إنّ فكرة المساواة بين قطبين، "أ وب" على سبيل الافتراض يمكن أن تكون وصفية أو معيارية ولكنها لا تكتمل إلاّ بالإشارة إلى مفهوم كامل للمساواة أو المقارنة بمعنى مطلق للعدالة. وإلاّ، فإنّ المساواة المطلقة بين "أ" و"ب" لن تتم إلاّ في الرياضيات، لأنّ ذلك العلم يتعامل فقط بالكميات والأعداد النقية المطلقة. أما في الواقع الخارجي فإنّ شيئين متساويين في الوزن والحجم والقيمة ربما لا يتساويان في أبعاد أخرى. ولذلك فإنّنا لا نستطيع أن نقول أنّ هناك شيئين متساويين في كل الأبعاد مطلقاً؛ لكننا نستطيع فقط أن نقول أنّ هناك شيئين متساويين في كل الأبعاد نسبياً.
وحتى لو كان الفردان متساويين في الجدارة نسبة إلى أدائهما، وأنّهما يستحقان أن يُعاملا بشكل متساوٍ؛ إلاّ أن هذا الاستحقاق لا يلغي أن يُعاملا بشكل مختلف إذا كانا غير متساويين في مجالات أخرى. بمعنى آخر أنّ المساواة بين الأفراد يفترض أن تكون الأصل في جميع المجالات التي يتفق فيها الأفراد؛ وأن يكون الاختلاف في التعامل متناسباً مع الاختلافات النسبية بينهم. وهذا التمييز في التعامل له أهمية عظيمة في أصل فكرة "المساواة" على الصعيد الأخلاقي والاجتماعي.
وحتى إنّ إدعاء المفكر الأمريكي "توماس جيفرسون" بأنّ الأفراد "يولدون جميعاً وهم متساوون" لا يطابق الواقع الخارجي لأسباب واضحة، وهي أنّ الأفراد لا يتساوون تماماً في الذكاء والقدرات الجسدية والفكرية. إلاّ أنّ رأي "جيفرسون" يصدق إذا كان يقصد به تلميحاً لفكرة العدالة الاجتماعية التي ينبغي أن يطرحها النظام الاجتماعي أمام الأفراد. ولكن المشكلة الفلسفية تكمن في السؤال الذي يصاغ بالشكل التالي: كيف يمكن تحقيق المساواة التامة بين جميع الأفراد وقد اختلفت قدراتهم الجسدية والعقلية على أداء أدوارهم الاجتماعية؟ فأجابت المدارس الفكرية والفلسفية على مدى التاريخ على هذا السؤال بإجابات متباينة.
فلسفة "المساواة" عند الإغريق:
إلاّ أنّ أول من نقض مفاهيم المساواة بين الناس، حكماء الإغريق أنفسهم. فبعد أن آمنوا بالمساواة الحقيقية بين جميع الأفراد حتى مع وجود الاختلافات النسبية، عادوا وصنفوا فكرة "المساواة" على أساس الانتماء القومي. ف "أرسطو" زعم صراحةً بأنّ بعض الأفراد عبيد بطبيعتهم الذاتية. وزعم "إفلاطون" بأنّ بعض الأنفس لا تستطيع أن تتطور كما تتطور أنفس بقية الأفراد. وحتى أنّ مجالس "أثينا" كانت تتحدث ـ كما يصفها لنا "ثوسيدايدس" ـ عن المساواة بين مواطني "أثنيا" فحسب، مستثنية العبيد والأجانب عن عدالة تلك المدينة الفاضلة!
ولكن أول من نادى بالمساواة في نوادي الإغريق رواد مذهب "الرواقية أو ستوسيزم" الذي أكّد على المساواة الطبيعية بين جميع الأفراد؛ باعتبارهم كائنات لديها قدرات عقلية وقابليات متساوية على فعل الخير. إلاّ أنّ الستوسيزم لم تستطع التمييز بين مجرد القدرة على فعل الخير ، وبين تحقيق ذلك الفعل. وذلك المذهب الرواقي يفسح لنا المجال لنتساءل: هل نستطيع أن ننكر على الأفراد الذين لا يفعلون الخير دعوى المساواة؟ أو هل نستطيع أن نثبت "المساواة" حتى مع الذين يظلمون الآخرين وينكرون عليهم حقوقهم؟ هنا يصمت "المذهب الرواقي" عن الجواب. بل إنّ ذلك الصمت يفتح الأبواب للرسالة الدينية لتقوم بدورها في الجواب على ذلك.
فكرة "المساواة" في الفلسفة الغربية:
ولا شك أنّ الرسالات الدينية الإلهية كانت أول من نادت بالعدالة الواقعية، إلاّ أنّ التحريفات التي أُجريت على بعضها قسراً قد أنتهك اقدس مفاهيمها الاجتماعية. ففكرة "الاختيار الإلهي" لليهود، وفكرة "الإنقاذ" عن طريق السيد المسيح (ع)، وفكرة أنّ "العبودية البشرية" إنما هي نتيجة من نتائج الذنب يرتكبه الفرد، كلها أدّت إلى تشويه صورة الرسالة الدينية الأصيلة التي نادت بالعدالة الاجتماعية بين الأفراد أمام المجتمع وأمام الخالق عز وجل. وحتى أنّ العقيدة الكالفنية في القرن السابع عشر الميلادي ـ التي ولدت كصورة من صور الاحتجاج على الكنيسة الكاثوليكية الزاعمة بأنّ المساواة بين الأفراد إنما تنتهك النظام التكويني للعالم ـ نادت بالمساواة بين أفراد الشعب المختار من البروتستانت فحسب ولم تلتفت إلى حقوق بقية الأفراد من المذاهب أو الديانات الأُخرى.
ولم تتطور فكرة "المساواة الطبيعية" في القرن السابع عشر الميلادي إلاّ على يد المفكر السياسي الأوروبي "توماس هوبس" الذي زعم بأنّ الأفراد في الطبيعة متساوون في الحقوق لأنّهم متساوون في القوة والبراعة، إلاّ أن الفيلسوف "جون لوك" لم يتوقف عند فكرة المساواة الطبيعية للأفراد عند الولادة، بل زعم بأنّه لابد للأفراد من التعرض إلى نفس القانون الطبيعي، والتمتع بنفس الحقوق الطبيعية. ولكن تلك الأفكار الجديدة وضعت الفلسفة السياسية الأوروبية في مأزق حرج؛ وجعلت المعارضين لتلك الأفكار يتجمعون تحت غطاء الإشكال التالي وهو أنّه: إذا كان الأفراد متساوين بالحرية والحقوق واقعاً، فلماذا يخضعون لتحديدات المجتمع المدني والسلطة السياسية والإلزام الاجتماعي؟ بل كيف نفسر العدالة السياسية إذا قبلنا الحاكم والمحكوم؟ إذن، فإنّ تلك التحديدات السياسية والاجتماعية التي وجدت لحفظ الحقوق وفرض الواجبات إنما تنتهك "المساواة الطبيعية" التي نادى بها "هويس" و"لوك". وهذه الثغرات الفلسفية جعلت الكثيرين يشككون بقدرة المدرسة الأوروبية على تقديم معنى شامل ومقبول للعدالة الاجتماعية بين الأفراد.
ولا شك أنّ المسرح الفلسفي الأوروبي في القرن الثامن عشر الميلادي شهد نشوء نظرية جديدة حول "العدالة الاجتماعية" والمساواة الطبيعية في الحقوق، وهي نظرية "الطبيعة الإنسانية" التي وضعها "كونديلاك" و"هيلفتيس"، التي زعمت بأنّ الفوارق في الشخصية، والقابليات، والذكاء إنما هي اختلافات في البيئة والتجربة الإنسانية وليست في التكوين البشري. فالأفراد ـ بطبيعتهم ـ متساوون بلحاظ أنّهم، عند الولادة، يملكون قدراً غير محدود من الطاقة الكامنة نحو الإبداع، دون وجود خصائص طبيعية تميز أحدهم عن الآخر. ومن ثم فإنّ طبعائهم المتباينة هي في الواقع قضية عارضة أو أمر طارئ؛ لأنّ الأفراد ـ مبدئياً ـ متساوون في الكمال، شرط أن تعطى لهم فرصاً اجتماعية مناسبة. إلاّ أنّ "جان ـ جاك روسو" فسّر انعدام العدالة الاجتماعية بتعقد الحياة الإنسانية وتشابكها؛ لأنّ حاجات الفرد الطبيعية ـ بزعمه ـ لو كانت بسيطة لأعتمد الفرد على نفسه في إشباعها، وَلمْا كان أداةً لاستثمار الآخرين. ومن أجل تحقيق العدالة الاجتماعية، فإنّ "جان ـ جاك روسو" عرض مفهوم "المصالحة" بين المساواة الطبيعية وحاجات الإنسان من جهة وبين الشروط الاجتماعية والسياسية للسلطة من جهة أُخرى؛ زاعماً بأنّ غياب تلك المصالحة يمنع الأفراد من إدراك قابلياتهم الإبداعية ككيانات أخلاقية مستقلة. إلاّ أنّنا نرد على "روسو" بأنّ المصالحة المزعومة لا تضمن العدالة الحقوقية بين الأفراد؛ لأنّ المصالحة غير المشروطة بين الأفراد والدولة الظالمة يناقض أصالة العدالة الاجتماعية. وبطبيعة الحال فإنّ "روسو" لم يشترط عدالة الدولة في تلك المصالحة. في حين قدّم "عمانوئيل كانت" تحليلاً أكثر تعقيداً لنفس القضية الأخلاقية التي طرحها "روسو" قائلاً بأنّ جميع الأفراد يجب أن يعاملوا كغايات، لاكوسائل؛ بمعنى أنّ جميع الأفراد أعضاء متساوون في الدولة "الغائية" لأنّهم جميعاً متساوون في القدرة على إدراك الخير والإرادة الخيّرة. إلاّ أنّ هذا التحليل ـ الذي ساهم في صياغة الحركات الثورية في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي ـ أضعف دور الدين في الحياة البشرية؛ فبدل أن تكون الغاية النهائية مرضاة الخالق عز وجل أصبحت الغاية القصوى للدولة والنظام الاجتماعي الاهتمام بالفرد وإشباع حاجاته الأساسية. مع أنّ الاهتمام بالفرد ـ لو تم ضمن الحدود الطبيعية ـ لن يتنافى مع الرسالة الأخلاقية الدينية.
إلاّ أنّنا لا نستطيع أن نتحدث عن المساواة الاقتصادية دون التطرق للمساواة السياسية والأخلاقية أيضاً. فالمساواة السياسية لابد وأن تتماشى مع المساواة الاقتصادية. وإلاّ فما معنى الادعاء بأنّ الأفراد يشتركون في الحكم والسلطة، ولا يشتركون بشكل عادل في الاستمتاع بالخيرات الاجتماعية، ولا شك أنّ التوزيع غير العادل للخيرات الاجتماعية سيؤدي إلى توزيع غير عادل للسلطة والمنزلة الاجتماعية. يضاف إلى ذلك أنّ عدم التزام الفرد بمفردات الرسالة الدينية يضعه على حافة الظلم الاجتماعي المستند على فلسفة أفضلية جنس الإنسان ولونه ومنشئه.
مبادئ العدالة الاجتماعية في الإسلام:
ومن الطبيعي أن نجد الجواب الشافي لمعنى "العدالة الاجتماعية" ومصاديقها العملية متمثلاً في أروع صوره الفلسفية والتشريعية في الرسالة الإسلامية. فالإسلام لم يطرح مفهوم "المساواة" إلاّ في العطاء الذي يقدمه بيت المال للفقراء والذي يفترض فيه أن يشبع حاجاتهم الأساسية. إلاّ أنّ الأفراد ـ وبسبب اختلاف قدراتهم العقلية والجسدية ـ لا يمكن أن يوضعوا على درجة اجتماعية واحدة بالدقة العقلية؛ لأنّ ذلك مستحيل على صعيد الواقع الخارجي. ولذلك فنحن لا نجد مورداً من الموارد الفقهية أو القرآنية يشير بشكل من الأشكال إلى فكرة "المساواة التكوينية" على المسرح الاجتماعي. ولكن الإسلام طرح بكل قوة فكرة "العدالة الاجتماعية" وحاول بلورة مصاديقها العملية من خلال الإلزامات الأخلاقية والشرعية. ومن أجل تحقيق ذلك، فقد أعلن ثلاثة مبادئ على درجة عظيمة من الأهمية:
المبدأ الأول: إنّ الاختلافات التكوينية بين الأفراد إنما هي حقيقة واقعية لا يمكن إنكارها أو تجاهلها. ولذلك فإنّ "المساواة" التي تنادي بها النظريات الاجتماعية تصدق فقط في "المساواة" في إتاحة الفرص لجميع الأفراد باستثمار خيرات النظام الاجتماعي، وفي "المساواة" في العطاء من بيت المال للمحتاجين. وفي غير ذلك يستحيل خلق المساواة التكوينية بين الأفراد. ولذلك فإنّ فكرة "العدالة الاجتماعية" التي يطرحها الإسلام إنما تكون جابراً للاختلافات التكوينية التي خلقت أصلاً مع الأفراد دون إرادتهم. ولا شك أنّ المسؤول عن تحقيق العدالة الاجتماعية هو النظام الاجتماعي الإسلامي بمؤسساته السياسية والاقتصادية والقضائية.
المبدأ الثاني: لما كان تحقيق المساواة العقلية بين الأفراد مستحيلاً واقعاً، فقد أكدت الرسالة الإلهية على تحقيق المساواة العرفية "أو العدالة الاجتماعية بمعناها الأوسع" عن طريق الإنصاف والعدل والميزان. وقد وردت في ذلك آيات وروايات عديدة أكدت جميعها على إعادة توزيع الثروة الاجتماعية بين الأفراد وجعلت للفقراء حقاً محسوباً في أموال الأغنياء. بمعنى آخر أنّ الشريعة لم تجعل للأغنياء الخيار في مساعدة الفقراء أو عدم مساعدتهم، بل فرضت عليهم ذلك الوجوب بقوة التشريع.
ويمكننا أن نصنف الآيات والروايات الواردة حول تحقيق العدالة الاجتماعية إلى أربعة أصناف:
الصنف الأول: حول الإنصاف:
1- فقد ورد في النص المجيد: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ...) (النحل/ 90).
2- ومن كتابٍ لأمير المؤمنين (ع) إلى عماله: "فأنصفوا الناس من أنفسكم، واصبروا لحوائجهم، فإنكم خزّان الرعية، ووكلاء الأُمة، وسفراء الأئمة" (نهج البلاغة/ خطبة 51).
الصنف الثاني: حول العدل:
1- فقد ورد في النص المجيد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ...) (النساء/135) والقسط هو العدل. والقيام بالقسط هو العمل به على أتم وجه.
2- (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام/82).
3- وعن الإمام علي (ع): "العدل نظام الأمر".
4- من مصادر أهل السنّة:
أ ـ عن رسول الله (ص): "أعدل الناس من رضي للناس ما يرضى لنفسه، وكره لهم ما يكره لنفسه".
ب ـ قال رجل للنبي (ص): أحِبُّ أن أكون أعدل الناس، قال (ص): "أحبّ للناس ما تُحبّ لنفسك تكن أعدل الناس".
الصنف الثالث: حول الميزان باعتباره أداة من أدوات تحقيق العدالة الاجتماعية:
1- فقد ورد في النص المجيد: (...فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا...) (الأعراف/85).
2- (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ *الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ *وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (المطففين/1-3).
3- وعن أبن طاووس في كتاب "الاستخارات" عن أحمد بن محمد بن يحيى فيما يخص آداب التجارة قال الإمام الصادق (ع): "... أنّ التاجر الصدوق مع السفرة الكرام البررة يوم القيامة..." إلا أنّ الطريق إلى كتاب "الاستخارات" غير ثابت.
الصنف الرابع: حول المال ودوره في إشباع حاجات الناس:
1- فقد ورد في النص المجيد: (...وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ...) (النور/33).
2- (...كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ...) (الحشر/7).
3- وفي شرح ابن أبي الحديد في ذكر بيعة الناس لأمير المؤمنين، أنّه (ع) قال: "... فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسَّم بينكم بالسوية لا فضل فيه لأحد على أحد".
4- ومن كلام له (ع) لما عوتب على التسوية في العطاء: "أتأمرونيَّ أن أطلب النّصر بالجور فيمن وُلِّيتُ عليه! والله لا أطور به ما سمر سمير، وما أمّ نجمٌ في السماءِ نجماً! لو كان المال لي لسوَّيت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله!".
5- رواية محمد بن الحسين بن الخطاب بسند تام عن الإمام الصادق (ع): "إنّ الله تبارك وتعالى أشرك بين الأغنياء والفقراء في الأموال، فليس لهم أن يصرفوا إلى غير شركائهم".
6- وَلَّىَ أميرُ المؤمنين (ع) بيت مال المدينة عمارَ بن ياسر وأبا الهيثم بن التيّهان فكتب: "العربي والقرشي والأنصاري والعجمي وكل من في الإسلام من قبائل العرب وأجناس العجم [سواء]. فأتاه سهل بن حنيف بمولى له أسود، فقال: كم تعطي هذا؟ فقال له أمير المؤمنين (ع): كم أخذت أنت؟ قال: ثلاثة دنانير وكذلك أخذ الناس، قال: فأعطوا مولاه مثل ما أخذ ثلاثة دنانير".
7- ومن كتاب له (ع) إلى قثم بن العباس وهو عامله على مكة: "... وأنظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قِبَلَكَ من ذوي العيال والمجاعة، مصيباً به مواضع الفاقة والخلات، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قِبَلَنا".
8- وروى مجمع التيميّ، قال: كان علي (ع) يكنس بيت المال كل جمعة، ويصلّي فيه ركعتين، ويقول: "ليشهد لي يوم القيامة".
المبدأ الثالث: إنّ الاختلاف بين الفاصل والمفضول في الشريعة الإسلامية يعكس الاختلاف في القدرات العقلية والجسدية بين الأفراد. وقد ورد في النص المجيد ما يشير إلى ذلك: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (النحل/76) (...أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (يونس/35). والمعنى أنّ الله عز وجل نفى التساوي بين الأفراد الذين خلقهم، تماماً كما نفى التساوي بين الخالق والمخلوق. ولا شك أنّ التفاضل في الرزق، والتفاوت في القدرة على التصرف بالمال يعتبران من السنن التكوينية وجزءاً لا يتجزأ من التصميم الإلهي للخلق والتكوين. إلاّ أنّ هذا التفاضل التكويني لا يترك آثاره الاجتماعية إلاّ على صعيد ترجمة ذلك التفاضل إلى منفعة يقدمها الفاضل للمفضول. بمعنى أنّ الرزق ـ الذي منحه الخالق إلى الفاضل مثلاً ـ إذا لم يُخرَج منه الحق الشرعي ويُسلَّم إلى المفضول، أصبح ذلك الرزق نقمةً إلهية على الفاضل نفسه. وعلى ضوء ما ذكرناه، فإنّ التفاضل التكويني ، والاختلاف في القدرات العقلية والجسدية إنما تؤديان ثمارهما العملية على الصعيد الاجتماعي، إذا التزام الأفراد بتطبيق مفردات الشريعة الإسلامية فسحب؛ وإلاّ أصبحت تلك الاختلافات من موارد انعدام العدالة الاجتماعية.
طبيعة العدالة الاجتماعية الإسلامية:
ومن دراسة هذه الآيات الكريمة والروايات الشريفة نستطيع أن نستنتج صوراً من طبيعة النظرية الإسلامية في "العدالة الاجتماعية":
الأولى: أُطروحة العدالة الإنسانية بين جميع الأفراد على وجه الأرض. فوراء كل الفروقات في القدرات العقلية، والقابليات، والأعراف الاجتماعية المقررة، لابد وأن تكون هناك طبيعة إنسانية يحملها الأفراد نحو فعل الخير والشعور العميق بأنّ الكل متساوون أمام خالقهم العظيم وأمام نظامهم الاجتماعي الإلهي فيما يتعلق بالحقوق والواجبات.
الثانية: إنّ أُطروحة النظرية الإسلامية في العدالة الاجتماعية أشمل من أُطروحات النظريات الغربية. ففي حين كانت النظريات الغربية في القرون الثلاثة الأخيرة تناقش التفاضل الاجتماعي بين البرابرة والإغريق، أو أفضلية بعض الأجناس البشرية على غيرها، كانت الأُطروحة الإسلامية تدعو إلى العدالة الاجتماعية بين العبيد والأحرار "عن طريق فك الرقاب"، وبين الفقراء والأغنياء، وبين النساء والرجال، وبين الملّونين وغير الملّونين.
الثالثة: والمشكلة الفلسفية تكمن في أنّه لو افتراضنا أنّ جميع الأفراد يملكون مستوى واحداً من التحليل العقلائي، وصورة متقاربة للنفس البشرية، ومواصفات أُخرى حول الطبيعة الإنسانية؛ فما هي الدرجة التي تتساوى فيها اختلافات الأفراد في تلك الخصائص الطبيعية؟ لم تتقدم نظرية فلسفية أو اجتماعية للإجابة الشاملة على هذا السؤال، عدا النظرية الدينية الإسلامية التي كشفت لنا خصائص النفس الإنسانية في فعل الخير وفعل الشر، كما ورد في النص المجيد: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا *فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس/7-8). فالأنفس الإنسانية الخاصة بالأفراد متساوية بالأصل في الحد الأدنى للفهم والإدراك والعلم والحكمة وتحمل المسؤولية، ولكن الاختلاف ينشأ عندما يتغير توجه الأفراد نحو فعل الخير أو فعل الشر أو تركهما معاً. ولذلك فأنّ الإسلام ينادي بالعدالة الحقوقية باعتبار أنّ الأفراد يجب أن يعاملوا بالتساوي على ضوء أعمالهم وحاجاتهم، لا أنّهم متساوون بالمعاملة أمام الدولة في هذه الحياة، وأمام الخالق العظيم يوم القيامة. وهذا الفرق مهم، لأنّنا سوف نظلم الأفراد لو افترضنا أنّ من الحق النظر إليهم بصورة متساوية بالطبيعة، أي بغض النظر عن أعمالهم وقدراتهم. أما لو افترضنا أنّ مقياس العدالة هو أن يعاملوا بالتساوي مع ملاحظة الفروقات المتباينة في شخصياتهم وقابلياتهم، فإنّ تلك الصورة هي أقرب الصور الواقعية للإنصاف والعدل؛ وهو ما دعى إليه الإسلام تماماً.
وعلى ضوء ذلك، فإنّ العدالة الاجتماعية في الإسلام تلحظ الفروقات في شخصيات وقدرات وقابليات الأفراد، ولا تلحظ أنّهم متساوون بالأصل فتظلمهم دون علم. ومن اللافت للنظر أنّ النظريات الغربية جميعاً قد وقعت في فخ المساواة التكوينية المزعومة، حيث نادت بالمساواة لا في التعامل الاجتماعي فحسب، بل بالمساواة في أصل نشوء الأفراد كما لاحظنا ذلك خلال مطالعاتنا السابقة لآراء "جيفرسون" و"روسو" و"كانت". وهو بلا شك يؤكد على كمال الرسالة الإلهية، وضعف مقالة تلك النظريات الغربية.
ولابد لنا من التأكيد على قضية مهمة وتكرارها مراراً، وهي أنّ مناطق الفراغ التشريعي الخاصة بشروط التغير الاجتماعي والتي تركتها الشريعة للفقهاء المجتهدين بقصد مسبق، إنما تُملأ عن طريق ملاحظة الارتكاز العقلائي. باعتبار أنّ الشريعة أمضت الارتكاز العقلائي الذي يصاحب التغيير الاجتماعي المستمر على مدى السنين. فالعدالة الاجتماعية ضرورية للأفراد والدولة، إلاّ أنّ تحديد تفصيلاتها الدقيقة ـ في غير ما ذكر في المفردات الفقهية ـ يرجع إلى الإرتكازات العقلائية التي يلحظها الفقيه خصوصاً فيما يتعلق بإشباع الحاجات الأساسية للأفراد التي لم تكن موجودة في عصر الرسالة كالنقل والتطبيب والتعليم المدرسي العام.
يضاف إلى ذلك أنّ العدالة الاجتماعية لا تقتصر على إشباع الحاجات الغريزية، بل تتعدى إلى العدالة الحقوقية في إفساح الفرص لجميع الأفراد لاستثمار الخيرات الاجتماعية، وفي حرية التعبير أيضاً. وحتى أن أفكار بعض الفلاسفة الأوروبيين أمثال: "دي. دي. رافائيل" و"كريكي فالدستوس"، حول العدالة الاجتماعية المثالية بتصحيح اختلاف قابليات الأفراد وقدراتهم الطبيعية عن طريق تشريع سياسة اجتماعية تقلل من المكآفات الاجتماعية والاقتصادية التي يستلمها هؤلاء، فيها الكثير من الأخطاء. لأنّنا لا نستطيع أن نمحي التفاضل الاجتماعي بين الأفراد على أساس قابلياتهم الإبداعية، لأنّنا لو فعلنا ذلك لظلمنا أولئك المبدعين، ولم نعدل في الوقت نفسه مع غير المبدعين. ولكن القضية الحاسمة هنا ـ والتي أكدها الإسلام أكثر من مرة ـ أنّ التفاضل يجب أن يكون عادلاً. فبدلاً من إلغاء التفاضل بين الأفراد لابد لنا من تحديد صيغة تفاضلية عادلة تأخذ بنظر الاعتبار قابليات الأفراد الإبداعية. وفي ضوء ذلك، جعل الإسلام في أموال الأغنياء حقاً ثابتاً للفقراء، وبذلك فهو لم يلغِ التفاضل الاجتماعي، بل وضع له ضريبة ثابتة تدخل في دائرة منفعة الأفراد الذين لم يولدوا مبدعين، أو الأفراد الذين خانهم الحظ في التوفيق الاقتصادي والاجتماعي.
المصدر: مباني النظرية الاجتماعية في الإسلام
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق