الطبيعةُ ليست طَبعاً واحداً، هي - كما هو أخوها الإنسان - طِباع كثيرة مصطرعة، تهدأ وتلين وترق وتستكين فتبدو رائقة شفّافة وادعة، وتغضب بعصف وقصف رياحها المزمجرة ودمدمات عواصفها المدمِّرة، وتجيش وتموج بهيجان أمواج بحورها، وتثور بانفجار براكينها، وتزلزل القلوب بزلزلة الأرض تحت أقدامنا، وتهجم بفيضاناتها الكاسحة المبتلعة للإنسان والحيوان والنبات والدُّور والأثاث في مشهد أقرب ما يكون لمشهد تصويري تقريبي لمشهد من مشاهد قيام الساعة..
وتشبُّ عواصفها ورعودها وبروقها فتخترق السمع كأنّها تمرين وتجربة لنفخة بوق إسرافيل التي تعمّ الأسماع كلّها حتى لا يبقى مَن لا يصله النداء الأخير لانطلاق الرحلة الختامية إلى لقاء الله!
وطِباعُ الطبيعة قريبة الشبه بطِباع الإنسان الهادئ الغاضب، الوادع الثائر، الرزين المتقلِّب، ولا عجب ولا غرابة، فخالقُ (الطبع) في الإنسان وخالق (الطبيعة) واحد، والمقاربة أو المقارنة أو المقابلة بين المخلوقين علامة من علامات الوحدانية، ودلالة من دلالات العظمة، وإشارة إلى أنّ الإنسان وأُخته الطبيعة شقيقان، وربّما توأمان.
والمشتركات بين طِباع الإنسان وطِباع الطبيعة كثيرة، منها:
- كلاهما دليل القدرة والعظمة الإلهية.
- كلاهما مُتعدِّد ومُتنوِّع.
- كلاهما مفروضةٌ عليه طاعة الله والخضوع لإرادته ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾ (الرَّعد/ 15).
- لكلٍّ قوانينه الحاكمة.
- كلاهما يعيش المرحلية والتغيير.
- كلاهما مُتقلِّب.
- كلاهما قابليات مختلفة سِعةً وضيقاً.
- كلٌّ منهما يحتاج إلى عناية الله ورعايته، فلا يستغني عنهما بحال.
- كلاهما فانٍ ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ (الرحمن/ 26-27).
وكما هناك نقاط اشتراك، هناك نقاط تباين وافتراق:
- الإنسان ناطق بلسان، مُعرِب ومُعبِّر عن مكنونات ذاته وعقله بالبيان، والطبيعةُ قد تبدو صمّاء خرساء؛ لكنّ لها لغتها أيضاً، وهذا ما سنتبيّنه في مبحثٍ لاحق بإذن الله.
- الإنسانُ عاقلٌ عقلاً فذّاً، وللطبيعة حدودٌ من الوعي والإدراك النسبيّ.
- الإنسانُ مُريدٌ مُختار، والطبيعةُ مُسيَّرة، وخاضعة لإرادة تكوينية لا تتخلّى ولا تتخلَّف عنها؛ لكن صريح القرآن يدلّ على أنّها مُختارة أيضاً، تأمَّل قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا﴾ (الأحزاب/ 72).
هناك (عرض) و(رفض)، إذن يُمكن أن يُقال بأنّ هناك نوعاً من الإرادة، وتأمَّل أيضاً: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ (فُصِّلت/ 11).
- الإنسانُ في خدمة أخيه الإنسان، والطبيعةُ في خدمة الإنسان، كما أنّ الإنسان في خدمة أُخته الطبيعة أيضاً.
- الإنسانُ حُر، ليس حرّيةٌ مطلقة لأنّه محكوم بسلسلة قوانين تكوينية واجتماعية وتشريعية، والطبيعة ليست حُرّة، بل خاضعة خضوعاً مُطلقاً لقوانينها.
وللطبيعة بعد هذا انعكاساتها المدروسة والمقررة والثابتة على طِباع أخيها الإنسان، فقد يعيش إنسانٌ ما في المناطق الباردة فتبرد أعصابه أو تتبارد فلا يثور لأتفه الأسباب، وقد يحيا في أماكن حارّة فتلتهب أعصابه كأنّها أعوادُ ثُقاب، فيكون أشدَّ هيجاناً وغضباً واحتداماً واشتعالاً من أخيه القريب من القطبين، وقد يسكن إلى جوار الأنهار والخضرة المنسدلة المنتشرة، فَيَلين طبعه، وترقُّ مشاعره، وتنمو روحُ الدعابة والفُكاهة والغزل والرقّة عنده، وقد يُجاور ويُرافق عُرِيَ الصحراء فيبدو صريحاً واضحاً جريئاً قويّاً مُندفعاً مُتهوِّراً، ولكلّ قاعدة استثناءات، ذلك أنّ الإنسان محكومٌ بعوامل مختلفة ليست الطبيعةُ إلّا أحدها لا أوحدها، فكما أنّ بُستان الطبيعة الواحد يحملُ أشجار الحمضيات من الفواكه، يحمل كذلك أشجار الفواكه حلوة المذاق، وربّما حَملَ الصبّار والحنظل، وكما تُجاورُ الطفيليات والأدغال والأعشاب الضارّة النباتات الصالحة الطيِّبة النافعة المثمرة، فكذلك في عالم الإنسان الذي فيه (خيرُ البريّة) و(شرّ البريّة)؛ لكنّ القواعد تُقاس بمعدّلاتها ومتوسّطاتها لا بشواذها واستثناءاتها، فالنباتات الشوكية تتكاثر في بريّة الصحراء الموحشة القاسية، والنباتات الغضة الطرية تنتشر على ضفاف الأنهار وبالقرب من المسطّحات المائية، فتنمو في بيئة مترفة ناعمة في الحدائق والبساتين، وكما أنّ بعض الأشجار لا تنمو، إذا غُرست في غير موطنها، أو قد تنمو ولكنّها لا تُثمر، أو قد تُثمر ولكن ليس بنفس الجودة التي تنتجها تُربتها الأصلية التي نشأت وترعرعت فيها، فكذلك هو الإنسان في هجرته إلى المغتربات خارج وطنه، إذ ليس كلُّ مَن استُنبت في أرض وربوع غير التي نما ودرج وشبّ عليها نما واستطال واستقام نباته، وقد يُولدُ إنسانٌ في أرض صحراوية قاحلة جرداء وهو مُزوَّد بطاقات لا تسعها أو تستوعبها الصحراء، حتى إذا انتقل إلى المدينة ربح ومَهرَ وأبدع.
وغيرُ خافٍ أنّ (البيئة) ليست (الطبيعة).. هذه هي المواد الخام، وتلك هي التعديلات والتحويرات الجارية عليها، ولكلٍّ تأثيره الملحوظ على طِباع الإنسان وسيرته، كما أنّ للإنسان تأثيره الفاعل والملحوظ على كلٍّ منهما.. هو (ابنهما)؛ لكنّه ليس (أسيرهما)!
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق