• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

صناعة البيئة التربوية المناسبة

صناعة البيئة التربوية المناسبة
التربية عبارة عن مشاعر وأفكار تجديدية، إن ركدت فسدت ولم تعد مقبولة

التربية هي (بذرة وتربة)، فالتشبيه هنا أنّ التربة هي بمثابة البيئة التربوية الصحيحة التي تدار داخلها عملية تربية الأبناء، والبذرة هم الأبناء بذواتهم وشخصياتهم، فمن المحال أن تنبت هذه البذرة ويقوى عودها وتكون صالحة للحياة إن كانت التربة التي وضعت فيها فاسدة، حتى لو أتقنت عملك في زرعها ورعايتها، لأنّ الأصل فاسد، وما بُني على خطأ فهو خطأ.

كذلك هي البيئة التربوية في جهة والأبناء في جهة أخرى، بينهما ترابط وتأثير عميقان جدّاً، فبصلاح البيئة المحيطة ينصلح حال الأبناء، وفي المقابل فساد البيئة المحيطة يفسد بها حال الأبناء، فالبيئة التربوية تعني: الجو المحيط بالأبناء من كلّ الجوانب، والذي ينمون وينضجون من خلاله.. فكل شخص أو جهة لها احتكاك مع المتربي تدخل ضمن البيئة التربوية لهذا الفرد، ولأهمية هذه القطعة، سأوضح لك عزيزي المربي من هم الأطراف الأساسيون في تشكّل البيئة التربوية المحيطة بأبنائنا بقادم الأسطر.

 

1-    الوالدان:

أوّل عامل من حيث الأهمية والتأثير لصناعة بيئة تربوية مناسبة للمتربين هو (الوالدان)، لأنّهما صاحبا الاحتكاك المباشر واليومي مع أبنائهما، فالعاطفة والترابط بينهم موجودة بالفطرة، والمهم أيضاً أن يكون تشكُّل ذواتُ الأبناء من الناحية البيولوجية والنفسية دائماً في المراحل الأولى من حياتهم، والتي يكونون فيها على تواصل حصري مع والديهم دون العوامل الباقية التي تؤثر كذلك في صناعة البية التربوية، ولكن ليس في هذه المرحلة من حياتهم، وأقصد فيها عمر الأشهر الأولى إلى سن السنتين.

وحتى تصل إلى الجو المثالي في تطبيق هذا العامل مع الأبناء، يجب:

أ‌)       أن تكون قدوة صالحة في أقوالك وأفعالك أمامهم.

ب‌) أن يكون جزء كبير من وقتك مخصصاً لهم، تعايشهم فيه، تسمع لهم تارة وتكلمهم تارة أخرى.

ت‌) أن تراقب تصرفاتهم وتطور سلوكياتهم بشكل غير مباشر دون شعورهم بأنهم تحت المراقبة.

ث‌) أن توفر لهم جواً من الإيجابية والتفاؤل والأمان وتغدق عليهم بكلمات التحفيز والتشجيع.

ج‌)   توحيد نظام الثواب والعقاب بين الوالدين، بحيث لا يشعر الأبناء بأن أحد الوالدين يخالف الآخر في هذا النظام وهذا يتطلب الجلوس بين الأب والأُم لمناقشة هذا النظام والعمل على تطبيقه معاً.

ح‌)   مشاركة الأب والأُم في عملية التربية داخل البيت فلقد أثبتت دراسة علمية أنّ الأبناء الذين اشترك في تربيتهم كلّ من الأب والأُم تكون نسبة ذكائهم ووعيهم أكبر من الآخرين الذين تربوا على يد أب فقط أو أم فقط!

تطبيق البنود السابقة سينتج عنه أثر إيجابي في شخصية المتربي، فالوالدية هي الحضن التربوي الأوّل الذي يتعلم فيه القيم والمهارات والآداب، خصوصاً في السنوات الأولى التي تتشكل فيها عقلية المتربي وطريقة تعامله مع من حوله.

ورحم الله أبا العلاء المعري، إذ قال في أبياته الشهيرة

مشى الطاووس يوما باعوجاج *** فقلد شكل مشيته بنوهُ

فقال: علام تختالون؟ قالوا *** بدأت به ونحن مقلدوه

فخالف سيرك المعوج واعدل *** فإنك إن عدلت معدلوه

أما تدري أبنانا كلّ فرعٍ *** يجاري بالخُطى من أدَبوه!

وينشأ ناشئ الفتيان منّا *** على ما كان عوَده أبوه

وما دان الفتى بِحِجى ولكن *** يعلمه التدينَ أقربوه

 

2-    المدرسة:

في أكثر من مناسبة، يتم سؤالي هذا السؤال: من له الدور الأكبر في التربية؛ البيت أم المدرسة؟ فيُطلب مني الاختيار بينهما بشكل عام، ودائماً  كنت أجيب بأنّ الإجابة بحاجة إلى تفصيل، فليس من الصحة أن أقول (البيت له التأثير الأكبر أو العكس) فالموضوع أكبر من ذلك وسأورده في قادم الأسطر.

المدرسة لها دور عميق جدّاً في التأثير على المتربين، وهذا التأثير يتصاعد أكثر كلما كبر الأبناء، فمثلاً، في المراحل الأولى من حياتهم يكون تأثير البيت هو الأكبر من المدرسة وبفارق كبير خصوصاً في سنوات (السنة الأولى إلى 6 سنوات) لكن يبدأ بعدها تأثير المدرسة بالتصاعد الكبير بسبب رغبة المتربين التصاعدية في الاستقلال الفكري عن الأسرة، فيبدأ بالرغبة في تلقي المعلومات والاهتمامات من خارج البيت (أي من أشخاص آخرين خلا الأب والأُم) ربما كان من صديق أو معلم في المدرسة، فمن هنا تحديداً يبرز دور المدرسة في بلورة صلاح شخصيات المتربين، فالمدرسة ذات البيئة الصحية ستلقي بثمارها عليهم بشكل إيجابي، والعكس كذلك.. المدرسة ذات البيئة الملوثة ستلقي بثمارها سلبياً على المتربين.

فمن الخطأ الجسيم من قبل بعض المربين أن يعتبر المدرسة مركزاً أكاديمياً يتحصل منه المربون على القوة والمهارة الأكاديمية فقط، بل هي مركز تربوي قبل أن يكون مركزاً أكاديمياً، فلِكَي تصل أيها المربي إلى البيئة التربوية المناسبة في المدرسة، عليك أن تحرص وباهتمام شديد وبعناية فائقة على اختيار المدرسة التي سينتمي إليها المتربي، وهي ذات صفات ثلاث:

·      ذات مرافق تعليمية وترفيهية جاذبة.

·      قوة الكادر التعليمي من معلمين وإداريين.

·      لها برنامج وتوجه خاص في الشأن التربوي والسلوكي الحميد.

ولن تستطيع إيجاد هذه الصفات الثلاث إلا بعد ذهابك للمدارس بنفسك واطلاعك عليها وعلى مرافقها الداخلية، وأيضاً جلوسك مع مديرها وبعض معلميها للحديث والنقاش معهم في أهداف المدرسة وطرق التعليم فيها وعن مستوى الطلبة فيها، ومن باب التأكيد، تستطيع سؤال من حولك (أقربائك – أصدقائك) عن المدارس الجيدة ذات البيئة التربوية المناسبة، فما خاب من استشار.

فإجابتي عن السؤال: أنّ البيت والمدرسة لهما علاقة تكاملية في التأثير على المتربين، ففي المراحل الأولى لعمر الإنسان يكون تأثير البيت أكبر ومع تقدم سنه يكبر معه تأثير المدرسة إلى أن يصل في فترة المراهقة إلى أن يكون تأثير المدرسة أكبر بشكل ملحوظ، لذلك وجب عليك الحرص على نوعية المدرسة حتى لا تكون أداة هدم لما تم بِناؤه في البيت.

 

3-    الأصدقاء:

يقول عالم الاجتماع والتاريخ ابن خلدون – رحمه الله – في مقدمته الشهيرة: "الإنسان اجتماعي بطبعه"، فلا يوجد شيء قد يُغني هذه الطبيعة الاجتماعية إلا الجماعة والاجتماع.. والأصدقاء إحدى مظاهرها.

فعندما يأتي مربي ويحرم من حوله من الاجتماع مع الأصدقاء من باب خوفه وحرصه عليه، فإنّه بهذا التصرف يحرمه من حاجة فطرية اجتماعية فيه، قد يسبب هذا الحرمان من الخروج والتنزه مشاكل نفسية وسلوكية خطيرة، لذلك ولأهمية الصحبة في تنشئة الفرد تنشئة صالحة أو فاسدة، كان لابدّ من المربي أن ينتبه لهذه البيئة الصداقية كما ينتبه لبيئة البيت والمدرسة، ويكون هذا الحرص يجعل المتربي يتشارك مع أصدقائه بالخروج للتنزه والاجتماع والحوار معهم، مع الحرص على أن يكون هذا السماح مرتبطاً بشروط يهيؤها المربي للمتربي من دون شعوره. وهذه الشروط هي:

أ‌)       الاتفاق مع المتربي على ساعات خروج محددة، بحيث لا تكون مفتوحة وغير مقيدة بيوم أو عدد من ساعات.

ب‌) إفساح المجال لخروجه مع أصدقائه لا يعني أن يخرج مع من يشاء، فلابدّ أن يحدد المربي صفات بعينها، ويُتفق مع المتربي على أن تكون موجودة في شخصية الصديق، ويبين له أهمية هذه الصفات، وأنها ستكون سبباً في نجاحه وسعادته.

ت‌) في حالة التأكد من أنّ المتربي يصاحب مجموعة أصدقاء فاسدين أخلاقياً؛ يتدخل المربي بشكل مباشر ويمنعه من مصاحبتهم مع تبيان السبب للمتربي وخطورتهم عليه كي يقتنع بهذا المنع.

هذه الشروط يجب أن يعلم بها المتربي ويقتنع بفائدتها عليه وفائدة الاقتناع في هذه الجزئية أنّه سيكون محاسباً لنفسه قبل محاسبة المربي له في حالة مخالفته لها، وقد يسأل البعض ما هي الصفات التي يجب توافرها في الصديق الصالح النافع؟

للإجابة على هذا السؤال المهم أضع لك خمسة شروط ذكرها الدكتور عمر عبدالكافي وهي: "إذا رآك غافلاً ذكرك، وإذا رآك، ذاكراً أعانك، وإذا رأيته: ذكَّرتك بالله رؤيته، أن يدلك على الله حاله، وأن يزيدك في العلم منطقه".

 

4-    الإعلام:

العامل الأخير الذي يجب أن ينتبه له المربون عند تكوين البيئة المحفزة لتربية صالحة هو "الإعلام" وهذه الكلمة تشمل العديد من الأشياء منها: (التلفاز – الراديو – التويتر – اليوتيوب – الفيسبوك.... وغيرها)، وتكمن خطورة عامل الإعلام وتأثيره الهدّام أو البنّاء في شخصية المتربي في أنّه وسيلة غير مباشرة تؤثر بشكل عميق جدّاً في عقول أبنائنا عبر رسائل غير مباشرة تبثها البرامج والمقاطع في العقول، مما ينتج عنه تأثرهم الشديد بهذه القيمة المرسلة، سواء كانت قيمة إيجابية أو سلبية.

فالإعلام في الزمن الحديث هو إعلام مستقل، أي أنّه موجه نحو أهداف خفية بالنسبة للجمهور تهدف إما إلى تكوينه التكوين الصحيح أو السير به إلى الهاوية، لذلك كان من المهم أن تتم مراقبة هذه الوسائل الإعلامية من قبل المربين بحيث لا يكون القرار هو حرمان الأبناء منها لأن فيها ما هو نافع، ولا أن يكون القرار موافقة بالمطلق غير المقيد، فلا إفراط ولا تفريط، والأسلم أن يتم السماح لهم بالانتفاع من هذه الوسائل والبرامج مع وجود شيئين هما:

الأوّل: شروط تهدّف المشاركة أو مشاهدة هذه الوسائل أو البرامج وتجعلها مفيدة.

الثاني: وجود المراقبة المستمرة غير المباشرة مع قِبل المربين على المتربين لأن افتراض حسن النية في هذه المواقف غير صحيح.

 

المصدر: كتاب المُربِّي (كيف نربي في الزمن الحديث؟ 12 قاعدة مبسطة ومبتكرة) للكاتب عبدالمحسن العصفور

ارسال التعليق

Top