سورة الزلزلة واحدة من أكثر سور القرآن الكريم تأثيراً في القلوب.. الواعية منها والغافلة، ومن أشدها تحذيراً وتنبيها للنفس البشرية بما تسوقه من صورة لمشهد عظيم من مشاهد يوم القيامة التي تتنوع وتتعدد... مبشرة الأتقياء بنعيم مقيم محذرة الأشقياء من عذاب أليم... مؤكدة أنّ عمل الخير أو الشر مهما تضاءل سيجزي به الإنسان وأنّ الحساب والوزن والجزاء لن يترك صغيرة ولا كبيرة إلا ويحصيها (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة/ 7-8).
تبدأ السورة بربط ظاهرتين عرفهما الناس في حياتهم الدنيا واعتبروهما من الكوارث الطبيعية.. الزلازل والبراكين... نظراً لما تحدثانه من هلاك ودمار وما تبثانه من هلع وذعر. وواضح من السياق أنّ ما سيحدث يوم القيامة سيكون أكثر هولاً وأشد وقعاً وأنّه لا وجه لتشبيه ما سيحدث في ذلك اليوم بما ألفه الناس أو عرفوه في دنياهم، ومن المثير للتأمل والتدبير أنّ أوّل آيتين في السورة قد أورتا إشارتين علميتين في غاية الأهمية لم يتوصل العلم إليهما بشكل قطعي إلا في منتصف هذا القرن وبعد تجميع كم هائل من القياسات والبينات من كافة أنحاء العالم استخدم في الحصول عليها أدق الأجهزة العلمية وأكثرها حساسية، وما كان يمكن لبشر في زمن محمد (ص) أن يصل إلى أي منها.
- مكوناتها السطحية:
بالنسبة للإشارة الأولى فكلنا سمع في السنوات الحديثة عن ما يسمى بشبكات الرصد الزلزالي المنتشرة في كل بقاع العالم، وكلنا يقرأ بين الحين والآخر أن مرصد حلوان في مصر ومرصد كذا في فرنسا وكذا في أمريكا وكذا في اليابان قد سجل الزلزال الذي وقع في منطقة كذا والتي قد تبعد آلاف الأميال عن تلك المراصد، وأنّه قد تم بفضل تعاون هذه المراصد تحديد بؤرة الزلزال وشدته بدقة كبيرة، كما وأننا جميعاً نسمع بين حين وآخر عن حدوث انفجار أو نشاط بركاني في منطقة كذا من العالم، وربما شاهد بعضنا ما تعرضه أجهزة التلفاز عن هذه الأنشطة البركانية ورأي الحمم أو سحب الرماد البركاني تخرج من فوهات البراكين أو من تشققات الأرض وما تحدثه من دمار وهلع وذعر فدعي الله أن يقيه شر هذا البلاء، وحمده لكونه يعيش بعيداً عن مثل تلك المناطق، ولكن الذي لا يعرفه الكثيرون هو أنّ هناك فئة ليست بالقليلة من العلماء المتخصصين تعكف على هذه الأحداث والبيانات لتوقعها على خرائط أساس (أي خالية من أي بيانات) للكرة الأرضية، فهذه مجموعة توقع بؤر الزلازل التي تزيد شدتها على 4 والتي حدثت خلال المائتي عام الماضية على خريطة تسمى خريطة مواقع الزلازل الحديثة. وهذه مجموعة أخرى توقع أماكن الأنشطة البركانية الحديثة خلال نفس الفترة الزمنية على خريطة أساس مماثلة وتسمى خريطة النشاط البركاني الحديث. أظهرت خريطة المجموعة الأولى أن توزيع بؤر الزلازل على مستوى الكرة الأرضية ليس عشوائياً بل إنّه يتبع نمطاً معيناً، وأنّ هناك مناطق تخلو تماماً من تلك البؤر (مثل الصحراء الكبرى) بينما هناك أخرى تتركز فيها هذه البؤر (مثل اليابان وأندونيسيا والساحل الغربي لأمريكا الجنوبية) والتي أطلق عليها مجازاً أحزمة الزلازل، وأظهرت خريطة المجموعة الثانية أنّ توزيع الأنشطة البركانية ليس عشوائياً أيضاً يتبع نمطاً معيناً، وأنّ هناك مناطق تخلو تماماً من النشاط البركاني (مثل الصحراء الكبرى) وأخرى تكثر فيها هذه الأنشطة (مثل اليابان وأندونيسيا والساحل الغربي لأمريكا اللاتينية) وأطلق عليها حزام النار، تظهر أي مقارنة بين تلك الخرائط أنّ هناك تطابقاً كاملاً بين المناطق التي تحدث فيها الزلازل (أحزمة الزلازل) وتلك التي تكثر فيها الأنشطة البركانية (أحزمة النار) مما يؤكد وجود علاقة وثيقة لا يشوبها أي شك بين الزلزلة والانفجارات البركانية. والسؤال هو: لو لم يكن هذا القرآن وحياً من العليم الحكيم فكيف تأتيَّ لمحمد (ص) أن يربط بين هاتين الظاهرتين بالذات ليصور منهما مشهداً من مشاهد يوم القيامة، ولماذا لم يربط الزلازل مثلاً بالصواعق أو الأعاصير أو يربط البرق والرعد بالبراكين. وكيف أمكن لمحمد (ص) دون أي قياسات أو اتصالات أو رصد وقبل أن تكتشف مناطق كثيرة من العالم أن يربط بين الظاهرتين بهذا الربط الجازم الواضح المبسط.. (إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم/ 4). ولعل في هذه الإشارة العلمية وما بها من إعجاز مجالاً ليراجع أي منكر لرسالة محمد (ص) موقفه وليزداد كل مؤمن بها إيماناً وتصديقاً.
أما بالنسبة للإشارة العلمية الثانية والتي وردت في الآية الثانية من سورة الزلزلة (وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا) (الزلزلة/ 2)، فهي تفيد أنّ مكونات الأرض في جوفها أثقل من مكوناتها عند سطحها. والسؤال هو: ما نصيب هذه المعلومة من الصحة ومتى وكيف أمكن للعالم أن يعرفها؟ أما أنّ هذه المعلومة صحيحة فهذا أمر مؤكد لا يختلف عليه اثنان من علماء الأرض الآن... بل أنّه أمكن تحديد كثافة تلك المكونات... فمتوسط الثقل النوعي لمواد الأرض السطحية هو حوالي 2.5 وتزيد هذه القيمة تدريجياً لتصل إلى حوالي 3.5 في الوشاح على عمق يبدأ من حوالي 60 كم إلى حوالي 2900 كم ثمّ يصل الثقل النوعي إلى حوالي 12 في لب الأرض الذي يمتد لمسافة 3000 كم أخرى حتى مركز الأرض.
أما متى عرف العلماء هذه الحقائق... فالمعلومات كلها تؤكد أنّ ذلك تم كله في القرن العشرين بعد أن أمكن قياس سرعة انتقال الموجات الزلزالية في جوف الأرض وتحديد النطاقات التي تتغير عندها هذه السرعات ثمّ تحديد تركيب هذه النطاقات من المضاهاة التجريبية لسرعة انتقال أنواع الموجات في المواد المختلفة، كما ساعدت دراسة النيازك الحديدية التي تتساقط على الأرض والتي يعتقد أنّها مماثلة لمكونات الأرض الداخلية أيضاً في الوصول إلى تصور عن التركيب الداخلي للأرض والصور التي يمكن أن تتواجد عليها المادة هناك. كما أمكن الاستفادة أيضاً من قوانين الجاذبية في حساب متوسط كثافة الأرض (حوالي 5.5 جم/ سم 3) والذي أعطى مصداقية لكل هذه التقديرات.
والآن نعود فنسأل لو لم يكن وحياً فكيف كان لمحمد (ص) أن يعرف هذا التدرج في ارتفاع كثافة مكونات الأرض وأنّه عندما تحدث الزلزلة الكبرى ستلقي الأرض بأثقالها مما هو في أعماق أعماقها، ثمّ نوجه الانتباه إلى هذا التوافق الرائع مع ما ذكره الحق في موضع آخر من كتابه الكريم (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا) (غافر/ 64)، فقد جعلها بهذا التوزيع الداخلي للأثقال والجاذبية ملائمة تماماً للحياة والاستقرار عليها سواء من البشر أو الحيوان أو النبات، فإذا أراد الله أن ينهي هذه الحياة بكافة صورها فما على الأرض إلا أن تتخلى عن مسؤوليتها وتلقي ما بداخلها تصديقاً لقوله تعالى: (وَإِذَا الأرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ) (الإنشقاق/ 3-4)، وبهذا تنتهي الحياة على الأرض... الزلزال الأعظم يحدث فتتشقق الأرض ويندفع ما بداخلها وتلقي بأثقالها فتميد وتضرب... لمن الملك اليوم... لله الواحد القهار.
المصدر: مجلة الإعجاز/ العدد 2 لسنة 1996م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق