• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإسراء والمعراج بين العلم والتراث

د. الهادي الدرقاش

الإسراء والمعراج بين العلم والتراث

ماذا أصاب أهل الطائف... وماذا ألم بعقولهم... أيطرد في عرفهم الضيف. الحق وداعية السلام... رسول اليقين والحب والاخاء... كيف يجوز لهم أن يغروا سفهاءهم بالإعتداء على هذا الوافد إليهم من البلد الحرام... بلد إبراهيم وإسماعيل... وبيت الله المعمور... لقد جاء الوافد الكريم الأمين يحدوه الأمل في هداية أهل هذه القرية إلى طريق الحق والعدل والمساواة... ولكن متى كان للجاهل الظالم قبس من عقل يهديه طريق الصواب.
نعم لقد أنهكت قوى الوافد الأمين وتصببت الدماء من أطرافه تروي الأرض فتطفيء شعلة الحقد التي آن لها أن تنطفيء. فيجلس إلى ظل شجرة ولم يجد من يخفف عنه بعض الذي أصابه ما عدا فتى نصراني قد بلغه دعاء الرسول الكريم (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ياأرحم الراحمين أنت رب المستضعفين...) ولقد سمع الإله الأجل دعاء الرسول الأمين قبل أن يسمعه النصراني فأرسل تعالى جبريل إلى داعية الحق فقال (يامحمد هذا ملك الجبال وأنّ الله أمره أن يطيعك في قومك بما آذوك فإن شئت أن يطبق عليهم الأخشبين فعل فأجابه (ص): لاتفعل إني لأرجو أن يخرج من ظهورهم من يعبد الله اللهم اهدِ قومي فإنّهم لايعلمون فقال جبريل: صدق من سماك (رؤوفاً رحيماً) إشارة إلى قوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة/128).
ولم تكن محنة الاعتداء وحدها هي التي يقاسيها محمد (ص) بل سبقتها محنتان ما كان يمكن لبشر عادي أن يصبر عليهما وهما موت عمه أبي طالب ذلك الذي ربى محمداً منذ بلوغه الثامنة من عمره إلى أن جاءته الرسالة أما الثانية فهي موت الزوج الحنون خديجة تلك التي لم ينسها طوال حياته ولم ينسَ أي شخص كانت لخديجة به رابطة سواء قرابة أو زمالة أو جوار ولقد أجاب عائشة في أحدى المرات عندما تطرق الحديث إلى خديجة قائلاً:(...ولقد آمنت بي إذ كفر الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس ورزقني الله ولدها وحرمني أولاد النساء).
بأبي وأمي أنت يارسول الله من رجل صدق وعهد وصبر: فلم تستسلم للناس ولم تركن للغني والجاه والسلطان لأنّك ربيت تربية إلهية، ترعاك العناية وتسهر عليك وتوجهك الوجهة التي ستحقق للإنسانية المعذبة يوماً ما السعادة التي بينت معالم طريقها بجهادك وأفعالك وأقوالك وأعمالك لقد صدعت بالحق عندما عز قائله وقاومت الظلم عندما فقد الشعاع وأرجعت للمعذبين في الأرض كبلال وآل ياسر ما يعمق شعورهم بإنسانيتهم وبكرامتهم فكانوا كتائب الإيمان التي دكت عروش الجبروت وهدمت قواعد الأشرار. أين أمتك؟ إنّها محتارة في أمرها مهادنة لمن احتل أرضها المقدسة ومصادفة لمن يحفر لها الرمس مقابل دولارات معدودة تبيع بها كرامتها في سوق النخاسة. ماذا نقول لربك الذي بعثك بالحق يوم يقول لنا أمامك ماذا فعلتم من أجل تحقيق ما جاءكم مني: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران/110). أنقول له إنّنا تنكرنا للمبادىء وكفرنا بالقيم وحطمنا القواعد التي أنزلتها لتوضيح لنا معالم طريق الحق والعدل.. ماذا نقول... ماذا نقول يا أمة الإسلام للإله أمام رسول الإنسانية جمعاء...؟

ميقات الرحلة
إنّ إلتجاء الرسول (ص) إلى ربه ساعة الشدة دليل قاطع على عدم علمه المسبق بهذه الرحلة التي سيعقبها مدّ جديد للدين الجديد في البلد الجديد.  لقد حدثت هذه الرحلة في السابع والعشرين من رجب سنة 11 للهجرة على أصح الأقوال وقد استمرت جزءاً من ليلة السابع والعشرين وقد عين بعض العلماء المدة التي استغرقتها فقالوا ثلاث ساعات. (راجع كتاب الإسراء والمعراج ص 2 للمؤلف مصطفى الكيك).

الحديث القرآني... عن هذه الرحلة
إنّ الحديث القرآني عن هذه الرحلة يتناول الحديث عن أمرين:
1) الأمر الأول: قضية الإسراء قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى) (الإسراء/1). يقول الألوسي سبحان هنا على ما ذهب إليه بعض المحققين مصدر من سبح تسبيحاً بمعنى تنزيهاً لا بمعنى قال سبحان الله... ودليل ذلك ما ورد في السنة من أنّ معنى سبحان الله: هو تنزيه لله عن كل سوء. ومعنى أسرى سار الليل، (بعبده) يقولون إنّ الله تعالى لم يعبر عن أحد بالعبد مضافاً إلى ضمير الغيبة المشار به إلى الهوية إلا النبي (ص) وفي ذلك من الإشارة ما فيه. وهو ما يدعم أنّ الإسراء والمعراج وقع بالروح والجسد معاً. ومعنى "ليلاً" فهو لظرف الإسراء وجاء نكرة دلالة على قلة مدة الإسراء.

حديث السنة... عن هذا الجزء من الرحلة
وقد تولت السنة إعطاء صورة مفصلة لحادثة الإسراء فقد أخرج النسائي من حديث ابن عباس، أنّ الرسول (ص) كان نائماً ببيت أم هانىء بنت أبي طالب بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته وقص القصة عليها وقال: مثل لي النبيون فصليت بهم، ثم خرج الرسول إلى المسجد وأخبر قريشاً فمن مصدق وواضع يده على رأسه تعجباً وانكاراً وارتد أناس ممن آمن به عليه الصلاة والسلام.
2) الأمر الثاني: وهو الجزء الثاني من الرحلة أو قل المعراج وقد ذكره الله في القرآن بقوله في سورة النجم وقوله الحق: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم/1-18).

أي كلام أبلغ من هذا الكلام وأي تأكيد لهذه الحادثة من أي تأكيد اللهم إلا إذا صدقنا بعض عجائزنا عندما تسألهن عن رحلة أبولو سنة 1969م ونزول الإنسان على القمر فيقلن: استغفر الله إنّ ما شاهدتموه هو من أعمال السحرة والشياطين أما نحن فنعوذ برب العالمين من أعمال الامركانيين والآيات واضحة لاتورية فيها ولا كناية: فصاحبنا معروف ومعلوم والاستواء معروف والأفق مفهوم وكذا سدرة المنتهى وبعد أن يذكر هذه الحالات والأماكن يؤكد وصول الرسول إليها حساً ومعنى بقوله: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) فهو لم يشاهد السدرة فقط بل شاهد آيات أخرى كثيرة من آيات الله التي لاتحصى ولا تعد من ذلك ما شاهده مكتوباً على باب الجنة قال (ص): (رأيت ليلة أسري بي مكتوباً على باب الجنة: الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر فقلت لجبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة قال لأنّ السائل يسأل وعنده والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة). ومن الآيات الكبرى ما ورد في البخاري في حديث الرسول عن المعراج قوله:
(ص) ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صرير الأقدام.
وقد تعرضت الصحاح الست لقصة الإسراء والمعراج وأوردت من الأحاديث ما لايتسع له المجال في صحيفة سيارة وركن فيها محدد. وفي المعراج فرضت الصلاة تلك العبادة التي تربط بين العبد وربه وتمتن العلاقة بين العابد ومعبوده وفي تمتينها تقوية لشعور الإنسان بقيمته في هذا الكون إذ هو خليفة الله في الأرض وقد قلده أمانة تعمير الكون وإقامة حضارة تسبح باسمه وتحمده على نعمه ولهذا قال (ص): (وجعلت قرة عيني في الصلاة) ولذا فأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.

الإيمان أثبت الأحداث... والعلم دعمها
تلك هي الرحلة المباركة التي أعطيت الإنسانية رسالة الدنيا والآخرة رسالة الحب والتآخي رسالة الحضارة والسعادة. وقد جاءت الاكتشافات الحديثة تدعمها فخذ مثلاً التلفزة التي تنقل لك مباراة رياضية تدور في الوجه الآخر من الأرض دقيقة بدقيقة لماذا هذه الآلة المخلوقة تنتصر على عقارب الساعة؟... وكم يقضي المسافر في مركبة يدفعها صاروخ بين طرفي الأرض...؟ انّها بضع دقائق لا ساعات. ثم علينا أن نرجع إلى القرآن لنقرأ في قصة سليمان حيث نجد من المخلوقات المسخرة له بأمر الله من ينقل عرش ملكة سبأ من اليمن في لمح البصر قال تعالى:
(قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) (النمل/40).
فإذا أمكن للإنسان العادي أن يصنع آلة توقف عقارب الساعة وأمكن لمخلوق عادي أن ينتقل من جنوب الأرض إلى شمالها في لمحة البصر فكيف لايمكن ذلك الأمر إذ تعلقت به القدرة الإلهية فإلى هؤلاء المنكرين أقول ولا أجد قولاً خيراً من قوله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر/67).
يقول الشيخ محمد حافظ سليمان: (ولقد زعموا: أنّ قانون الجاذبية وقانون الضغط الجوي وقانون السرعة ونواميس الحركة وطبقات الجو وعناصر الكواكب وكثيراً من المعايير والمقاييس العلمية كل ذلك يتنافى مع حدوث الإسراء والمعراج وجهلوا أنّ الأمر لله من قبل ومن بعد). وصدق ربي عندما قال: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (الرعد/2).

المصدر: كتاب العقد الحضاري في شريعة القرآن

ارسال التعليق

Top