◄أقام الإسلام نظامه على الوسطية والاعتدال، فهو ليس بذي طابع روحي محض، ولا مادي بحت، وبذلك وجد فيه الروحي المسرف في روحيته، ما ينقص من مقتضيات عنصره المادي، كما وجد فيه المادي المتفاني في ماديته ما يعاني من نقص في مقتضيات روحه، فدخل كلّ من الروحي والمادي في الإسلام، لأنّ كلاً منهما وجد فيه طلبته، وما يفتقر إليه فطرياً، فانتج لنا الإسلام ذلك الإنسان "المتكامل" أو "المتوازن القوي" وبيان ذلك:
1- انّ للإنسان عقلاً يلتمس المعرفة من أبعد حدودها، فحث الإسلام على طلب العلم النافع بجميع وجوهه وأنواعه وجعله معيار التفاضل، لأنّه يعبر عن خصيصة إنسانية بقوله تعالى: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف/ 76)، ويقول جلّ شأنه: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه/ 114)، ويقول (ع): "الحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيثما وجدها" ويقول أيضاً: "العلم فريضة على كلِّ مسلم ومسلمة" وقال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة/ 11).
2- وللإنسان جسم يتطلب القوة في أكمل صفاتها، يقول (ع): "انّ لبدنك عليك حقاً" ويقول أيضاً: "المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف".
3- وللإنسان روح لا يروي ظمأها، إلا المثل العليا، والاستشراف إلى ما هو أسمى من المادي المحسوس، ولا ريب انّ الإيمان بالمادة أو المشاهد فحسب "طفولة بشرية" ذلك لأنّ من السهل على كلِّ إنسان أن ينكر ما لم يره أو يشاهده، وهذا شأن الطفل في الإنسانية – ولكن من الصعب عليه أن يتصور "الكمال المطلق" لأنّه يفتقر إلى التركيز العقلي، والتأمل العميق، وذلك طابع الرشد الإنساني.
هذا، وقد ثبت في الواقع انّ "الإيمان" الذي تستشرفه الروح وتتغذى به، ليس في وسع التفكير الإنساني وحده أن يقدمه للإنسان، ولو كان التفكير الإنساني قادراً على أن يميز الصحيح من غيره في كلِّ شيء، لما وجد هذا الفساد والاضطراب والأخطاء والاختلاف الشديد في وجهات النظر إلى الحياة، فكان الإنسان مفتقراً إلى "هداية الله" على الرغم مما أودع فيه من عقل، قال تعالى: (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه/ 50)، وقال تعالى: (.. جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) (الشورى/ 52).
إذ الإيمان بالمشاهد فحسب وانكار ما وراءه أمر يسير، لأنّه يفتقر إلى تأمل أو إدراك عميق.
أما تصور "الكمال المطلق" والحقائق المجردة فذلك مما يعوزه تركيز عقلي لا يملك القدرة عليه إلا من جاوز مرحلة الطفولة البشرية إلى الرشد الإنساني، ذلك الرشد الذي لا يتم إلا بالتفكير الموجه بهداية الله، وهذا هو السر في بعث الرسل، وإنزال الشرائع السماوية.
وقصارى القول: انّ الإسلام اعتبر الإنسان "كلاً لا يتجزأ"، وهذا الاعتبار هو الذي يتفق ومكونات الفطرة الإنسانية، ولذا أنكر الإسلام "المادية الصرف" التي لا تعترف بالروح، كما أنكر "الروحية السلبية" التي تدعو إلى الانزواء والزهد في الحياة ومتعها، وتنتهي بالناس إلى الخور والاستسلام.
وبذلك أنتج لنا الإسلام – بعقيدته وشريعته – ذلك الإنسان السوي المتكامل المتوازن الذي يستطيع أن يعيش لنفسه ولغيره، وأن يعمل لدنياه وآخرته، وأن يوفر السعادة لنفسه ولغيره من بني الإنسان، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) (النحل/ 97)، وقال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف/ 32)، وقال علي بن أبي طالب (ع): "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً".
ولعل هذا هو السر في بقاء الحضارة الإنسانية في الإسلام وخلودها، رغم التيارات الفكرية الوافدة التي كانت تتحداها على مر العصور.
التعاليم الخلقية حجر الزاوية:
انموذجاً من الحياة الصالحة بوسعه أن يسمو إليه إذا أحسن تنمية عناصر الخير في طبيعته، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[1] (الشمس/ 9-10)، والإنسان مفطور على الخير والشر، (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (الأنبياء/ 35).
والتوجيه الخلقي الإسلامي قد استغرق معظم أحكام الشريعة، وقد أعلن الإسلام انّه انما جاء ليتم صرح الأخلاق الذي شيدته الرسالات السماوية السابقة، قال (ص): "انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وقالت عائشة في وصف الرسول (ص): "كان خلقه القرآن"، وأشاد القرآن الكريم بما كان عليه النبي (ص) من عظمة الخلق، فقال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4).
ولقد كان للدعامة الخلقية في الإسلام أثرها في بناء التكافل الاجتماعي[2] من تحريم الأضرار بجميع وجوهه "لا ضرر ولا ضرار" ومن الحث على الإحسان، والتسامح، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس، والتنازل عن الحقِّ كلاً أو بعضاً أي الابراء منه، وعدم مقابلة السيئة بالسيئة، قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى/ 40)، وقال جلّ شأنه: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) (آل عمران/ 134)، وقال أيضاً: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) (النحل/ 90)، وقال أيضاً: (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) (البقرة/ 237)، ثمّ أقام الجزاء على تصرفات الإنسان على أساس العنصر النفسي من حسن النية أو سوئها، قال (ص): "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكلِّ امريء ما نوى" ولا شكّ انّ "النبية" تعتبر من صميم الخصال الخلقية.
وفي الآداب العامة حث على التزام العفة، والطهر، والاحتشام في موقف كلّ من الجنسين نحو الآخر، وحرص على أن تتسم بطابع الجد والوقار، والأخوة والإخلاص، والاعتدال والتوسط في كلِّ شيء، فلا إسراف، ولا تقتير، ولا إغراق في لهو، ولا إضاعة للعمر في عبث أو فضول.
الهامش:
[1]- تدسية الروح افسادها بالمعاصي.
[2]- راجع مؤلف "الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده"، ص88.
المصدر: مجلة العالم/ العدد 187 لسنة 1987م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق