• ٢٢ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٠ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

نزول القرآن العظيم في شهر الله إيذان للبشرية برشدها الإنساني

محمد فتحي الدريني

نزول القرآن العظيم في شهر الله إيذان للبشرية برشدها الإنساني
مما لا ريب فيه، انّ الشرائع السماوية السابقة لنزول القرآن الكريم، كانت شرائع خاصة، زماناً، ومكاناً، وقوماً، يشتمل كل منها على طائفة من الأحكام التي كانت كفيلة بتدبير الأمر فيمن نزلت إليهم، وهذه الأحكام – لقلتها – لم يكن فيها مجال للإجتهاد، وأعمال الفكر، لإستنباط أحكام أخرى قد تتطلبها حياتهم، لما قدمنا، من كفاية كل شريعة لسداد حاجات أهلها أضف إلى ذلك أنّ الامم السابقة على ظهور الإسلام، كانت في سبيل التدرج العقلي، والنفسي، ولما يكمل فيها النضج، أو الرشد العقلي، لتقبل الرسالة الكاملة التي تشتمل على مبادىء عامة، وأصول كلية ومقاصدها أساسية، تستوعب مفاهيمها، كافة متطلبات الحياة الإنسانية، واحداثها، وقضاياها، وامهات مشاكلها!. لذا، أرسل الرسول الأعظم (ص) برسالة الإسلام الخالدة، وقد أكملها الله لنا ديناً، ورضيها لنا شريعة خالدة إلى يوم القيامة، وكانت كما وصفها نعمته الكبرى على البشر إلى يوم القيامة، لقوله عزّ وجل: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) (المائدة/ 3). وليس بعد الإكمال، والإتمام والرضا منه تعالى شيء يبتغى!!. على أنّ هذا "الكمال التشريعي والعقائدي يستلزم بالضرورة، ان يكون موجهاً إلى البشرية بكاملها، وعبر الأجيال المتعاقبة، والا لم يكن لهذا "الكمال" من معنى! ولو كان موجهاً إلى أُمّة دون أخرى، لكان الاجتزاء، دون التعميم، والعالمية، ولكن القرآن الكريم قد أشار صراحة إلى هذا التطابق الواقعي، والمنطقي، بين كمال الشريعة، وإنسانية متعلق خطابها، وعالمية حكمها، وعمومية مقاصدها الأساسية، بحيث تشمل في سياستها في الاصلاح العالمي سائر الأُمم على اختلاف أجناسها، وأعراقها، ولغاتها، وألوانها، فدل ذلك التزاماً عقلياً، على أن "كمال التشريع الإسلامي" و"إنسانية مقاصده العليا" في الحياة والاحياء، على وجه هذه البسيطة، اقول: يؤذن بارتقاء الفكر الإنساني إلى مستوى النضج، بحيث جعله أهلا لتلقي هذا الفيض الإلهي، في رسالة أكمل دين، اختتمت بها سائر الرسالات الإلهية.   - البشرية بلغت رشدها: إذن، بلغت الإنسانية رشدها يوم ان أنزلت تلك الوثيقة الإلهية العظمى، التي اتجهت – أوّل ما اتجهت – إلى تحرير البشرية كافة من ربقة الظلم، والاستضعاف، والاستكبار، والقهر، والتسلط، والبغي، والعدوان، وكل ذلك جلي مسطور في هذا القرآن العظيم، بصريح آياته، فكان بدء نزول القرآن في هذا الشهر العظيم، فجرا سَنيا يهتك عن العام حجب الظلام التي رانت عليه قرونا، كان العالم خلالها يتخبط في دياجيرها، مصداقاً لقوله سبحانه: (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الجمعة/ 2)، وقوله سبحانه: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) (البقرة/ 257). ومن هنا، يمكننا أن ندرك، أيضاً، سر قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185). هذا، وإذا كان "الهدى" نوراً تستضيء به جنبات النفس الإنسانية، بفطرتها، وتتقبله، بل تتمثله، وتطمئن إليه، فإنّ "البينات" – بما هي "دلائل" أعمق من الهدى معنى، و"براهين" تفتقر إلى فضل التعقل، وعمق الإدراك – كانت دعوة القرآن العقل إلى "التفكير"، فيها، دعوة إلى فريضة من أجل فرائض الدين، إذ لا يمكن تفهم أسرار هذا الدين وتبين معانيه، واستظهار مقاصده، ودلائل عقائده، في بينات هداه، إلا بأداء العقل كافة وظائفه من التفكر، والتعقل، والتدبر، والتذكر، وبذلك يكون القرآن الكريم، قد ربط بين شرائعه، وأحكامه، وعقائده، ومقاصده العليا، وبين العقل الإنساني الرشيد، ربطا محكما، لا انفكاك له، بل جعل التفكير" في آيات الكون، ومظاهر ابداع الخلق الإلهي فيه، والتفكير في الأنفس، وما فيها من قوانين تنتظم سائر اجهزتها، على نحو تحار العقول في إبداعه ودقته. أقول: جعل التفكير في كل أولئك وفي السنن الكونية بوجه خاص، كالتفكير في مبادئه، وقواعده، وبيناته، والاجتهاد في إستخلاص أحكامه، ومقاصده، وعبره، سواء بسواء، لأنها كلها من "البينات" وبذلك ايقظ الإسلام في "الإنسان" حيثما كان، وفي أي عصر وجد، وعياً فكرياً، ونفسياً، وكونياً، ووجدانياً، في آن معاً. هذا، والآيات الكريمة التي تصرح بهذه المعاني مبثوثة في أكثر من موضع، في القرآن الكريم، من ذلك قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران/ 190-191). وقوله عزّ وجلّ: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت/ 53)، وقوله سبحانه: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد/ 24)، وقوله عزّ من قائل: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ) (الحشر/ 2)، وقوله سبحانه: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر/ 17)، إلى غير ذلك من الآيات التي تقرر هذا المعنى!   - الاجتهاد والتقليد: إنّ الاجتهاد بالرأي المستند إلى دليل، لإستنباط الأحكام من الكليات، بوجه خاص – فضلاً عن الجزئيات – فرض على القادر عليه، بحيث لا يجوز له التقليد، وهذا أوّل ثمرة من ثمرات عموم الشريعة، وكونها آخر الرسالات. لقد قلنا انّ الشرائع السابقة لنزول القرآن الكريم، لم يكن فيها اجتهاد، لما قدمنا، من أنها شرائع خاصة بمن أنزلت عليهم، ولتضمنها طائفة من الأحكام الكفيلة بتلبية حاجاتهم، وهي – في الوقت نفسه – ملائمة لهم، ولمستواهم العقلي المحدود. غير انّ الإسلام – بما هو دين قد جاء للإصلاح العالمي، وتوجيه العقل الإنساني الذي بلغ نضجه، واستوى تعقّله – انتهج منهج الأسلوب الكلي، أو الاجمالي في تقرير أصوله، ومبادئه، في القرآن الكريم بوجه خاص، ولم ينزل إلى التفصيلات غالباً، لأن هذا المنهج القرآني في تقريره للاحكام، هو الذي يتفق وكماله، وإنسانيته، وعالميته، وخلوده! هذا، ولما كانت هذه الأصول العامة، والقواعد الكلية، ليس لها – من حيث مفاهيمها – "مصادقات" في العالم الخارجي، من مثل "مفهوم العدل" المطلق، و"مفهوم الرحمة"، و"مفهوم الحسنى" و"مفهوم البر"، و"مفهوم الحق" اقول: ليس لها من حيث كونها مفاهيم كلية ذهنية مجردة، "مصادقات" خارجية، الا من خلال تطبيقها على الوقائع والجزئيات، أو تنفيذها في اجراءات، ونظم، لذا، كان "الاجتهاد" أمرا حتمياً، لتحويل "المفهوم الكلي الذهني المجرد" إلى أوضاع تفصيلية قائمة مجسدة في المجتمع، بحيث تحصل المقصود منها، أو تبين الطريق العملي إلى تحقيق تلك المفاهيم، حسا، وعملاً. على أن من "آيات القرآن الكريم" ما هو قاطع الدلالة على معناه، بحيث لا يحتمل الا معنى واحداً، وحسب، فتتبدى فيه ارادة المشرع واضحة، لكن ثمة آيات كريمة أخرى، ليست قاطعة الدلالة، بل هي ظنية الدلالة على احكامها، ومن هنا، كان "الاجتهاد" في التفسير والاستنباط أمرا حتما لا مناص منه، لتقليب وجه النظر في تلك الاحتمالات، أو الاحكام الظنية، لتخير ما هو الأنسب من غيره، للتطبيق، في كل عصر، وبيئة، واجتناء ثمرته، على أن يكون منظورا في مسالك التطبيق، إلى الظروف الملابسة، والاعتداد بها. هذا، والقرآن الكريم، أو السنة الثابتة الصحيحة، قد لا يتضمن – صراحة – احكاماً لوقائع طارئة، مستجدة، وهذا كثير، وفي كل زمن، فوجب الاجتهاد في استمداد الاحكام المناسبة لها، إذ من الثابت أن كل نازلة تطرأ، لله تعالى فيها حكم، والا لم تكن الشريعة كاملة، وهو خلاف النص القاطع. ولهذا، امكن القول، بانّ الاجتهاد في استنباط الأحكام، في كل عصر – فضلاً عن الاجتهاد في تفهم الشريعة، وتعقلها – جزء من مفهوم الإسلام نفسه، وقد جاء القرآن الكريم الذي هو (هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185)، في منهجه الكلي، مؤكداً لهذا المعنى!. وعلى هذا، أمكن القول، بأنّ القرآن الكريم انما جاء بمفاهيم كلية إنسانية عامة غالباً من سياسية واقتصادية واجتماعية، وغيرها، ويمتاز تشريعه بأنه قائم على أساس الشمول، بالنظر إلى مقصده الاسمى، أو غايته القصوى، من الاصلاح العالمي! وفي سبيل هذا المقصد أيضاً، شرع في تصحيح المفاهيم السابقة على نزوله لتتسق وهذه الغاية. اضف إلى ذلك، ان نظرته الشاملة هذه من الإنسانية، والعالمية، اقتضت أن تتسق ومتطلبات الفطرة الانسانية نفسها، اذ لا يقوم توجيه سليم وتشريع حقيقي، إلا إذا كان متلائماً مع مقتضيات الفطرة نفسها. ولذا، كانت نظرته الشاملة، قائمة على هذا الترابط المتين، بين الروح والمادة، والعقل، والقلب، والدنيا والآخرة، تساوقا مع مقومات الفطرة الإنسانية نفسها، وتحقيقا لما ترغب فيه من التمتع بمتاع الحياة الدنيا، ولكن في توازن واعتدال، مما يحفظ للإنسان كرامته، ويعينه على اداء رسالته الكبرى في هذا الوجود!

ارسال التعليق

Top