• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

للإنسان حرمات مصونة

السيد هاشم الموسوي

للإنسان حرمات مصونة
الانسان في القرآن كيان محترم.. عالم مصون يحضى بالرعاية والعناية.. وله حقوق وكرامة وحيثية محفوظة لا يمكن التجاوز عليها.. وردت مئات الآيات تنهى عن البغي والمنكر والعدوان والاعتداء والتجاوز على حياة الانسان وماله وعرضه وكرامته وتدهو لحفظ حقوقه وحماية شخصيته.. فالإنسان كيان يحظى بالعناية والتكريم في منهج القرآن وثقافته، وفي التشريع والإلزام القانوني الجنائي.. واعتبر القرآن الاعتداء على حياة الإنسان أو ماله أو كرامته أو عرضه أو حقوقه الادبية من أكبر الجرائم.. يستحق الفاعل لها العقاب والجزاء القضائي كما يستحق العقاب الاخروي يوم الحساب، ويجنى عقاباً الهياً في عالم الدنيا أيضاً.. فمن يسيى الى أحد يلقى من يسيئ له في الحياة عقوبة وجزاء الهياً.. ومن يهين مؤمناً يهينه الله ومن يفضح انساناً يفضحه الله..

وهكذا فقد شرع الاسلام مجموعة من العقوبات القضائية والاجتماعية وعقوبات تقع على المعتدي والمتجاوز على حرمات الناس وكراماتهم وحقوقهم.. وذلك عدل من الله سبحانه، وحكمته في تنظيم الحياة، وتوفير الضوابط التي تضبط النظام الاجتماعي وتحقق التعايش السلمي والسلم الاجتماعي بين الناس، وتحفظ حقوق الافراد وكراماتهم.. والإنسان مدعو في الثقافة الاسلامية الى أن يحفظ كرامته ويحترم الشخصية ليحترمه الناس سواء في كلامه أو لباسه المحتشم أو تصرفه أو تجنب مواطن الشبهة والتهمة ليحظى باحترام الآخرين.. ورد هذا الحث والتوجيه في الحديث الشريف "رحم الله إمرأ جَبَّ عن نفسه الغيبة".

وفي بد ء الحديث قرأنا ان القرآن يثبَّت للناس انهم في الاصل سواسية، فكلهم لآدم وادم من تراب..

ان اكرمهم عند الله اتقاهم.. وليس اكرمهم من هو اكثر مالاً أو ولداً ولا اقواهم سلطة، ولا اكثرهم علماً مجرداً من الايمان.. انما الاكرم فيهم هو الاتقى أي من استقام سلوكه وفكره وعقيدته وعمله، ولم يرتكب المعاصي والجرائم والاثام فمقياس التفضيل هو الاستقامة السلوكية، ومن يملك المال والسلطة والعلم والقوة والجاه.. ويوظفها في طريق التقوى.. فانها من افضل مقايس التفضيل والتكريم له؛ لانه استعملها في مجال العدل والحكمة ومخافة الله، فهي وسيلة اختبار ناجح له، وظفها في اطار التقوى والاستقامة وهذا الإنسان الذي كرمه الله بقوله: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)) (الاسراء/ 70).

جعل الله له حرمة فليس من حقه أن يسقط كرامته وليس من حق الاخرين أن يتجاوزوا على كرامته ومكانته الادبية والانسانية..

غير ان المجتمع الانساني يعج بالسقوط الاخلاقي والتجاوز على كرامة الانسان وانسانيته.. فالكثير من الناس هو نفسه الذي يتجاوز على كرامته وحرمته الشخصية باسقاطها في مواضع السقوط والاهانة بما يرتكبه من افعال مشينة أو يضع نفسه في مواقع الشبهة والتهمة.. فيصير عرضة لتناول الناس والطعن بشخصيته..

ولكي نقف على جانب من عظمة الفكر الإنساني والثقافة الإنسانية في القرآن فلنقف على ما ورد من تشريعات أو احكام واخلاق ومفاهيم فلنستعرض بعضاً من نصوص الكتاب، ونستجلي ما تيسر لنا من مفاهيمها وبيانها..

في سورة الحجرات نجد منظومة تشريعية واخلاقية تشع بقيم التكريم والاحترام للانسان وحفظ شخصيته.. جاء في هذه المنظومة المتألقة في عطائها الإنساني، وآثارها في البناء الاجتماعي وتربية الذات الفردي ما ستقرأه من فكر وثقافة وقيم في الآيات الاتية:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات / 10ـ13).

ونقرأ في سورة اخرى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُون) (النور / 19). (وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا* وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) (النساء / 111ـ112).

(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا* يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (الاحزاب / 58،59).

تبدأ هذه المنظومة من النصوص القرآنية النيرة البناء في اطار المجتمع الاسلامي وتثبت مفاهيم الاخوة وقوة العقيدة والمساواة في الانسانية، وفي الحقوق بين المؤمنين جميعاً وتدعو الى الإصلاح في حال حدوث المشاكل والخلافات والمنازعات لتخقق مفاهيم الاخوة سلوكاً وعملاً.. فالأخ لا يحمل الا  الود أو المحبة والاحترام لأخيه وهذا ما يستبطنه النص ويشع به.. فان حدثت المشاكل في جانب من المجتمع وجب على الاخرين اصلاحها، وليس التفرج عليها أو صب الزيت على النار أو استغلالها وتوظيفها لصالح فئة، أو سلطة، أو أشخاص، وكأنهم يجسدون القول القائل: "مصائب قوم عند قوم فوائد".

ثم يستأنف القرآن حديثه ليخاطب المجتمع المسلم: (يا ايها الذين امنو لا يسخر قوم من قوم...).

يا من آمنتم بالاسلام رسالة ومنهجاً وشريعة في الحياة.. يا من امنتم بالله واليوم الاخر.. انكم مطالبون بتطبيق وتنفيذ احكام الشريعة واخلاقها واهدافها في الحياة.. احترموا الناس الاخرين، ولا تتجاوز على كراماتهم وحرماتهم..

في سورة الحجرات، وفي سور أخرى نقرأ منظومة من الآداب والتعاليم الاجتماعية التي تحفظ حرمة الانسان وكرامته.. فالقرآن ينهى عن السخرية من الاخرين.. وينهى عن اللمز ويهنى عن التنابز بالالقاب ويتوعد الذين يحبون إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا ويلعن الذين يرمون المحصنات بالفاحشة ويتوعدهم بالعقاب، وكذا الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير  ما اكتسبوا اولئك يحملهم القرآن الأثم وتبعات البهتان ويحملهم العقاب القضائي كما يتوعدهم بالعذاب في عالم الاخرة.. 

من الناس من يشعر بالغرور والتكبر ويستعلى على الاخرين، وربما  كان عنده من المال أو الصحة البدنية أو الشكل الجميل أو الجاه أو السلطة أو العلم ما يجعله متفوقاً على الاخرين في هذه المجالات.. وعندما يشاهد اولئك الاقل لا يشكر لله الذي وهبه ما يتفوق به.. بل يستخف بالاخرين ويسخر مما عندهم أو يسخر بجهدهم المخلص وبكفاءتهم وقدراتهم.. ويتعامل معهم بسخرية واستهزاء وتعال عليهم ويمارس هذه الاساءة باستعلاء أو عندما يختلف معهم لأي سبب من اسباب الاختلاف لينال منهم.. والسخرية تتتحقق بالقول أو الاشارة أو تقليد الفعل كتقليد المشي والكلام بشكل ساخر..

والآيات الناهية عن السخرية الواردة في كتاب الله كانت تعالج مشاكل واقعية في المجتمع انذاك وبعبارة اخرى لها سبب نزول كما في مصطلح علوم القرآن.. وكلمة قوم في لغة العرب تعني الجماعة من الرجال.. والقرآن يذكر هؤلاء الاخرين بقوله: (عسى أن يكونوا خيراً منهم).

ان من تسخرون منه عسى أن يكون خيراً منكم عند الله سبحانه، أو لديه من امكانات العقل الخير والنافع الحقية عليكم.. افضل مما عندكم، لعلها تظهر في ساعات الشدة والمحنة والاختبار.. انكم مغرورون بما عندكم وانكم مخطئون وواهمون عندما تتصورون ان ليس في هؤلاء الناس من هو خير منكم.. فاذا ذكر غيركم أو رأيتموه سخرتم منه.. وكما تحدث عن مجتمع الرجال توجه بالخطاب الى مجتمع النساء.. فالمرأة  قد تسخر من المراة الاخرى.. لاسيما في جمالها ومالها أو أسباب تفوقها الاجتماعي فتغار منها.. ويلقنها القرآن الدرس ذاته.. أيتها الساخرة عسى أن تكون المراة التي تسخرين منها خير منك عند الله أو لديها من الامكانات غير الظاهرة لك ما تتفوق به عليك..

ارسال التعليق

Top