• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

حاجة الحضارة إلى حياةٍ روحيّة

حاجة الحضارة إلى حياةٍ روحيّة

قال تعالى في كتابه العزيز: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (هود/ 15-16).
وقال تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) (الإسراء/ 19).
خلق الله الإنسان مركباً من شيئين: روح وجسد، ولكل منهما مطالب، لا يتم أمره، ولا يصفو عيشه، ولا تحصل راحته إلا بها، ويجب عليه أن يسلك في هذين الطريق الوسط، فإذا فرط في مطالب البدن عاش ذليلاً عليلاً، وإذا فرط في مطالب الروح عاش عيشة البهائم، ولم يكن له من الإنسانية نصيب، اللّهمّ إلا في صورته الظاهرية، وتخاطيطه الجسمية، بل ربّما كانت عاقبته أسوأ من البهائم، إذ أنها تكون يوم القيامة تراباً، أما من أسرف في مطالب الجسد، وأهمل مطالب الروح فعاقبته وخيمة، وعذابه شديد.
قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) (محمد/ 12). فإذا أهمل الإنسان حياته الروحية، ولم يلتفت إلى كمالات نفسه الخلقية، كان شراً من البهائم، وأحطَّ من كل ذي روح. هذا بالنسبة إلى نفسه.
وأما بالنسبة إلى المجتمع العام، فهو وبال عليه، لأنّه لا يلقى منه إلا صنوف البلاء وأنواع الشقاء، فإنّ الرجل العاري من مكارم الأخلاق، الذي لم تهذب عواطفه، ولم تصف معارفه، وهو وحش ضار يفتك بكل من قدر عليه، وعقرب يلدغ كل من يلتصق به، وهو بعد ذلك شيطان متفنن في ضروب الشر، لا يعرف إلا نفسه المجرمة وشهوته الفاجرة، ولو هلكت الأُمّة، وخرب العالم، وجدير به ذلك، لأنّه لا يؤمن بالجزاء على ما اقترف، ولا بالحساب على ما جنى، فهو لا يرغب في جنة، ولا يخاف من نار، وكأنّ العالم في نظره لعبة لاعب، يفوز فيها من كان أكثر تهويشاً وشعوذة، ولا حياة في نظره غير هذه الحياة. وهؤلاء هم الذين خاطبهم الله تعالى بقوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون/ 115)؟ وقوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (ص/ 27).
لذلك عنيت تعاليم الإسلام العناية الكبرى بتهذيب نفس المؤمن، وتثقيفها، وتقرير الصلة بين الإنسان وخالقه، صلة تقوم على الإيمان به، والتفاني في محبته، والجهاد فيما يرضيه، والحرص كل الحرص، على هذه العقيدة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ...) (المائدة/ 54).
بل إنّ القرآن الكريم جعل الحياة الهانئة والعيش الرغيد في هذه الحياة، متسببة عن الإيمان المصحوب بالعمل الصالح. قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل/ 97). ومتى وجد الإيمان بالإنسان، ارتفع بنفسه عن قيودها المادية، وأصبح عاملاً خيراً، لنفسه، ولأمته، وللإنسانية جمعاء.
وإن أكبر مقومات الضمير – الذي هو الوازع النفسي المرشد للإنسان، والمذكر بعواقب فعاله – هو الاعتقاد بإله قادر، يحاسب على الكبائر والصغائر، ويطلع على ما تكنُّه السرائر، وقد صدق أحد الفلاسفة بقوله: "إنّ ضميراً بلا عقيدة بالله كمحكمة بلا قاض".
ولما نمت هذه العقيدة في نفوس المسلمين، وعقلوا كل هذه التوجيهات القرآنية الحكيمة، أصبحوا مصدر خير وسعادة لأنفسهم وللإنسانية كلها، لأنّهم آمنوا بأنّهم محاسبون على أعمالهم، ومجزيون عليها: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة/ 7-8).
نقل عن أويس القرني أنّه كان يبكي من السرور إذا اشتد به الحال، ونزلت به المصائب، ويقول: "إنّ هذه حالة المحبوبين، ومنزلة المقربين، ولست فيهم، فبأي شيء نلت هذه المنزلة عند ربي؟". بل كانوا يفرحون بالموت، ثقة بما يلاقونه عند ربهم من إحسان وتكريم، وقد ابتسم بلال (رض) عند الموت، ونهى أهله عن البكاء، وطلب إليهم أن يفرحوا وقال: غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه.
ولما أسر خبيب بن عدي، وأراد المشركون قتله، قابل ذلك بكل هدوء واطمئنان، وأنشد:
ولست أبالي حين أقتل مسلما **** على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ **** يبارك على أوصال شلو ممزَّع
على أنّ الإسلام الذي هذب النفس، وسما بها إلى عالم الطهر والكمال، لم يحرم على متبعيه الأخذ بشيء من متاع الدنيا، والتمتع بالطيبات من الرزق، بل سلك طريقاً وسطاً بين مطالب الروح، ومطالب الجسم، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة/ 172). ويقول تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ...) (الأعراف/ 32).
ويقول تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31).
وقد كان النبي (ص) يكره أن يرى أصحابه منهمكين على العبادة، غير مراعين حقوق أجسادهم، لأنّ الحدث الجلل الذي أرسل لتحقيقه في العالم يتطلب أجساداً قوية، وإرادات حديدية، وكان يحثُّهم على المحاولات الرياضية: كركوب الخيل، والسباحة، والرماية، والمماصعة بالسيوف.
وقد جاء في الحديث أنّه لحق به في تهجده رجال كانوا يصلون خلفه، ثمّ رآهم يكثرون ليلة بعد أخرى، فمنعهم خشية أن يفرض التهجد عليهم، فيضعفهم.
وجاء في الحديث أنّه (ص) قال لعبدالله بن عمرو بن العاص: "ألم أخبر أنك تصوم النهار، وتقوم الليل؟ قال: نعم يا رسول الله، وإني على ذلك لقادر. فقال له النبي (ص): لا. بل قم ونم، وصم وأفطر، فإن لبدنك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك (أي لزائريك) عليك حقاً".
ولما كان الروح والجسم أمرين متلازمين، ينعمان معاً، ويعذبان معاً، جاءت تعاليم الإسلام تعنى بهما معاً، ولهذا التلازم بينهما أشارت الآية الكريمة وهي قوله تعالى في سورة النحل: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (النحل/ 111).
روي عن ابن عباس (رض) أنّه قال: ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة، حتى يخاصم الروح الجسد، فيقول الروح: يا رب لم يكن لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها، ولا عين أبصر بها، فضعف عليه العذاب. فيقول الجسد: "يا رب أنت خلقتني كالخشبة ليس لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها، ولا عين أبصر بها. فجاء هذا الروح كشعاع النور، فيه نطق لساني، وبه أبصرت عيناي وبه مشت رجلاي.
فيضرب الله لهما مثلاً، أعمى مقعداً دخلا حائطاً (أي بستاناً) فيه ثمار، فالأعمى لا يبصر الثمر، والمقعد لا يتناوله، فحمل الأعمى المقعد على كتفيه، وتناول الثمر، وأكلا معا، فعلى من يكون العقاب؟ قالا عليهما: قال وعليكما جميعاً العذاب.
يا أيها الناس: تعالوا إلى تعاليم الإسلام، التي تهذب النفس، وتزكيها وتسمو بها إلى قمة الخلق والفضيلة، وتحول بينها وبين الشعور والآثام.
فالرقيُّ المادي الذي وصلنا إليه في هذا القرن، لم يؤت ثمرته الفعلية، من إسعاد الناس، واستقرار الأمن، ورخاء البال، بل على العكس جلب التعاسة والخراب الناجمين عن الحروب المتلاحقة والتهديد بالدمار والهلاك.
فإذن، تعاليم الإسلام هي الكفيلة بسعادة المجتمع واستقراره، فإلى تعاليم الإسلام وإرشاداته، والسلام عليكم أينما كنتم.

المصدر: كتاب من وحي المنبر

ارسال التعليق

Top