إن يوم الهجرة يومٌ أغر محجل، لا نكتفي بأن نقول إنه كان أول المرحلة الحاسمة في تاريخ الإسلام، بل نقول: إنه فوق ذلك كان بداية دَورٍ جديد وفاتحة عهد جديد في تاريخ البشرية عامة.
أما أن تلك الهجرة المباركة كانت نقطة تحول جوهري في حياة الجماعة الإسلامية، فذلك أن الإسلام في مكة، كان ديناً بلا دولة، وحقا بلا قُوة، لم يكن المسلمون يومئذ يمثلون شعباً، ولا جمهرة غالبة في الشعب أولئك أفراد يمتازون بصفاء عقيدتهم وطهارة أخلاقهم: يعيشون في قومهم شِبه غُرباء، ليس لهم في قيادة المجتمع قليل ولا كثير، كان الحق والخير في جانبهم أما الأمر والنهي، والسلطان والحكم، فكان بيد القوة الباطشة، والمادة الجشعة، والكبرياء الجامعة، والشهوة المستهترة فكانوا – كلما خلا بعضهم إلى بعض – تبادلوا الشكوى فيما بينهم من ظلم المجتمع وفساده، وزيغ العقول وانحرافها؛ وانحدار الأخلاق وإسفافها، وجعلوا يتحرقون شوقاً إلى تحقيق المثل العليا التي بها يؤمنون، والتي على شعاع من أملها يعيشون، وما زال الحق منذ ظهرت سيماه على وجوههم، يلاقي إعصاراً من قوة الباطل، تريد أن تطفئ نوره في أول بزوغه، وأن تقتلع شجرته من فور غرسها، ولكن الله أوى نوره إلى مشكاته، فجعل ينتشر رويداً، وصان شجرته الطيبة بصوان من عنايته، فأخذت ترسخ أصولها وتمتد فروعها (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) (الفتح/ 29).
وهكذا برهنت دعوة الإصلاح – بمقاومتها لهذه العواصف والأعاصير – على أنها خلقت للبقاء والخلود، وأثبتت صلاحيتها للانتقال من حقول التجارب الضيقة في مكة، إلى فضاء الأرض الواسعة، وإلى الآفاق العالمية الإنسانية.
فكان يوم الهجرة إلى المدينة، إيذانا بأنه قد آن للحق المستخفي أن يستعلي وللحريات المكبوتة أن تتنفس، وللعدالة المضيعة أن تقف على قدميها، وأن تمسك ميزانها بيديها، وللجماعة المستضعفة الخائفة أن تتبدل من خوفها أمنا، ومن ضعفها قوة، فأصبح اسم الله يذكر من أعلى المنائر والمنابر، بعد أن كان يذكر سراً أو نجوى، وأصبح لأنصار الحق دولة، بعد أن كانوا قليلاً مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس... وهكذا كانت الهجرة المحمدية فاتحة عهد ميمون في تاريخ الجماعة الإسلامية.
وأما أن هذه الهجرة المباركة كانت – في الوقت نفسه – مفتاح سعادة للبشرية كلها، فذلك أمر يعرفه كل من عرف الأسس الجديدة التي قامت عليها دولة الإسلام الناشئة، وعرف القواعد التي جاء بها دستور الإسلام في عهده الجديد.
فالدولة الإسلامية الناشئة – وهى دولة دينية في كنهها وطبيعتها في منابعها، ونوازعها، وأهدافها – قامت أول كل شيء – على احترام حرية الأديان جميعاً. مادامت لا تستعمل أساليب العنف في دعوتها أليس هذا من أعجب العجب!؟
لقد عرف تاريخ الإنسانية في القديم والحديث دُولاً مدنية (جعلت بينها وبين الأديان كلها شقة حياد) وكان طبيعيا أن تترك لرعاياها الحرية في اختيار ما شاءوا من الملل والنِحَل، وعرف التاريخ أديانا وعظية تبشيرية (لا تستند في دعوتها إلى سلطان الدولة ونفوذها) فكان طبيعيا كذلك أن تبدي الشيء الكثير من التسامح تجاه الأديان الأخرى.
أما دولة تقوم على أساس دين معين، ويستند هو إليها في سياسته ونفاذ أوامره، ثم تجعل من أسسها الأولى كفالة الحريات العامة – في العبادة، والعقيدة، والتعبير عنها – لأنصارها ومعارضيها على السواء، فذلك مثالٌ فذّ في التاريخ، لم نعرفه إلا في دور الإسلام.
هذا الفتح الإنساني الجديد، إنما جاء به التاريخ الهجري الميمون.
وها هو ذا فتح آخر أعظم منه، جاءت به هذه الدولة الدينية الناشئة نفسها، ذلك أنها أسست من أول يوم على فكرة (الوطن) بأدق وأحدث معاني هذه الكلمة... (فالو طنية في قاموس المدنيات الفاضلة – مبدأ يؤاخى بين سكان البلد الواحد، من مختلف الأجناس والعناصر، والأديان والمذاهب، النزلاء منهم والمستوطنين، ويقف بهم جميعاً أمام قانون العدالة على قدم التساوي، في جميع الحقوق والواجبات القومية، هذا المبدأ المثالي الذي يحلم به أنصار الإنسانية العالمية، والذي لا يزال دون تحقيقه في عصرنا هذا، شوطٌ بعيد، حتى في أشد الدولة تحمسا له، وأكثرها زهوا وافتخاراً بمبلغ تقدمها في الحضارة – هذا المبدأ المثالي جعله الإسلام حقيقة ماثلة في غداة الهجرة الكريمة، فلأول مرة في تاريخ الدول الدينية، رأينا في المدينة المنورة أمة واحدة متآخية، تضم في أحشائها العربي والفارسي، والرومي، والحبشي، وغيرهم، وفيهم المسلم والوثني، واليهودي والمسيحي والمجوسي والصابئي، شعارهم جميعاً تحت راية الإسلام: "الدين لله؛ والوطن للجميع".
أما الهدية العظمى، والنعمة الكبرى، التي منحتها السماء لأهل الأرض على إثر الهجرة النبوية، والتي لم تظفر البشرية بمثلها من قبل ولا من بعد، فإنها تتمثل في الدستور الجديد، الذي جاء به الرسول المهاجر (ص)، فقد كان التشريع في مكة يهدف إلى ثلاثة مقاصد لا زائد عليها: إصلاح العقيدة وتحديد بعض رسوم العبادة، وإرساء القواعد الأولية لمكارم الأخلاق، ولاسيما في السلوك الشخصي.
فلو أن مهمة الدعوة الإسلامية ختمت قبل يوم الهجرة، ما كان للتشريع الإسلامي كبير فضلٍ على غيره من التشريعات، ولحرمت الإنسانية إذ ذاك من الشطرين المدني لهذا التشريع وهو أنفس الشطري، وأحوجهما إلى الإرشاد السماوي، ذلك أنه منذ الهجرة قد تشعبت وجوه النشاط اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً ودينياً.
فجاءت التشريعات الجديدة وافية بكل هذه الحاجات، فضلاً عما أضافته إلى المقاصد المكية من تفصيل وتحسين وتكميل، وهكذا لم تغادر مجالا للنشاط العملي أو الفكري في الحقائق العليا، إلا فَصَلت فيه بين الخير والشر والحق والباطل "في نصوص وقواعد، وهي في الوقت نفسه غاية في المرونة والمواءمة للظروف الإنسانية في جميع بيئاتها وعصورها. مهمة خطيرة بل معجزة كبيرة يعترف علماء التشريع المقارن، بأنه قد عجزت عن بعضها سائر التشريعات السابقة واللاحقة ولم ينهض بها على الوفاء والتمام إلا الشريعة الإسلامية في عهدها الهجري السعيد، ومن أجل ذلك استحقت أن تنعت في ختام الأمر بأنها الدستور الكامل".
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) (المائدة/ 3).
هذه قبسات من أنوار الهجرة المشرفة، ونسمات من بركاتها على الناس عامة وعلى العالم الإسلامي خاصة.
المصدر: كتاب حصاد قلم
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق