• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

موسم الحجّ والارتحال إلى بيت الله

عمار كاظم

موسم الحجّ والارتحال إلى بيت الله

موسم الحجّ هو موسم الارتحال إلى الله في تصفية دائمة للقلب والعقل ممّا علق بهما من تأثيرات الدنيا ومظاهرها، وما أكثرها في هذا الموسم، يعمل المؤمن المخلص على تعزيز حضور الله تعالى في عقله وقلبه، وفي كلّ ساحات الحياة، متمثِّلاً لمعاني الحجّ ومفاهيمه الجليلة، سلوكاً متجذّراً يمتد معه مدى العمر، في إجابة وتلبية دائمة لنداء الله تعالى في التزام ميثاقه وحدوده. المطلوب من الإنسان في هذه الحياة في كلّ الرسالات، أن يتقرّب إلى الله، وأن يعيش معه، ويفكّر فيه، وأن يذكره، وأن يتعبَّد له، وأن يطيعه، وأن يجعل دنياه في كلّ معانيها تجربة لما يحياه في الآخرة، وذلك بأن تكون دنياه لله، لتكون الآخرة في جوار الله. إذاً، الارتفاع بإنسانية الإنسان، وتقوية عناصر شخصيته وربطها بأصالة هُويّتها وقيمتها في انفتاحها على ربّها ومواقع مرضاته، هو من الأبعاد الحقيقية والأساسية لموسم عبادة الحجّ.

وكتاب الله تعالى هو المحور في استنطاق العبد لنداءات ربّه في الحجّ وغيره من العبادات، ويوضح جملة من المفاهيم على الإنسان أن يتدبرها ويعيها بعقله وقلبه (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ) (الحج/ 197). فالحج هو فترة السلام، والجدال يعبّر عن خصومة وعن نزاع، فأنت تجادل فيما يغلب على الجدال الإنساني من الثأر للذات أو الثأر لما يعرض على الذات من العصبيات، ولذلك يريد الله تعالى أن تجاهد نفسك. والحجّ موسم يؤكِّد فيه المؤمن تقواه، ويُعاهد نفسه وربّه على الاستزادة منها، والتزوّد بها كسلاح يواجه بها الفرد والجماعة كلّ ما يعترض مسيرتهم في الوجود من تحديات.

والحجّ رحلة ربّانية تنقِّي الإنسان من كلِّ الآثام، عن النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم): «أيّ رجل خرج من منزله حاجّاً أو معتمراً، فكلّما رفع قدماً ووضع قدماً، تناثرت الذنوب من بدنه، كما يتناثر الورق من الشجر». إنّها الرحلة الربّانية التي تطهِّر الإنسان من تلوّثات الذنوب والمعاصي، فمع أولى خطوات هذه الرحلة، تبدأ عملة التطهير والتنقية، فتتساقط الذنوب، والتعبير بتناثر الذنوب من البدن، لأنّ جوارح البدن هي أدوات المعاصي، فالعين تعصي، والأذن تعصي، واللّسان يعصي، وكذلك بقيّة الجوارح، هكذا تبدأ رحلة العودة إلى الله تعالى. يتابعُ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حديثه فيقول: «فإذا وَرَد ـ أي الحاجّ أو المعتمر ـ المدينة، وصافحني بالسلام، صافحته الملائكة بالسلام». إنّها محطّة من محطّات السير إلى بيت الله، لمن يبدأ بزيارة الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، ليقف على الأرض التي شهدت أقدس تاريخ، ولتتملَّى روحُهُ عشقاً وهياماً وذوباناً، وهو يصافح بالسلام أعظم إنسانٍ في تاريخ الدنيا، فيكون الردّ سلاماً مباركاً تحمله الملائكة، ممزوجاً بنفحاتٍ ربّانيةٍ تزوِّد الحاج أو المعتمر زاداً روحيّاً في قطع أشواط هذا الطريق إلى الله، ليزداد طُهراً ونقاءً وصفاء.

الحجّ مدرسة متكاملة لابدّ وأن تصنع جيلاً رسالياً ملتزماً وحدوياً، لذلك، فإنّ مَن يحجّ وفق قواعد الحجّ وأصوله وروحانيّته، فإنّه جاء أنّ الإنسان إذا خرج من حجّه، يُقال له استأنف العمل من جديد، وفي بعض الأحاديث: «يخرج الحاج من حجّه كيوم وَلدته أُمّه». هذا لمن يعيش الحجّ بأصوله وروحانيّته، فلا يكذب، ولا يتكلّم بكلام غير جائز. في هذه الحال، يبدأ الإنسان عمراً جديداً في طاعة الله، فيُقال له: إنّ الله غفر لك ما تقدَّم من ذنبك، فاعرف كيف تبدأ عمرك الجديد في هذا المجال. لذلك، فإنّ الحجّ مطهرٌ يتطهَّر به الإنسان، وهو مدرسةٌ يتعلَّم فيها، وهو تجربة يعيش فيها المسلمون روح الوحدة، بحيث إنّهم لا يستحضرون خلافاتهم وسلبيّاتهم وأُمورهم، بل يشعرون بأنّهم أُمّةٌ واحدة، وهكذا يقول الإمام الباقر (عليه السلام)، وهو يشير إلى مَن يحصل على معنى الحجّ: «ما يعبأ بمن أمّ هذا البيت إذا لم يكن فيه خصال ثلاث: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الصُّحبة لمن صحبه».

ارسال التعليق

Top