• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

لا إله إلّا أنت.. قمة شامخة من قمم التوحيد

لا إله إلّا أنت.. قمة شامخة من قمم التوحيد

  هذه الكلمة هي كلمة التوحيد، وهي الفاصل بين التوحيد والشّرك.

والتوحيد ثلاث مسائل: توحيد الخلق والسّيادة والسّلطان لله في الكون، ونفي أي سلطان وسيادة وخلق لغير الله تعالى في الكون، في عرض سلطان الله وخلقه وهذا هو توحيد الربوبيّة. وهذه الحلقة الأولى من حلقات التوحيد الثلاثة والحلقة الثانية توحيد الولاية والسّيادة التشريعية لله تعالى على حياة الإنسان، بدليل ولايته تعالى وسيادته التكوينية على الكون. فلا يكاد ينفك هذا التوحيد عن ذلك التوحيد، وهذا توحيد الالوهية. فإنّ الذي يحكم الكون كله بما في ذلك الإنسان، يحكم لامحال حياة الإنسان، وحركته ونظام حياته وعلاقاته، وبالتالي يحكم المساحة التشريعية من حياته. وتوحيد ولاية الله تعالى على الإنسان يستتبع توحيد الطاعة من الإنسان لله، فلا طاعة لغير الله تعالى على الإنسان وليس في هذا الكون من يستحق الطاعة على الإنسان غير الله تعالى، إلا ان يكون بأمر من الله واذنه. وهذه ثلاث حلقات من التوحيد.   - توحيد المآب والمفزع: فأي معنى من هذه المعاني الثلاثة كان يقصده العبد الصالح ذو النون (ع) في بطن الحوت؟ في رأيي انّ ذا النون (ع) كان قد تجاوز هذه المراحل الثلاثة من التوحيد. وكان يخاطب الله تعالى، في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، بمعنى آخر من التوحيد، وهو توحيد (المفزع) و(المآب) و(المفر). فإنّ العبد إذا عصى مولاه، وخاف على نفسه من غضب مولاه، يسعى للفرار من سخط مولاه ويبحث عن مفزع وملجأ يفزع إليه من غضب مولاه. فهل يجد العبد مفزعاً يفزع إليه من غضب الله غير الله تعالى. انّ رحلة النزق والهوى إذا كانت تنتهي بالإنسان إلى الشيطان، فإن رحلة (الفزع) و(الندم) لابدّ أن تنتهي بالإنسان إلى الله تعالى. ولا يجد الإنسان في هذه الرحلة مفزعاً، يفزع إليه غير الله، ولا ملجأ يحميه من غضب الله غير رحمة الله تعالى. وهذا هو توحيد (المفزع) و(المفر) و(المآب) في حياة الإنسان. إنّ ذا النون (ع) يطوي في بطن الحوت آخر مراحل التوحيد... وآخر مراحل التوحيد توحيد (المآب) و(المفزع). فيقر باستحالة الفرار من الله، وأين يفر العبد من قبضة الله وسلطانه؟ وهل في هذا الكون الرحيب مكان لا يمتد إليه سلطان الله ونفوذه وقدرته ولا يحكمه الله؟ ويقر ثانياً بأنّه لا يحميه من غضب الله مفزع ولا معاذ ولا ملجأ، ولا حمى إلّا الله.   - وعي توحيد المعاذ: ووعي توحيد (المعاذ) من درجات الوعي التوحيدي العالية، قمة شامخة من قمم وعي التوحيد، ولا يؤتاها إلّا القليل. وقد رزق الله تعالى العبد الصّالح ذا النون (ع) هذه القمة الشّامخة من الوعي في بطن الحوت. كما رزق الله تعالى موسى بن عمران (ع) النبوة في سيناء. وقد كان يقول بعض أرباب الذوق: كان للعبد الصالح ذي النون عروج إلى الله، وكان لرسول الله (ص) عروج إلى الله غير أنّ عروج رسول الله (ص) كان إلى المسجد الأقصى ثمّ إلى السماء وعروج العبد الصالح ذي النون كان في بطن الحوت في ظلمات ثلاث. ومن عجب انّ العبد في هذه الحالة خائف من غضب الله يبحث عن طريق للفرار من غضب الله تعالى غير انّه لا يجد غير الله تعالى ملجأ وملاذاً يلوذ به من غضب الله تعالى غير الله، فيلوذ به ويلجأ إليه. وهو من أرق معاني التوحيد وأصفاها وأنقاها. وقد ورد في نصوص الأدعية المأثورة عن أهل البيت (ع) الإشارة إلى هذا المعنى كثيراً. ففي المناجاة الرابعة من المناجاة الخمسة عشر للإمام زين العابدين (ع). (يا مَن كُلُّ هاربٍ إليه يلتجئُ، وَكُل طالِبٍ إياهُ يرتجي، يا خيرَ مرجوّ، ويا أكرم مدعوٍّ، يا من لا يردُ سائلهُ، ولا يخيبُ آملهُ، يا من بابهُ مفتوحٌ لِداعيهِ، وحجابهُ مرفوعٌ لِراجيهِ). في هذه الرحلة (رحلة العودة إلى الله) يعي الإنسان أمرين: يعي أنّه يستحق مقت الله وغضبه، ولابدّ له من ملجأ ومعاذ يلجأ إليه ويعوذ به. ويعي انّ لا ملجأ له ولا معاذ من الله غير الله. وهذه هي حالة الفرار من غضب الله إلى الله، والاعاذة بالله من غضب الله، وهي من مراتب التوحيد العالية، ومن أرق مفاهيم التوحيد. وقد ورد في المناجاة الشعبانية التي كان يحرص عليها أهل البيت (ع): (إلهي أعوذ بك من غضبك). وفي المناجاة الخامسة من المناجاة الخمسة عشر المعروفة: (وها أنا متعرضٌ لنفحاتِ روحكَ وعطفِكَ، ومنتجِعٌ غيثَ جودكَ ولطفكَ، فارٌّ منْ سخطكَ إلى رضاكَ، هاربٌ منكَ إليكَ). وفي المناجاة الشّعبانية أيضاً: (إلهي أنا عبدٌ أتنصُّلُ إليكَ مِمّا كنتُ أواجهكَ به من قلَّةِ إستحيائي). وفي دعاء أبي حمزة: (إلهي أنا عبدٌ أتنصَّلُ إليكَ مِمّا أواجهكَ بهِ من قلَّةِ إستحيائي). وفي دعاء أبي حمزة: (وأنا يا سيّدي عائذٌ بفضلكَ، هاربٌ منكَ إليكَ، متنجِّزٌ ما وعدتَ منَ الصّفحِ عمَّنْ أحسنَ بكَ ظناً). وتشبه هذه الحالة في الراشدين الموحدين حالة الطفل الذي تسخط عليه أمه، وتغضب عليه، فينظر يميناً ويساراً ليبحث عن ملجأ يلجأ إليه ليحميه من غضب أُمّه، وسخطها، فلا يجد في دنياه الصّغيرة ملجأ يلجأ إليه ومعاذاً يعوذ به أكثر أمناً وأكثر حناناً من حضن أُمّه فيلجأ إليها منها، ويعوذ بها منها. وهذه الحالة في علاقة الطفل بأمّه من أرق حالات الطفولة. ولو انّ الكبار كانوا يملكون مثل هذا الوعي في علاقتهم بالله لما ترددوا لحظة واحدة في العودة والتوبة إلى الله. في أيّة مرحلة كانوا من مراحل الإباق[1] والتمرد والمخالفة. ويقبح بالراشدين إن لا يعوا في علاقتهم بالله تعالى ما يعيه ذلك الطفل من علاقته بأُمّه في سذاجة وبراءة. وهذه هي حالة العبد الذي أبق، وخرج من بيت مولاه، فعانى من الضّياع والعذاب، ولم يجد من يأويه، ويعطف عليه، ويستره، ويشعره بالعطف والرحمة غير مولاه، فيعود إليه من جديد، على استحياء، يطرق الباب ويواجه مولاه مطرقاً على خجل، لا يجد ما يقول. ولا يعرف عذراً يعتذر به عن اباقه وخروجه عن حمى مولاه، غير أن يتشبث بكرم مولاه وعطفه ورحمته. تأملوا في هذه الفقرة الشّفافة من المناجاة الأولى من المناجاة الخمسة عشر. ( فوعزتكَ ما أجدُ لذنوبي سواكَ غافِراً، ولا أرى لكسري غيركَ جابراً وقد خضعتُ بالإنابةَ إليك وُعنْوتُ بالاستكانةِ. فانْ طردتَني مِن بابكَ فبمن ألوذُ، وإن رددتني عن جنابكَ فبُممْن أعوذُ فو أسفاهُ من خجلي افتِضاحي، ووالهفاهُ من سُوء عملي واجتراحي، إلهي هلّ يرجعُ العبدُ الآبقُ إلا إلى مولاه؟ أم هلْ يجيرهُ من سخطهِ أحدٌ سواهُ... لك العتبى حتى ترضى، إلهي أنتَ الذي فتحتَ لعبادكَ باباً إلى عفوكَ، سميتهُ التوبةَ. فقلتَ توبوا إلى الله توبةً نصوحاً، فما عذرُ من اغفلَ دخولَ الباب بعدَ فتحهِ إلهي ان كان قَبُحَ الذنبُ من عبدكَ، فليَحسُنِ العفوُ من عندكَ... إلهي ما أنا بأولِ من عصاكَ فتبتَ عليه، وتعرَّضَ لمعروفكَ فجُدتَ عليه يا مجيبَ المضطرِّ، يا كاشف الضّرِّ، يا عظيم البرِّ يا عليماً بما في السِّرّ، يا جميل السترِّ). وهذه رحلة العودة إلى الله.

وللإنسان إلى الله رحلتان، رحلة الاقبال، ورحلة العودة، ولرحلة العودة إلى الله أدب، وأصول، كما للاقبال على الله أدب وأصول.

الهامش:


[1]- الإباق: هربُ العبد من سيده. قال الله تعالى في يونس (ع) حين ندّ في الأرض مغاضباً لقومه (إذ أبقَ إلى الفلك المشحون)، (لسان العرب، 3:10).

ارسال التعليق

Top