة الخبر عن رسول الله (ص) أن قبّل بعض نسائه ثمّ صلَى ولم يتوضّأ. ثمّ رُوي عن عائشة، قالت: "كان رسول الله يتوضّأ ثمّ يُقبِّل، ثمّ يصلِّي. وعن عائشة: أنّ رسول الله (ص) قبّل نساءه ثمّ خرج إلى الصلاة، ولم يتوضّأ. قال عروة[1]: قلتُ مَن هي إلا أنتِ؟ فضحكت"[2].
"وقد اختلف الفقهاء في مسِّ المرأة، هل هو ناقض للوضوء أم لا؟ على أقوال:
1- فذهب أبو حنيفة إلى أنّ مسّ المرأة غير ناقض للوضوء سواء كان بشهوةٍ أم بغير شهوة.
2- وذهب الشافعي إلى أنّ مسّ المرأة ناقض للوضوء بشهوةٍ أم بغير شهوة.
3- وذهب مالك إلى أنّ المسّ إن كان بشهوةٍ انتقض الوضوء، وإن كان بغير شهوةٍ لم ينتقض"[3].
وقال الطّوسي والطّبرسي، وهما من أعلام المفسِّرين، إنّ المقصود بهذه العبارة: هو الجُماع، وهو مذهب الشيعة الإماميّة.
ومثل كلمة (لامس).. كلمة (مسَّ) التي جاءت في قوله تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة/ 237).
فقد اختلف المفسِّرون والفقهاء في تفسيرها.. هل المقصود بالمسِّ هو المسّ الحقيقيّ، أم المجازي..
فإنّ المعنى الحقيقي لكلمة (مسّ) هو: المسّ المعروف.. كالمسّ باليد.. غير أنّ القرآن استعملها هنا على طريقة العرب المجازيّة استعمالاً مجازيّاً، فكنّى بها عن (الجماع).
فيكون معنى الآية: (مِن قبل أن تُواقِعُوهُنّ، أو تُجامِعُوهُنّ).
ومعنى ذلك أنّ للمراد نصف المهر.. إذا طُلِّقت من قبل أن يواقعها الزوج.. وليس المقصود هنا هو المسّ المعروف.. كمسِّها باليد.
قال الفخر الرّازي: "بيان المقدّمة الثانية: وهي أنّ هاهنا وجد الطّلاق قبل المسيس، هو أنّ المراد بالمسيس: إمّا حقيقة اللمس باليد، أو جُعِل كناية عن الوِقاع، وأيّهما كان فقد وُجِد الطّلاق قبله" يُراجع الرّازي.
ويذهب الشّيخ الطّوسي والطّبرسي في تفسيريهما إلى أنّ المقصود بكلمة (تمسّوهنّ) هو المعنى المجازي.. والمقصود هو الجماعُ والمواقعة، فيكون للمطلّقة قبل المواقعة نصف المهر.
علاقة الإعراب بفهم القرآن وتفسيره
من الواضح أنّ هناك علاقة وثيقة بين فهم المعنى وإعراب الكلمة.. فالكلمة أو الجملة التي تُعرَب حالاً لها معنى، والكلمة التي تُعرَب تمييزاً لها معنى آخر.. والكلمة التي تقع مفعولاً لأجله لها معنى يختلف عن الكلمة التي تقع مفعولاً معه أو فيه أو به، وواو الابتداء يختلف في دلالته عن واو العطف والمعيّة.. وهكذا فإنّ معنى الكلمة في الجملة يرتبط فهمه بوضعه الإعرابي.. كما لإعراب الجمل دلالته على المعنى أيضاً.
ووقع الخلاف في فهم بعض الآيات بسبب الاختلاف في الإعراب.. لذا فإنّ المفسِّر يعتمد في فهمه للمعنى من فهمه للإعراب..
ولأهمِّيّة الإعراب في فهم المعنى.. قام أكابر علماء النّحو بإعراب القرآن.. وحسب مدارسهم النحوية، فإنّنا نجد الإختلاف بينهم في بعض المواقع.. بل نجد المفسِّرين يلجأون أحياناً لإعراب الكلمة أو الجملة مقدّمة لتحديد معناها..
وكمثل على الخلاف في الأحكام بسبب الخلاف في الإعراب، هو الخلاف في إعراب آية الوضوء:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[4] (المائدة/ 6).
اختلفوا في: هل كلمة: (وأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ) معطوفة على (أيدِيَكُمْ).. أو معطوفة على (بِرُؤُسِكُمْ)..
فذهب الشّيعة الإماميّة إلى العطف على (الرّؤوس).. لذا يجب مسحها، وذهبت المذاهب السنيّة إلى أنّ العطف على (الأيدي).. لذا يجب غسل الأرجل.. لأنّ المعطوف يأخذ حكم المعطوف عليه.
القراءة وفهم المعنى:
من الواضح أنّ هناك قراءات عديدة تُقرأ بها بعض كلمات القرآن؛ كالقراءات السّبع المشهورة بين القرّاء.
وتعريف القراءة القرآنية الأدقّ هو: "النّطق بحروف القرآن كما نطق بها النّبيّ(ص)"[5].
ومن الواضح أنّ الاختلافات في القراءة ينتج عنه أحياناً اختلاف في المعنى.. مثل الاختلاف في قراءة قوله تعالى:
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة/ 222).
قال المفسِّر الكبير – الطّبرسي – في مجمع البيان:
"(ولا تقربوهنّ) بالجماع، أو ما دون الازار على الخلاف فيه.. (حتّى يطهرنَ) بالتخفيف، معناه: حتّى ينقطع الدم عنهنّ، وبالتّشديد، معناه: يغتسلنَ، عن الحسن، ويتوضّأن، عن مجاهد وطاووس، وهو مذهبنا".
وكان الطّبرسي قد نقل الاختلاف في قراءة (يطهرنَ).. فقال: قرأ أهل الكوفة، غير حفص: "حتّى يَطَّهَّرْنَ"، بتشديد الطّاء والهاء. والباقون بالتّخفيف..
وهكذا يتّضح أثر القراءة في فهم المعنى، واستنباط الحكم الشّرعي الذي تحمله الكلمة.
أهمِّيّة أسباب النّزول في فهم القرآن
ومن العناصر المعتمدة في تفسير القرآن وبيان معانيه ومقاصده ودلالاته، هو أسباب نزول الآية.. فإنّ بعض الآيات نزلت لأسباب وحوادث وأسئلة من المجتمع المعاصر للنّبيّ (ص)، فكانت بياناً للحكم أو الموقف الذي نزلت بسببه.. ونزلت معظم آيات القرآن ابتداءً وبياناً للدِّين ومناهجه ورسالته في الحياة من غير أن يكون لها سبب نزول.. وأنّ معرفة سبب النّزول تدلّنا على معرفة المقصود القرآني..
فبعض الآيات نزلت تتحدّث عن مواقف بعض المشركين أو المنافقين، أو المؤمنين والمجاهدين، أو تتحدّث عن أزواج النبي وأهل بيته (ع)، ولم تُسمِّ أشخاص الحادثة، غير أنّها سمّت النبي (ص) ولم تُسمِّ نساءه أو أهل بيته، ونزلت فيها آيات تتحدّث عن تلك الحادثة وتُبيِّن الحكم فيها.. مثل:
(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)[6] (التحريم/ 3-4).
جاء في أسباب النّزول للواحدي: قوله تعالى: (إنْ تَتُوبا إلى اللهِ) الآية: "أخبرنا أبو منصور المنصوري، أخبرنا أبو الحسن الدّار قطني، أخبرنا الحسن بن إسماعيل، أخبرنا عبدالله بن شبيب، قال: حدّثني أحمد بن محمد بن عبدالعزيز، قال: وجدتُ في كتاب أبي، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله، عن ابن عبّاس، قال: وجدت حفصة رسول الله (ص) مع أمّ إبراهيم في يوم عائشة، فقالت: لأخبرنها، فقال رسول الله (ص): هي عليَّ حرام إن قربتها، فأخبرت عائشة بذلك، فأعلم الله رسوله ذلك، فعرّف حفصة بعض ما قالت، فقالت له: مَن أخبرك؟ قال: نبّأني العليم الخبير، فآلى رسول الله (ص) من نسائه شهراً، فأنزل الله تبارك وتعالى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) الآية"[7].
ومن الآيات التي لها سبب نزول مُفسِّر، هي: آية التّطهير، التي تتحدّث عن أهل البيت (ع)، أهل بيت النّبيّ (ص).. فعُرف بذلك ما المقصود بأهل البيت (ع)، قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب/ 33).
فإنّها نزلت في أهل بيت النّبيّ (ص) (عليّ وفاطمة والحسن والحسين).. ولم تُسمِّهم، فسمّاهم الرّسول (ص) عندما جمعهم في بيت أمّ سلمة (رض)، وجلّلهم بردائه، وقال: "اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي، فأذهِبْ عَنْهُم الرِّجس وطهِّرهُم تطهيراً"[8].
ومن الأمثلة على ذلك آية المباهلة:
(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)[9] (آل عمران/ 61).
فإنّ سبب نزول هذه الآية هو مجيء وفد من نصارى نجران إلى المدينة المنوّرة لمحاججة النّبيّ (ص) والتعرّف على نبوّته.. فأمرهُ الله سبحانه في هذه الآية أن يُباهلهم هو ومَن أشارت إليهم الآية.
فخرجَ رسول الله (ص) يوم المباهلة ومعه: "عليّ وفاطمة والحسن والحسين (ع)"، فعرفَ النّاس أنّ المقصود بأبنائنا: الحسن والحسين، وبنسائنا: فاطمة بنت الرّسول (ص)، وبأنفسنا: النّبيّ (ص) وعليّ (ع).. فخاف النّصارى من الانتقام الإلهي، وتراجعوا عن المباهلة، وصالحوا النّبيّ (ص)، وبقوا على دينهم.
ومن الأمثلة على سبب النزول، ما جاء من آيات في سورة المجادلة:
(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (المجادلة/ 1-2).
تتحدّث هذه الآية عن مظاهرة[10] النِّساء وأحكامها في الشّريعة الإسلامية.. بعد أن ظاهرَ أحد الصّحابة أوس بن الصّامت زوجته خولة بنت ثعلبة، فآلمها الموقف، وجاءت إلى النّبيّ (ص) تشكو ما فعل زوجها، فأنزل الله سبحانه هذه الآيات لبيان أحكام الحادثة.. وهي أحكام عامّة وشاملة في كلِّ زمانٍ ومكان.. فإنّ سبب النّزول لا يقتصر الحكم فيه على الحادثة، بل هو حكم عام وشامل لكلِّ زمانٍ ومكان إلا ما كان مقصوراً على شخص النّبيّ (ص) ذاته أو أشخاص معنيين.
ومن الأمثلة على سبب النّزول، ما نزل من آيات بعد معركة أُحد، تُبيِّن أنّ العقاب يجب أن يكون بالمثل، ولا يزيد على الجريمة، وفيها أيضاً دعوة إلى العفو وترك العقوبة، بعد أن توعّد المسلمون المشركين بالعقاب المضاعَف بسبب قتلهم حمزة، عمّ النّبيّ (ص)، وحين نزلت الآية:
(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (النحل/ 126).
عفى رسول الله (ص) عن قتلة حمزة.. والآية لم ينته حكمها في حدود الحادثة، بل هو مستمرّ على امتداد الزّمان والمكان..
ولأهميِّة هذا الموضوع في التّفسير ومعرفة مقاصد القرآن، ألّف العلماء المختصّون كتباً عديدة في أسباب النّزول، غير أنّ هذه الكتب تأثّرت في بعض مواردها بالرّوايات غير الصحيحة، لذا فإنّنا نحتاج إلى تحقيق وتدقيق الرّواية والتّوثّق من صحّتها قبل العمل بها.
[1]- عروة بن الزبير بن العوّام، هو ابن أخت عائشة (اُمّه أسماء بنت أبي بكر).
[2]- الطّبري، جامع البيان، ج5، ص105.
[3]- محمدعلي الصابوني، روائع البيان في تفسير آيات الأحكام في القرآن، ج1، ص487.
[4]- يمكن القول أنّ المسلمين ليسوا بحاجة إلى هذا النِّزاع في إعراب آية الوضوء.. فإنّ الرسول (ص) كان يتوضّأ أمام المسلمين، والمسلمون يقتدرون به لسنين عديدة، ويتوضّأون كما يتوضّأ.
[5]- الدكتور الشيخ عبدالهادي الفضلي، القراءات القرآنية، ص56، دار القلم، بيروت.
[6]- الواحدي، أسباب النزول، ص248.
[7]- الواحدي، أسباب النزول، ص292-293.
[8]- صحيح الترمذي، ج5، ح3259، تفسير الطبري، ج22، مسند أحمد بن حنبل، ج3، ص259.
[9]- لمزيد من المعلومات، يراجع تفسير الزمخشرين وتفسير الرازي وتفسير الطّبري، ويراجع صحيح مسلم والترمذي.
[10]- الظِّهار: هو لون من ألوان الطّلاق في الجاهلية.. وصيغته عندهم هو أن يقول الرجل لزوجته: "أنتِ عليَّ كَظَهْرِ أمِّي".. فحرّم الإسلام هذا الطّلاق.
تعليقات
عمرشجوعبدالله
أفيدونا بارك الله فيكم