• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أضواء على كلمة الفن

أضواء على كلمة الفن
الفن..؟! الغناء، الموسيقى، التمثيل، الرقص.. تلك هي الموضوعات التي نطالعها في صفحات الفن، في كثير من الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية. وإذا كانت المجلة موضوعية نوعاً ما، وسعت هذه الدائرة.. فأضافت الرسم والنحت. على أنّ كلمة "الفن" قد كثر ترديدها في الآونة الأخيرة، حتى دخلت كلّ ميدان، ووصفت بها كلّ مهنة، وأضيف إليها كلّ عمل.. فالصحافة فن، والإِذاعة فن، والإِخراج فن، والحديث فن.. والخياطة فن، والتفصيل فن، وحلاقة الشعر فن.. والبيع والشراء فن.. والسطو على أموال الناس فن.. والطبخ فن.. والدعاء فن[1]. وهكذا توسع استعمال الكلمة، وتوسع بالتالي مدلولها، بل تميع، فأصبح كلّ عمل فناً، وفقدت الكلمة معناها ومدلولها، أو كادت. وإذا كان الأمر كذلك، فلابد من محاولة لتحديد هذا المدلول.   تاريخ الكلمة: إذا أردنا التعرف على مفهوم الكلمة، فلابد من البحث عن بعض تاريخها، وليس بين أيدينا ما يضبط لنا ذلك، وإن كان هناك ما يلقي بعض الضوء. يقول الدكتور محمد عبد السلام كفافي: "ظهر في إيطاليا خلال القرن السادس عشر مصطلح جامع هو: (فنون التصميم)، كذلك ظهر مصطلح (الفنون الجميلة) في فرنسا إبان القرن السابع عشر، وكان هذان المصطلحان يعنيان الفنون مثل: التصوير والنحت والعمارة، ومع ذلك يُضم إليها في بعض الأحيان الشعر والموسيقى.. وبدأ مصطلح الفنون الجميلة يتخذ معناه الذي أصبح شائعاً خلال القرنين التاسع عشر والعشرين... وأصبحت مجموعة الفنون الجميلة عند كتاب الموسوعات هي: الموسيقى والشعر والتصوير والنحت والعمارة"[2]. والذي يظهر لي أنّ الوصف (بالجميلة) يومئذ كان للبيان، بمعنى أنّ ما كان فناً لابد وأن يتوفر فيه عنصر الجمال، ولم يكن ذلك من باب التخصيص بمعنى أنّ هناك نوعين من الفنون.. جميلة وغير جميلة.   المصطلح القديم: وفي العربية استعملت كلمة "فن" حديثاً، عوضاً عن كلمة "صناعة" المتعارف عليها قديماً، فكلّ ما اقترن بكلمة "فن"، وبخاصة الفنون الجميلة عرفه المسلمون تحت عنوان "الصناعة" حيث كانوا يقولون "صناعة الأدب" و"صناعة الشعر". وأضحت هذه الكلمة، المصطلح الفني لهذا المعنى بعد أن اختارها المؤلفون عنواناً لكتبهم، فهذا. أبو هلال العسكري يضع كتابه "الصناعتين: النظم والنثر"، ويستعملها القلقشندي في عنوان كتابه المشهور "صبح الأعشى في صناعة الإِنشا".. وقد جاء في هذا الكتاب في صدد الحديث عن صنعة الأدب: "والمؤلفون في هذه الصنعة قد اختلفت مقاصدهم في التصنيف.."[3] كما جاء قوله: "والكتابة إحدى الصنائع فلابد فيها من أمور.."[4]. وجاء في كتاب "نهاية الأرب في فنون الأدب" للنويري، قوله: "وكنت ممن.. جعل صناعة الكتابة فننه الذي يستظل بوارفه.."[5]. وفي صدد الحديث عن الألحان جاء في كتاب "العقد الفريد" قوله: "وكرهنا أن يكون كتابنا هذا بعد اشتماله على فنون الآداب والحكم والنوادر والأمثال عطلاً من هذه الصناعة التي هي مراد النفس.."[6]. وقد أكد ابن خلدون هذا الاستعمال، حينما تحدث عن الصنائع وعدَّ من جملتها صناعة الغناء والبناء.. وكذلك ما يرجع إليه من التزيين والأشكال المجسمة من الجص..[7]. تبين مما سبق كيف كانت كلمة "صناعة" هي المصطلح المتداول في الحديث عن: الكتابة والشعر والغناء والموسيقى والرسم والبناء.. تلك الأعمال التي أطلق عليها اسم "الفن" هذه الأيام. وكلمة "صناعة" لا تقل صلة بالموضوع عن كلمة "الفن" بل هي ألصق بالمعنى وأدق في التعبير. جاء في القاموس المحيط: الصناعة: حرفة الصانع، وعمله: الصنعة. ورجل صِنع اليدين، وصَنيع اليدين: حاذق في الصنعة. ورجل صَنع اللسان، ولسان صَنَع: يقال للشاعر ولكل بليغ. وامرأة صناع اليدين: حاذقة ماهرة. والتصنع: تكلف حسن السمت، والتزين. اهـ. وواضح من معاني الكلمة، أنها اشتملت على: الحذق والمهارة والدقة، سواء أكان ذلك في عمل اليد أم في عمل اللسان.. كما تضمنت معنى التزيين.. وكلّها معانٍ أصيلة فيما استعملت فيه كلمة الفن.   الفن في اللغة: ونعود إلى اللغة لنقف على معنى الكلمة، ومدى أهليتها لما اختيرت له من تحولها إلى مصطلح بعد أن كانت كلمة عادية. جاء في كتب اللغة: الفن: الضرب واللون من الشيء، والجمع: أفنان وفنون. فنن الناس: جعلهم فنوناً: أنواعاً، والثواب: جعل فيه طرائق ليست من جنسه، افتن الرجل في أحاديثه: جاء بالأفانين: أخذ في فنون القول، فتوسع وتصرف. الفَنَن: الغصن، والخصلة من الشعر. الفنان: الحمار الوحشي الذي له فنون من العدو.. وتوسع فيها المتأخرون فأطلقوها على كلِّ ذي فنون كثيرة. والمعروف عند الفصحاء: مِفَن. والأفنون: الحية، والغصن الملتف. ورجل مِفَن: الذي يأتي بالعجائب[8]. قال العقاد: "إنّ الفن في أصل اللغة: هو الخط واللون، ومنه التفنين بمعنى التزيين والتزويق، والأفانين بمعنى الفروع أو الضروب، وهكذا كلّ ما تعدد فيه الأشكال والأوصاف مما ينظر بالأعين أو يدرك بالأفكار. والفنان بمعنى الكثير الفنون، أو الكثير التزيين، لأنّ العرب تقول: فنَّ الشيء: أي زيّنه فهو فان وفنان. واستعمال كلمة (الفني) دلالة على المصور والشاعر والمنشد.. لم يرد بهذا المعنى في كلام عربي قبل العصر الحديث. ولا خطأ، ولا تجوّز في استعمال (الفنان) لمعناها الحديث لأنها صحيحة في القياس.."[9]. وإذا أمعنا النظر في المعاني التي وردت لكلمة الفن نلاحظ أن بينها معنيين بارزين، هما: -        التزيين والتنويع. -        الإِتيان بالجديد المعجب. على أننا نلاحظ أنّ المعاجم الحديثة قد تأثرت بالمفاهيم الجديدة للكلمة فأفسحت لها لتأخذ مكانها على صفحاتها. جاء في المعجم الوسيط: الفن: جملة القواعد الخاصة بحرفة أو صناعة. وجملة الوسائل التي يستعملها الإِنسان لإِثارة المشاعر والعواطف وبخاصة عاطفة الجمال كالتصوير والموسيقى والشعر. وهو مهارة يحكمها الذوق والمواهب. والفنان: صاحب الموهبة الفنية كالشاعر والكاتب والموسيقي والمصور والممثل. اهـ. تلك كانت جولة مع كلمة الفن. نخلص منها إلى أنّ هناك علاقة وثيقة بين معنى الكلمة. وما انتدبت له من مصطلح، ولكنها بما حملته من معاني: الدقة، والمهارة، والجديد.. استهوت الناس وأغرتهم باستعمالها وإطلاقها على كلّ عمل يريدون وصفه بالدقة والجمال.. مما أدى إلى اتساع استعمال الكلمة، فاحتاج الأمر إلى التحديد والتخصيص. وهذا ما ذهب إليه صاحب معجم "المنجد" فقال: "الفنون الجميلة: هي ما كان موضوعها تمثيل الجمال، كالموسيقى والتصوير والشعر والبلاغة والنحت وفن البناء والرقص. والفنون اللذيذة: هي التي يشعر مزاولها بلذة عند مزاولته إياها، كالرقص والموسيقى والغناء وركوب الخيل. والفنون الحرة: هي التي كان فيها عمل الفكر أكثر من عمل اليد كالشعر. والفنون اليدوية أو الجبلية: ما كان فيها عمل اليد أكثر من عمل العقل كالنحت". وجرى على التقسيم نفسه معجم "الرائد".

     الهوامش:


[1]- ظهر لفضيلة الأستاذ محمد الغزالي كتاب بعنوان (فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء) وقد طبع على نفقة الشؤون الدينية بدولة قطر، وكنا نود لو اختار له عنواناً آخر، فالدعاء وفعل الرسول (ص) ليسا من الفن وإن كانت الكلمة تسع ذلك لغوياً. [2]- كتاب (في الأدب المقارن) د. محمد عبد السلام كفافي، ص74 ط1، دار النهضة العربية، بيروت عام 1972. [3]- صبح الأعشى 1/7. [4]- المصدر نفسه 1/36. [5]- مقدمة كتاب (نهاية الأرب). [6]- العقد الفريد 7/2. [7]- مقدمة ابن خلدون ص405-408، ط.4، دار القلم، بيروت. [8]- القاموس المحيط، ومعجم متن اللغة، للشيخ أحمد رضا.

[9]- انظر كتاب (ساعات بين الكتب) للعقاد، ص340.

     المصدر: كتاب الفن الإسلامي.. التزام وابتداع

ارسال التعليق

Top