• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الدولة والسيادة في عصر العولمة

الدولة والسيادة في عصر العولمة

◄ما هي الدولة؟ وما هي غايتها؟ سؤال يبدو لأوّل وهلة، وكأنّه يعيدنا إلى تلك المناقشات الأولى في الفلسفة السياسية حول معنى الدولة والسلطة والمجتمع.

إنّ مثل هذا السؤال، تفرضه أحداث اليوم فرضاً، كما كانت أحداث الماضي قد فرضته لأوّل مرّة، منذ أن كان هناك جماعة بشرية، ومنذ أن كانت هذه الجماعة سياسية بالضرورة، ففلاسفة اليونان والرومان والعرب المسلمين، ومسيحيو أوروبا العصور الوسطى، وحداثيو أوروبا عصر النهضة، ومنهجيو العصور الحديثة والمعاصرة، حين خاضوا في السياسة، وعلى رأسها مفهوم الدولة، إنما كانوا يفعلون ذلك لأنّ الأحداث والمتغيرات الجارية كانت تدفعهم لذلك دفعاً، فلم يكن اعتباطاً، أو من باب الترف الذهني أو الفكري، مثلاً أن يقوم أفلاطون ومن بعده أرسطو ومن قبلهما سقراط، بمناقشة قضية الدولة وعلاقتها بالمجتمع، وكيف يجب أن يكون الشكل الأمثل لتلك الدولة، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، فقد كانت حضارة وثقافة "دولة المدينة" الإغريقية آيلة للسقوط، مفسحة في المجال للدولة الإمبراطورية العالمية التي استهلها الإسكندر المقدوني، قبل أن ترث روما تلك الإمبراطورية، ومن هنا كانت القضية تفرض نفسها على الأذهان والعقول. وعندما خرج ميكافيلي بمفاهيمه السياسية الجديدة، أو هوبز ومن تلاهما من مفكري السياسة الحديثيين (من حيث الانطلاق في التنظير من عالم الوقائع لا من عالم المُثل)، كانت هناك تغيرات اجتماعية واقتصادية وبالتالي سياسية، تتفاعل في أحشاء المجتمع الأوروبي، وكان لزاماً أن يكون هناك تعبير نظري سياسي عنها وعن اتجاهاتها، وما يمكن أن تسفر عنه من نتائج، وما يجب أن تسفر عنه من نتائج، ومن هنا كان دور المفكر والفيلسوف والمثقف للتعبير عن تلك التغيرات، فالتنظير عموماً ليس ترفاً، أو شيئاً مفصوم العُرى عن الواقع، بقدر ما هو تعبير عنه واستشراف له في ذات الوقت، فعندما كان توماس هوبز الإنجليزي، وجان بودان الفرنسي يتحدّثان عن مفهوم "السيادة"، ويُنظران له، فإنّهما في الحقيقة كانا يعبّران عن تلك المرحلة الانتقالية في التاريخ الأوروبي من الدولة "الكوزموبوليتانية"، إلى الدولة "القومية" الحديثة، ومن تشظي السيادة في البلد الواحد، رغم وحدتها الشكلية أو الاسمية، إلى حصر السيادة في موقع واحد، هوبز وبودان، كمثل هنا، كانا يضعان الأُسس النظرية لتنظيم الدولة الحديثة، وهما لم يأتيا بذلك التنظير من بنات الخيال المجرد، بقدر ما كانا يربطان الأحداث والتغيرات الجارية بما يمكن أن يتجلّى عنها من نتائج، ويربطان بين الطرفين "الحدث ونتيجته المحتملة" بالتنظير المستند إلى الواقعة السياسية والاجتماعية، وليس إلى مجرد التأمّل أو التفكير الغربي، وعندما أنهت معاهدة "ويستفاليا" (1648) الحروب الدينية الداخلية في دول أوروبا، مفسحة في المجال للحروب القومية الخارجية، كان ذلك إعلاناً رسمياً بولادة "الدولة – الأُمّة الحديثة (nation state)"، وما يتضمنه ذلك من مفاهيم ملازمة، مثل مفهوم السيادة الذي عبر عنه ميكافيلي وبودان وهوبز نظرياً، قبل أن يتجسّد سياسياً.

وما يجري على الساحة الدولية اليوم، هو نوع من الانقلاب الجذري في العلاقات بين الدول، وفي تلك العلاقة التقليدية بين الحاكم والمحكوم، وما يتضمنه ذلك من تغيرات محتملة في شكل الدولة ونمط الحكم المعتبر شرعياً، بحيث يمكن القول إنّ مثل هذا الانقلاب لا يقل في أهميته المستقبلية، عن ذاك الانقلاب في التاريخ الأوروبي، الذي أدى في النهاية إلى انتهاء عصر وبداية عصر جديد، مع ما يرافق ذلك من بداية ظهور مفاهيم سياسية جديدة، أو مضامين جديدة لمفاهيم قديمة، تصف هذا الانقلاب والتحوّل، وتحاول أن تضعه في إطار نظري سياسي جديد، كما فعل منظرو تلك الحُقبة، فبعيداً عن مستوى التحليل الآني والجزئي (MICRO) للسياسة، والمواقف السياسية بصفتها فن الممكن، فإنّ الإفرازات السياسية بعيدة المدى، منظوراً إلى المسألة من زاوية كلية (MACRO) لعصر العولمة، وخاصّة في أعقاب حرب الخليج الثانية وانهيار آخر الإمبراطوريات "الكوزموبوليتانية" التقليدية (الاتحاد السوفييتي)، رغم القشرة الحديثة لتلك الإمبراطورية، وأثر كلّ ذلك على ما نشاهده اليوم من أحداث في مناطق البلقان والقوقاز وشرق آسيا، هو بداية تحوّل جذري في العلاقات الدولية، وفي شكل الدولة وبنيتها، وفي السياسة الداخلية وعلاقة الحاكم بالمحكوم على حدّ سواء. فالدولة عموماً، إنما نشأت في المقام الأوّل على أساس شرعية الحفاظ على حياة أفرادها ابتداء، ومنحهم فرصة الحركة الآمنة نسبياً، والدولة القومية خاصّة، وما تتضمنه من مفاهيم السيادة ونحوها، إنما برزت إلى الوجود كنوع من وضع حدّ للعنف في المجتمع، ومن ثمّ تأتي بقية الحقوق، بغض النظر عن مدى "حقوقيتها"، فقد يكون هناك اختلاف على طبيعة تلك الحقوق، وكونها حقوقاً من عدمه بين مختلف المفكرين وممارسي السياسة في القديم والحديث، ولكن حقّ الحياة ذاته لا يمكن أن يكون هناك اختلاف عليه، فهو الحقّ الأساس الذي تقوم عليه بقية الحقوق، وقد تختلف الدولة القومية الحديثة عن أنماط وأشكال الدول السابقة عليها، من حيث إنّها تقوم على أساس الأُمّة الواحدة، والشرعية المنبثقة عن مفهوم الأُمّة هذا، ولكن ذلك لا ينفي الجوهر الرئيس الذي قامت عليه الدولة بصفتها تجمّعاً بشرياً بوظيفة تاريخية معينة، ألا وهي تحقيق الأمن للجماعة المنضوية تحتها (أُمّة كانت تلك الجماعة، أو مزيجاً من الأُمّم)، ومن هنا انبثق مفهوم "السيادة" ذاته في المقام الأوّل، ومن بعد ذلك تأتي بقية الاعتبارات، نعم، قد يكون هنالك بعض الأيديولوجيات السياسية، والتيارات الفكرية التي تعطي الدولة أهمية عُظمى، وتمنحها كلّ الحقوق، بما فيها حقّ حياة الفرد ذاته، وخاصّة في عهود قديمة، ولكن مثل تلك التيارات والأيديولوجيات تعتبر نوعاً من الشذوذ عن القاعدة العامّة، حين النظر إلى المجرى التاريخي العام للفكر السياسي والممارسة السياسية والتاريخية للإنسان، وحين يتناقش المفكرون وفلاسفة السياسة في غاية الدولة وهدفها الرئيس، فإنّهم لا يختلفون حول حقّ الحياة هذا، ضمناً كان ذلك أو صراحة، سواء كان نقاشهم يدور حول غاية الدولة مثالياً (أفلاطون وروسوا هيغل على سبيل المثال)، أو واقعياً (ميكافيلي وهوبز وفيبر مثلاً)، فمن دون الوجود المادّي لذات الإنسان، فإنّه لا معنى لأي تجمّع بشري.

وعندما يُعرف عالم اجتماع مثل ماكس فيبر الدولة (السلطة) بأنّها "الاحتكار الشرعي لوسائل العنف في المجتمع"، فإنّ هدف هذا الاحتكار في النهاية هو الحفاظ على حقّ الحياة ابتداء، ومن ثمّ تأتي بقية الحقوق حسب الاتفاق، وحسب التطوّر التاريخي لعلاقة الحاكم بالمحكوم، وما ينبثق عنه كلّ ذلك من نظام سياسي واجتماعي، والاحتكار الشرعي لوسائل العنف في المجتمع هذا، هو الأساس المادّي لمفهوم السيادة، بل هو ذات السيادة، التي حددها بودان، وهي أساس مفهوم السلطة، كما حددها هوبز خاصّة، فمفهوم السيادة، بصفته المفهوم الأساس للدولة القومية الحديثة، إنّما ظهر إلى حيّز الوجود نتيجة تعرض الحياة الفردية للخطر، خلال فترة الثورات والانتفاضات والاضطرابات السياسية والدينية والمجتمعية في أوروبا (إنجلترا وفرنسا على وجه الخصوص)، والتي بدورها ألغت أي إمكان للاستقرار، فكان لابدّ والحالة هذه (العقلانية العملية كما يراها هوبز)، من أن تحتكر مؤسسة واحدة وسائل العنف في المجتمع، وتكون الخلية الأولى للدولة وما يتعلق بها من مفاهيم، من أجل ألا تتحوّل العلاقات بين الأفراد والجماعات إلى خطر يهدّد الحياة ذاتها (حالة الطبيعية وفق مفهوم هوبز)، ولو استعرضنا كلّ ما قيل أو كُتب في الفلسفة السياسية، قديمها وحديثها، حول الدولة ومفاهيمها التابعة، وخاصّة مفهوم السيادة، لما وجدنا أنّ الغاية النهائية، أو المُتفق عليها على وجه الدقة بين الجميع، تخرج عن الهدف السابق، وسواء كان ذلك صراحة أو ضمناً، فيما هم يختلفون على كلّ شيء آخر.

ولكن، وهنا يكمن السؤال المؤرق والمحرق معاً، ماذا يحدث إذا تحوّلت الدولة ذاتها؟ وهي المحتكر الشرعي الأوحد لوسائل العنف، إلى أن تكون هي المهدد الأوّل للحياة في المجتمع، وذلك كما هو الحال في كمبوديا "بول بوت" والخمير الحمر، أو كما في حالة كوسوفو أو الشيشان مثلاً؟ في مثل هذه الحالة، ووفق منطق مُنظري العقد الاجتماعي، سواء كان العقد يرتّب حقوقاً سياسية (لوك وروسو)، أو لا يتعلّق بغير حقّ الأمن والحركة الآمنة (هوبز)، فإنّ العقد ينفسخ بين "السيِّد" بصفته ممثلاً للدولة وسيادتها، ومحتكراً للسلطة المنبثقة، وبين الأفراد، وهم غير ملزمين بطاعته حيث انتفت الشرعية ذاتها، وتحوّل السيِّد (فرداً كان أو جماعة)، إلى مجرد محتكر لوسائل العنف، أو مالكاً لها على أقل تقدير، دون أن يكون له "الحقّ" في استخدامها، مثله في ذلك مثل أي عصابة عادية، فالفرق الرئيس، إن لم يكن الأوحد، بين "السلطة" والقوّة المجردة ليس مادّياً، بقدر ما هو معنوي إن صح التعبير.

فكلتا الممارستين تتضمن القدرة والقهر والإرغام، وإمكان استخدام العنف، ولكن السلطة تتضمن الحقّ في ممارسة القدرة، بينما القوّة المجردة تنتفي منها هذه الصفة، وذلك مثل الفرق بين جندي أو شرطي يحمل مسدساً، ولص يحمل مسدساً هو الآخر، فالسلطة، في خاتمة التحليل، تعني استخدام القوّة من أجل هدف عام، وهذا هو الأساس النهائي للشرعية ومفهومها، ولكن ومن الجهة الأخرى، رغم انفساخ العقد وفق هذه النظرية أو تلك، فإنّ محتكر القوّة يبقى هو السيِّد الفعلي في المجتمع، وبالتالي فإنّه وفي مقابل التجمعات البشرية الأخرى، إنما يمارس "حقوق " السيادة، فكيف يكون الموقف منه؟ هذا هو برأي الكاتب هنا هو سؤال العصر.

ومن جهة أخرى، ووفقاً لما يجري في عالم الواقع اليومي، وبعيداً عن التنظير بعيد المدى، وإن لم يكن بعيداً عنه ذلك البُعد، ماذا لو كان المحتكر لوسائل العنف في المجتمع (الدولة، السلطة) من القدرة بحيث إنّه يهدّد حقّ الحياة في المجتمع، وفي ذات الوقت، ليس في مقدور الأفراد فسخ العقد حتى لو أرادوا، كما هو الحال في الشيشان اليوم مثلاً؟ هل يجوز في هذه الحالة للآخرين، أي دول وجماعات أخرى، التدخل للمساعدة في فسخ العقد مثلاً؟ مثل هذا السؤال يثير من الإشكاليات والتساؤلات المتشعّبة، أكثر مما يقود إلى إجابة شافية وافية، وهل هناك مثل هذه الإجابة في الشؤون الإنسانية على أيَّ حال؟ فوفقاً لمفهوم السيادة التقليدي، فإنّه لا يجوز لأي طرف خارج الدولة التدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى، مهما كانت الظروف والأحوال، حتى لو كان هناك نوع من التصفية العرقية مثلاً، في هذا البلد أو ذاك، فالسيادة تعريفاً هي السلطة التي لا تعلوها سلطة في الداخل، وغير الخاضعة لأي سلطة أخرى في الخارج، ولكن مفهوم السيادة هذا، الذي أسميناه بالتقليدي، وإن كان قد ساعد على تبلور الدولة القومية الحديثة كما نعرفها في العصور الحديثة، إلّا أنّ صفته المطلقة، والتعسّف في استخدامه، قد يؤديان إلى عكس المرام منه في بداية تبلّور المفهوم، أي الحفاظ على الحياة في المجتمع وصيانة حقوقها، كأي تعسّف في استخدام الحقّ مما يتحدّث أهل القانون، ومن هنا، ففي اعتقاد كاتب هذه السطور، فإنّ مفهوم السيادة وفق التعريف السابق، وبالتالي مفهوم الدولة وحدود سلطتها، مقدم على تغيرات وتحوّلات في معناه ومبناه وحدوده النظرية والعملية، وذلك ليعكس التغيرات والتحوّلات السياسية في عالم اليوم، فإذا كان مفهوم السيادة في بداية تبلّوره، عنى فيما عنى حرمان تلك المؤسسات والجماعات ما دون الدولة (الإقطاعية، القبيلة، الطائفة، الكنيسة، وغير ذلك) من امتلاك السيادة أو جزء منها، فالسيادة لا تتجزأ، وأصبحت الدولة وفق هذا المفهوم هي "مؤسسة المؤسسات"، والمالك الأوحد للسيادة في الدولة الواحدة، فإنّ عولمة الاقتصاد والاتصالات المعاصرة، ونتائجها السياسية والثقافية الملازمة بالضرورة، سوف تؤدي في النهاية إلى حرمان الدول المتعدّد من حقّ السيادة المطلقة، وصولاً إلى مفهوم جديد للسيادة يركز على العالم أجمع، بصفته الوحدة السياسية التي تحل محل الدولة التقليدية المعتادة، وذلك كما يبدو من قراءة مجرى الأحداث.

وإذا كان أرسطو قبل قرون عدة من الزمان، قد وصف تطوّر المجتمع السياسي بأنّه انتقال من العائلة إلى القبيلة ثمّ إلى المدينة (بوليس) في خاتمة التطوّر، بصفتها الشكل السياسي الأكمل والنهائي للتطوّر السياسي البشري (خاتمة التاريخ)، وأثبت التاريخ وتطوّره بطلان هذا التنظير، فإنّه يمكن القول اليوم بشيء من الثقة، إنّ "الدولة القومية" ومفاهيمها المرافقة، لن تكون نهاية التطوّر السياسي للتجمعات البشرية، وفق ذات منطق أرسطو، ووفق ما نشاهده اليوم من تحوّلات متسارعة وجذرية في أثرها، فالبعض، في الماضي والحاضر، مجّدوا الدولة القومية كثيراً، واعتبروها أكمل شكل سياسي من الممكن أن يحقّقه الإنسان، أو حتى أنّها عبارة عن نهاية للتاريخ ذاته (هيغل كأبرز مثل)، مقتفين في ذلك أثر أرسطو في تنظيره لدولة المدينة الإغريقية، ولكن يبدو أنّ المسألة خلاف ذلك، وربّما كنّا اليوم في بداية الطريق نحو تحقّق حلم بعض الفلاسفة "الطوباويين" في الدولة العالمية، فالعولمة المعاصرة، وضمن ما لها من آثار سياسية غير مباشرة، أدت إلى، أو هي في الطريق إلى أن تؤدي إلى نوع من الشعور بالقدر الإنساني المشترك، وذلك كما أدت التغيرات الاقتصادية والاجتماعية في أوروبا في بداية العصور الحديثة إلى الشعور بالقدر القومي المشترك، وما قام عليه من شعور قومي مشترك، فمجرد طفل جائع يبكي في أدغال أفريقيا مثلاً، يستثير العطف وحركات المشاركة الوجدانية وغير الوجدانية لدى البعض على ضفاف نهر الدانوب أو الرور أو المسيسيبي، وعلى ذلك قس، ليست القضية هنا تدخل هذه الدولة في الشأن الداخلي لتلك الدولة، بقدر ما هو في ذلك الشعور المتنامي بالمصير المشترك لكلّ بني الإنسان، نعم إنّ لمثل هذه العولمة نتائجها السلبية العديدة على الدولة في العالم الثالث خاصّة، وما يثيره ذلك من أسئلة وإشكالات الهُويّة والمصير الوطني أو القومي أو نحو ذلك، وما قد يؤدي إليه ذلك من حركات عنف وتطرف، إلّا أنّ كلّ ذلك لن يكبح تياراً هو سائر في طريقه، كما أنّ البكاء على دولة المدينة الوادعة لم يقف في طريق انبثاق دولة العالم المقدونية والرومانية.

ولكن، على فرض أنّ هذه هي المسألة، يبقى سؤال يفرض نفسه فرضاً حقيقياً: مَن سيكون صاحب السيادة في هذا العالم الجديد الآخذ في التشكّل؟ فالتدخل هنا أو هناك لابدّ أن يكون منبثقاً عن سيادة معينة، وهذه السيادة لابدّ أن تكون مستندة إلى "احتكار شرعي لوسائل العنف في المجتمع"، وهو مجتمع العالم بكلّيته هذه المرّة، كي يكون لصاحبها "الحقّ" في ممارسة القوّة التي تقف فوق كلّ القوى، أي أن تكون تلك القوّة " سلطة" معينة، سؤال في الحقيقة سابق لأوانه، ولا أملك له بطبيعة الحال جواباً قاطعاً، ولكن يمكن التكهن رغم ذلك بمسار الأحداث والتطوّرات المحتملة، استناداً إلى مقدمات معينة يمكن ملاحظتها في عالم اليوم، فبالرجوع إلى أحداث الماضي الحديث، نجد أنّ السيادة واحتكارها كانت في البدء من نصيب الأقوى مادّياً، الذي نصب نفسه سيِّداً وفقاً لنتائج الصراع بين مختلف القوى في تلك اللحظة من الزمن، وبالتالي، فإنّ شرعية مثل ذاك السيِّد كانت قائمة على القوّة المجردة بشكل رئيس، أي شرعية من لا يطيعني، فلا يحاول أن يعصيني، ولكن استقرار الأوضاع، واستمرار الصراع بين مختلف القوى الاجتماعية والسياسية، وما يتمخض عن ذلك من تطوّرات ووعي متنامٍ، أدى في النهاية إلى انتقال "ملكية" السيادة من السيِّد القديم إلى الشعب نفسه، أي عموم المجتمع، وأصبحت شرعية القوّة مرفوضة نظراً، حتى وإن كانت ممارسة عملاً، وخلال فترة الانتقال من شرعية القوّة المجردة، إلى شرعية الأُمّة، كان السيِّد قد بدأ هو بذاته في التحوّل، بحيث إنّ شرعيته، حتى في وعيه هو، أصبحت بما يفعله في الشأن العام، وليس بمجرد قدرته المادّية البحتة على ضبط الأمور بما يكفل استقرار سلطته، ومن هنا، وبالنظر إلى المجتمع الدولي المعاصر، فإنّه يمكن القول إنّه ربما انفردت قوّة معينة (الولايات المتحدة مثلاً) بالهيمنة في عالم اليوم، وفق شرعية القوّة المجردة التي كانت أساس شرعية السيِّد القديم، ولكن ذلك لا يعني استمرار هذا التفرّد القائم على أساس مادّية بحتة، فما حدث في المجتمع القومي الواحد من تغيرات وتحوّلات وتطوّرات، ليس بعيداً أن يحدث على مستوى المجتمع الإنساني العام.

إنّ ما نراه اليوم من تغيرات على الساحة الدولية، والساحات الوطنية بالتالي، هو بداية تحوّل سياسي جذري في تاريخ العالم السياسي والمفاهيم المؤطرة لعلاقاته، فالحدود مثلاً، والتي هي إطار ووعاء الدولة وسيادتها، يزداد عجزها يوماً بعد يوم عن الوقوف في وجه ما لا يعترف بالحدود في الاقتصاد والاتصالات والمعلومات، والسلطة، السياسي المنظور منها والاجتماعي غير المنظور، تفقد تدريجياً قدرتها السابقة على الإمساك بخيوط الحركة وتغيرات الذهن في المجتمع والدولة معاً.

بإيجاز، فإنّ السلطة السياسية، وخاصّة في العالم المتلقي لتأثيرات العولمة، أخذت تفقد دورها بشكل متسارع من أن تكون تلك البؤرة التي يدور حولها كلّ شيء، وتحدّد مجال حركة كلّ شيء، وبالنسبة لنا، عرباً كنا أو مسلمين أو غير ذلك، فإنّه إذا بقينا نحلل الأحداث وننظر إليها من منظور المواقف الذاتية البحتة، فلن نفهم حقيقة العالم وما يجري فيه، ولن نستطيع بالتالي فهم النتائج الكبرى التي لا ريب آتية نتيجة هذه التغيرات، فلنصفق لمن نشاء، ولنصفر لمن نشاء، ولنشجب مَن نشاء، ولنمدح مَن نشاء، ولكن ذلك كلّه يجب ألا يكون حاجباً بيننا وبين الرؤية النقية لحقائق الأمور، ومجرى الأحداث، هذا بالطبع، على افتراض أنّنا نريد أن نعيش في هذا العالم.►

 

المصدر: كتاب الإسلام والغرب

ارسال التعليق

Top