• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

عناصر المجتمع في القرآن الكريم/ ج (2)

السيد محمد باقر الصدر

عناصر المجتمع في القرآن الكريم/ ج (2)

◄قلنا في ما سبق انّ اكتشاف الأبعاد الحقيقية لدور الدين في حركة التاريخ، والمسيرة الاجتماعية للإنسان، تتوقف على تحديد وتقييم دور العنصرين أو الركنين الثابتين في الصيغة، وهما الإنسان والطبيعة.

الآن نتحدث عن الإنسان، ودور الإنسان في الحركة التاريخية من زاوية مفهوم القرآن الكريم.

من الواضح على ضوء المفاهيم التي قرأناها سابقاً أنّ الإنسان أو المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس لحركة التاريخ، وأننا ذكرنا انّ حركة التاريخ تتميز عن كلِّ الحركات الأخرى بأنّها حركة غائية لا سببية فقط، ليست مشدودة إلى سببها، إلى ماضيها، بل هي مشدودة إلى الغاية، لأنها حركة هادفة لها علة غائية متطلعة إلى المستقبل. فالمستقبل هو المحرك لأي نشاط من النشاطات التاريخية. والمستقبل معدوم فعلاً وانما يحرك من خلال الوجود الذهني الذي يتمثل فيه هذا المستقبل.

إذن، الوجود الذهني هو الحافز والمحرك والمدار لحركة التاريخ، وهذا الوجود الذهني يجسد من ناحية جانباً فكرياً وهو الجانب الذي يضم تصورات الهدف، وأيضاً يمثل من جانب آخر الطاقة، الإرادة التي تحفز الإنسان نحو هذا الهدف وتنشط للتحرك نحو هذا الهدف. إذن هذا الوجود الذهني الذي يجسد المستقبل المحرك، هذا الوجود الذهني يعبر بجانب منه عن الفكر وفي جانب آخر منه عن الإرادة، وبالامتزاج بين الفكروالإرادة تتحقق فاعلية المستقبل ومحركيته للنشاط التاريخي على الساحة الاجتماعية.

وهذان الأمران: الفكر والإرادة هما في الحقيقة المحتوى الداخلي الشعوري للإنسان، انّ المحتوى الداخلي الشعوري للإنسان يتمثل في هذين الركنين الأساسيين وهما الفكر والإرادة. إذن المحتوى الداخلي للإنسان هو الذي يصنع هذه الغايات، ويجسد هذه الاهداف من خلال مزجه بين فكرة وإرادة

وبهذا صحّ القول بأنّ المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس لحركة التاريخ، والبناء الاجتماعي العلوي بكلِّ ما يضم من علاقات ومن أنظمة ومن أفكار وتفاصيل، هذا البناء العلوي في الحقيقة مرتبط بهذه القاعدة، فالمحتوى الداخلي للإنسان مرتبط بهذه القاعدة ويكون تغيره وتطوره تابعاً لتغير هذه القاعدة وتطورها، فإذا تغير الأساس تغير البناء العلوي، وإذا بقي الأساس ثابتاً، بقي البناء العلوي ثابتاً.

فالعلاقة بين المحتوى الداخلي للإنسان والبناء الفوقي والتاريخي للمجتمع، هذه العلاقة علاقة تبعية، علاقة سبب بسبب، هذه العلاقة تمثل سنة تاريخية تقدم الكلام عنها في قوله سبحانه وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11). هذه الآية واضحة جدّاً في المفهوم الذي اعطيناه وهو انّ المحتوى الداخلي للإنسان، هو القاعدة والأساس للبناء العلوي، للحركة التاريخية، لأنّ الآية الكريمة تتحدث عن تغييرين: أحدهما تغيير القوم (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ) يعني تغيير أوضاع القوم، شؤون القوم، الأبنية العلوية للقوم، ظواهر القوم، هذه لا تتغير حتى يتغير ما بأنفسهم.إذن التغيير الأساس هو تغيير ما بنفس القوم والتغيير التابع المترتب على ذلك هو تغيير حالة القوم، النوعية، التاريخية، الاجتماعية ومن الواضح انّ المقصود من تغيير ما بالأنفس، تغيير ما بأنفس القوم، بحيث يكون المحتوى الداخلي للقوم كقوم وكأمة وكشجرة مباركة تؤتي أكلها كلّ حين، متغيراً، وإلّا تغير الفرد الواحد أو الفردين أو الأفراد الثلاثة لا يشكل الأساس لتغير ما بالقوم، وإنما يكون تغير ما بالقوم تابعاً لتغير ما بأنفسهم كقوم، كأُمّة، كشجرة مباركة تؤتي أكلها كلّ حين.

فالمحتوى النفسي والداخلي للأُمّة لا لهذا الفرد أو لذلك الفرد هو الذي يعتبر أساساً وقاعدة للتغييرات في البناء العلوي للحركة التاريخية كلها.

والإسلام والقرآن الكريم يؤمن بأنّ العمليتين يجب أن تسيرا جنباً إلى جنب، عملية صنع الإنسان لمحتواه الداخلي وبناء الإنسان لنفسه، لفكره، لإرادته، لطموحاته، هذا البناء الداخلي يجب أن يسير جنباً إلى جنب مع البناء الخارجي، مع بناء الأبنية العلوية ولا يمكن أن يفترض انفكاك البناء الخارجي عن البناء الداخلي إلّا إذا بقي البناء الخارجي بناءً مهزوزاً متداعياً.

ولهذا سمى الإسلام عملية بناء المحتوى الداخلي إذا اتجهت اتجاهاً صالحاً سمّاها "بالجهاد الأكبر". وسمى عملية البناء الخارجي إذا اتجهت اتجاهاً صالحاً بعملية "الجهاد الأصغر" وربط الجهاد الأصغر بالجهاد الأكبر، واعتبر انّ الجهاد الأصغر إذا فصل عن الجهاد الأكبر فقد محتواه وفقد مضمونه، وفقد قدرته على التغيير الحقيقي على الساحة التاريخية والاجتماعية.

إذن هاتان العمليتان يجب أن تسيرا جنباً إلى جنب. وإذا انفكت احداهما عن الأخرى فقدت حقيقتها ومحتواها، وسمى الإسلام العملية الأولى، عملية بناء المحتوى الداخلي بالجهاد الأكبر تأكيداً على الصفة الأساسية للمحتوى الداخلي وتوضيحاً لهذه الحقيقة، حقيقة أنّ المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس، ولهذا سمي بالجهاد الأكبر. فإذا بقي الجهاد الأصغر منفصلاً عن الجهاد الأكبر، حينئذ لا يحقق ذلك في الحقيقة أي مضمون تغييري صالح.

القرآن الكريم يعرض لحالة من حالات انفصال عملية البناء الخارجي عن عملية البناء الداخلي، قال سبحانه وتعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة/ 204-205)، يريد أن يقول بأنّ الإنسان إذا لم ينفذ بعملية التغيير إلى قلبه، إلى أعماق روحه، إذا لم يبن نفسه بناءً صالحاً لا يمكنه أبداً أن يطرح الكلمات الصالحة، الكلمات الصالحة انما يمكن أن تتحول إلى بناء صالح في المجتمع إذا نبعت عن قلب يعمر بتلك القيم التي تدل عليها تلك الكلمات، وإلّا فتبقى الكلمات مجرد ألفاظ جوفاء دون ان يكون لها مضمون ومحتوى.

فمسألة القلب هي التي تعطي للكلمات معناها، للشعارات أبعادها ولعملية البناء الخارجي أهدافها ومسارها.

إلى هنا عرفنا انّ الأساس في حركة التاريخ هو المحتوى الداخلي للإنسان، وهذا المحتوى الداخلي للإنسان يشكل القاعدة. الآن نتساءل:

ما هو الأساس في هذا المحتوى الداخلي نفسه؟ ما هي نقطة البدء في بناء هذا المحتوى الداخلي للإنسان؟ وما هو المحور الذي يستقطب عملية بناء المحتوى الداخلي للإنسانية؟ المحور الذي يستقطب عملية البناء الداخلي للإنسانية هو المثل الأعلى.

عرفنا انّ المحتوى الداخلي للإنسان يجسد الغايات التي تحرك التاريخ، يجسدها من خلال وجودات ذهنية تمتزج فيها الإرادة بالتفكير. وهذه الغايات التي تحرك التاريخ يحددها المثل الاعلى. فإنّها جميعاً تنبثق عن وجهة نظر رئيسية إلى مثل أعلى للإنسان في حياته، للجماعة البشرية في حياتها. وهذا المثل الأعلى هو الذي يحدد الغايات التفصيلية، وينبثق عنه هذا الهدف الجزئي وذلك الهدف الجزئي، فالغايات بنفسها محركات للتاريخ وهي بدورها نتاج لقاعدة أعمق منها في المحتوى الداخلي للإنسان وهو المثل الأعلى الذي تتمحور فيه كل تلك الغايات وتعود إليه كل تلك الأهداف.

فبقدر ما يكون المثل الأعلى للجماعة البشرية صالحاً وعالياً وممتداً تكون الغايات الصالحة وممتدة، وبقدر ما يكون هذا المثل الأعلى محدوداً أو منخفضاً تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة أيضاً.

إذن المثل الأعلى هو نقطة البدء في بناء المحتوى الداخلي للجماعة البشرية، وهذا المثل الأعلى يرتبط في الحقيقة بوجهة نظر عامة إلى الحياة والكون، يتحدد من قبل كلّ جماعة بشرية على أساس وجهة نظرها العامة نحو الحياة والكون، على ضوء ذلك تحدد مثلها الأعلى.

ومن خلال الطاقة الروحية التي تتناسب مع ذلك المثل الأعلى ومع وجهة نظرها إلى الحياة والكون تحقق إرادتها للسير نحو هذا المثل، وفي طريق هذا المثل.

إذن هذا المثل الأعلى هو في الحقيقة أيضاً يتجسد من خلال رؤية فكرية، ومن خلال طاقة روحية تزحف بالإنسان في طريقه، وكلّ جماعة اختارت مثلها الأعلى، فقد اختارت في الحقيقة سبيلها وطريقها ومنعطفات هذا السبيل وهذا الطريق.

كما رأينا أنّ الحركة التاريخية تتميّز عن أيِّ حركة أخرى في الكون بأنّها حركة غائية، حركة هادفة، كذلك تتميز وتتمايز الحركات التاريخية أنفسها بعضها عن بعض بمثلها العليا. فلكلّ حركة تاريخية مثلها الأعلى، وهذا المثل الأعلى هو الذي يحدد الغايات والأهداف، وهذه الأهداف والغايات هي التي تحدد النشاطات والتحركات ضمن مسار ذلك المثل الأعلى.

والقرآن الكريم والتعبير الديني يطلق على المثل الأعلى في جملة من الحالات اسم الإله، باعتبار انّ المثل الأعلى هو القائد الآمر المطاع الموجِّه، وهذه صفات يراها القرآن للإله، ولهذا يعبر عن كلِّ من يكون مثلاً أعلى، كلّ ما يحتل هذا المركز – مركز المثل الأعلى – يعبّر عنه بالإله لأنّه هو الذي يصنع مسار التاريخ. حتى ورد في قوله سبحانه وتعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) (الفرقان/ 43)، عبّر حتى عن الهوى بأنّه إله حينما يتصاعد هذا الهوى تصاعداً مصطنعاً فيصبح هو المثل الأعلى وهو الغاية القصوى لهذا الفرد أو لذاك. فالمثل العليا بحسب التعبير القرآني والديني هي آلهة في الحقيقة لأنها هي المعبودة حقاً وهي الآمرة والناهية حقاً وهي المحركة حقاً، فهي آلهة في المفهوم الديني والاجتماعي.

وهذه المثل العليا التي تتبناها الجماعات البشرية على ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: المثل الأعلى الذي يستمد تصوره من الواقع نفسه، ويكون منتزعاً من واقع ما تعيشه الجماعات البشرية من ظروف وملابسات، أي انّ الوجود الذهني الذي صاغ المستقبل هنا لم يستطع أن يرتفع على هذا الواقع وأن يتجاوز هذا الواقع بل انتزع مثله الأعلى من هذا الواقع بحدوده، بقيوده، بشؤونه.

وحينما يكون المثل الأعلى منتزعاً عن واقع الجماعة بحدودها وقيودها وشؤونها يصبح حالة تكرارية، يصبح بتعبير آخر محاولة لتجميد هذا الواقع وحمله إلى المستقبل، بدلاً عن التطلع إلى المستقبل يكون في الحقيقة تجميداً لهذا الواقع وتحويلاً لهذا الواقع من حالة نسبية ومن أمر محدود إلى أمر مطلق لأنّ الإنسان يعترضه هدفاً ومثلاً أعلى، وحينما يتحول هذا الواقع من أمر محدود إلى هدف مطلق، إلى حقيقة مطلقة لا يتصور الإنسان شيئاً وراءها، حينما يتحول إلى ذلك، سوف تكون حركة التاريخ حركة تكرارية سوف يكون المستقبل تكراراً للواقع، وحيث أنّ هذا الواقع هو نفسه كان تكراراً لحالة سابقة، ولهذا سوف يكون المستقبل تكراراً للواقع وللماضي.

هذا النوع من الآلهة يعتمد على تجميد الواقع وتحويل ظروفه النسبية إلى ظروف مطلقة، لكي لا تستطيع الجماعة البشرية أن تتجاوز الواقع وأن ترتفع بطموحاتها عن هذا الواقع.

تبني هذا النوع من المثل العليا له أحد سببين:

السبب الأوّل الألفة والعادة والخمول والضياع، هذا سبب نفسي، الألفة والخمول والضياع سبب نفسي، إذا انتشرت هذه الحالة النفسية: حالة الخمول والركود والألفة والضياع في قوم، في مجتمع، حينئذٍ يتجمد ذلك المجتمع، لأنّه سوف يصنع إلهه من واقعه، سوف يحوّل هذا الواقع النسبي المحدود الذي يعيشه إلى حقيقة مطلقة، إلى مثل أعلى، إلى هدف لا يرى وراءه شيئاً.

وهذا في الحقيقة هو ما عرضه القرآن الكريم في كثير من الآيات التي تحدثت عن المجتمعات التي واجهت الأنبياء حينما جاء الأنبياء إلى تلك المجتمعات بمُثل عليا حقيقية ترتفع عن الواقع وتريد أن تحرك هذا الواقع وتتزعه من حدوده النسبية إلى وضع آخر، واجه هؤلاء الأنبياء مجتمعات سادتها حالة الألفة والعادة والتميع فكان هذا المجتمع يرد على دعوة الأنبياء ويقول بأنّنا وجدنا آباءنا على هذه السنّة، وجدنا آباءنا على هذه الطريقة ونحن متمسكون بمثلهم الأعلى، سيطرة الواقع على أذهانهم وتغلغل الحس في طموحاتهم بلغ إلى درجة تحوّل هذا الإنسان من خلالها إلى إنسان حسي لا إلى إنسان مفكر، إلى إنسان يكون ابن يومه دائماً، ابن واقعه دائماً لا أبا يومه ولا أبا واقعه، ولهذا لا يستطيع أن يرتفع على هذا الواقع.

استمعوا إلى القرآن الكريم وهو يقول: (قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة/ 170).

(قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) (المائدة/ 104).

(قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ) (يونس/ 78).

(أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) (هود/ 62).

(قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) (إبراهيم/ 10).

(بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (الزخرف/ 22).

في كلِّ هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم السبب الأوّل لتبني المجتمع هذا المثل الأعلى المنخفض. هؤلاء بحكم الألفة والعادة وبحكم التميّع والفراغ وجدوا سنة قائمة، وجدوا وضعاً قائماً فلم يسمحوا لأنفسهم بأن يتجاوزوه، جسدوه كمثل أعلى وعارضوا به دعوات الأنبياء على مرِّ التاريخ، هذا هو السبب الأوّل لتبني هذا المثل الأعلى المنخفض.

والسبب الثاني لتبني هذا المثل الأعلى المنخفض هو التسلط الفرعوني على مرِّ التاريخ، الفراعنة على مرِّ التاريخ حينما يحتلون مراكزهم يجدون في أيِّ تطلع إلى المستقبل، وفي أيِّ تجاوز للواقع الذي سيطروا عليه، يجدون في ذلك زعزعة لوجودهم وهزّاً لمراكزهم.

من هنا من مصلحة فرعون على مرِّ التاريخ أن يغمض عيون الناس على هذا الواقع، أن يحوّل الواقع الذي يعيشه مع الناس إلى مطلق، إلى إله، إلى مثل أعلى لا يمكن تجاوزه، يحاول أن يحبس وأن يضع كل الأُمّة في إطار نظرته هو، في إطار وجوده هو لكي لا يمكن لهذه الأُمّة أن تفتش عن مثل أعلى ينقلها من الحاضر إلى المستقبل، من واقعه إلى طموح آخر أكبر من هذا الواقع. هنا السبب اجتماعي لا نفسي، السبب خارجي لا داخلي.

وهذا أيضاً ما عرضه القرآن الكريم: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (القصص/ 38)، (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر/ 29).

هنا فرعون يقول ما أريكم إلّا ما أرى يريد أن يضع الناس الذين يعبدونه كلّهم في إطار رؤيته، في إطار نظرته، يحوّل هذه النظرة وهذا الواقع، إلى مطلق لا يمكن تجاوزه، هنا الذي يجعل المجتمع يتبنى مثلاً أعلى مستمداً من الواقع هو التسلط الفرعوني الذي يرى في تجاوز هذا المثل الأعلى خطراً عليه وعلى وجوده.

قال الله سبحانه وتعالى: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ) (المؤمنون/ 45-47)، نحن غير مستعدين أن نؤمن بهذا المثل الأعلى الذي جاء به موسى لأنّه سوف يزعزع عبادة قوم موسى وهارون لهم. إذن هذا التجميد ضمن إطار الواقع الذي تعيشه الجماعة أيّ جماعة بشرية ينشأ من حرص أولئك الذين تسلطوا على هذه الجماعة على أن يضمنوا وجودهم ويضمنوا الواقع الذي هم فيه وهم بناته، هذا هو السبب الثاني الذي عرضه القرآن الكريم. والقرآن الكريم يسمي هذا النوع من القوى التي تحاول أن تحوّل هذا الواقع المحدود إلى مطلق وتحصر الجماعة البشرية في إطار هذا المحدود، يسمي هذا بالطاغوت. قال سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ) (الزمر/ 17-18). لاحظوا ذكر صفة أساسية مميزة لمن اجتنب عبادة الطاغوت.

ما هي الصفة الأساسية المميزة التي ذكرها القرآن لمن اجتنب عبادة الطاغوت؟

قال: (فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ).

يعني لم يجعلوا هناك قيداً على ذهنهم، يجعلوا اطاراً محدوداً لا يمكنهم أن يتجاوزوه، جعلوا الحقيقة مدار همّهم، جعلوا الحقيقة هدفهم ولهذا يستمعون القول فيتبعون أحسنه، يعني هم في حالة طموح، في حالة تطلع وموضوعية، في حالة تسمح لهم بأن يجدوا الحقيقة. بينما لو كانوا يعبدون الطاغوت، حينئذ سوف يكونون في إطار هذا الواقع الذي يريده الطاغوت، سوف لن يستطيعوا أن يسمعوا إلى القول فيتبعون أحسنه، وانما يتبعون فقط ما يراد لهم أن يتبعوه. هذا هو السبب الثاني لإتباع وتبني هذه المثل.

إذن خلاصة ما مرّ بنا حتى الآن: أنّ التاريخ يتحرك من خلال البناء الداخلي للإنسان، الذي يصنع للإنسان غاياته، هذه الغايات تُبنى على أساس المثل الأعلى الذي تنبثق عنه تلك الغايات. لكلِّ مجتمع مثل أعلى ولكلِّ مثل أعلى مسار ومسيرة، هذا المثل الأعلى هو الذي يحدد في تلك المسيرة معالم الطريق، هذا المثل الأعلى على ثلاثة أقسام، حتى الآن استعرضنا القسم الأوّل من المثل العليا وهو المثل الأعلى الذي ينبثق تصوره عن الواقع ويكون منتزعاً عن الواقع الذي تعيشه الجماعة وهذا مثل أعلى تكراري، وتكون الحركة التاريخية في ظل هذا المثل الأعلى حركة تكرارية، أخذ الحاضر لكي يكون هو المستقبل، وقلنا بأنّ تبني هذا النوع من المثل الأعلى يقود إلى أحد سببين بحسب تصورات القرآن الكريم.

السبب الأوّل سبب نفسي وهو الألفة والعادة والضياع.

والسبب الآخر سبب خارجي وهو تسلط الفراعنة والطواغيت على مرِّ التاريخ.►

يتبع...

 

المصدر: كتاب المدرسة القرآنية

ارسال التعليق

Top