• ٢٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الطريق إلى بناء النفس والدولة

الطريق إلى بناء النفس والدولة

الثورة عملية تحطيم وبناء.. والإسلام قوة تحطيم وبناء.. وبهما يستطيع الإنسان تحقيق خلافة الله في الأرض.. فتحطيم الأسس الجاهلية لا تتم إلا بالثورة.. والثورة في الإسلام تعني المثلث القائم الآتي.. تحطيم الجاهلية في الأرض.. بناء الإسلام في النفس والدولة.. الارتفاع في البناء.. هذا المثلث ليس شكلاً تجريدياً تتلاعب به الألفاظ.. بل انه الإطار العملي للمضمون الفكري الإسلامي.. فبالجهاد المسلح نستطيع تحطيم الجاهلية في الأرض.. وبالكفاح الفكري والامداد الروحي نستطيع بناء النفس والدولة وبكليهما نستطيع الارتفاع في البناء..
إنَّ الخلود إلى الأرض والاستكانة والخنوع لا يمكن أن تكون عناصر تغيير، لأن السيف لا يزال هو الطريق في إحداث التغيير بعد القرآن.. فبالفكر الإلهي والسلاح البشري يستطيع الإسلام أن يخترق صفوف البشرية إلى الجذور.. وبهما يستطيع أن يدخل في نفوس البشرية إلى الإعماق..
لا شك أنّ الطريق إلى بناء النفس والدولة في الإسلام لا يتم إلا بالثورة.. لكن هناك من يتسائل ما نوعية تلك الثورة؟.. أهي ثورة ماركسية، أم هي ثورة ليبرالية أم هي ثورة فوضوية؟.. ونقول لهؤلاء المتسائلين لا هي من ذاك ولا هي من تلك!.. انها ثورة تنبع من الذات.. من حيث تكمن الروح ويكمن الإدراك وتكمن المسؤولية.. هي ليست ثورة تهتم بالشكل وتهمل المضمون.. وليست ثورة تخرج من اللسان ولا تدخل القلب.. إنها تنبع من الروح فتفجرها نيراناً عقائدية ملهبة.. وتنبثق من الإدراك فتبعثها بركاناً هادراً يكتسح الكيانات.. وتخرج من القلب فتجعله قلباً يفيض بالرحمة والحب والكرامة.. هي ليست كتلك التي تؤمن بالروح دون العقل ولا تلك التي تؤمن بالفكر دون الروح.. كل شيء هنا بمقدار.. فالروح هي الروح.. أداة تصعيد وسمو إلى السماء.. والعقل هو العقل أداة مقياس وميزان أعمال وأداة تفكير.. وبالعقل والروح تصبح الثورة ثورة عقلانية تسعى إلى التغيير المسلح.. لا تنسى العواطف.. تلتزم بالمقاييس التي أوجبها الإسلام..
ولا يشك حتى المهرّجون أن في الإسلام قوة ذاتية تمنح الإنسان المسلم دافعاً نارياً للجهاد المسلح في سبيل الله.. هذا الدافع هو الذي قدّم ملايين الرقاب على مذابح المنايا.. وفجّر في الأرض أنهاراً من الدماء لا تجف حتى تقوم الساعة وحتى يكون الأمر يومذاك كله لله.. تلك الرؤوس التي تطايرت فوق حبال المشافق كانت بريئة إلا من شيء واحد وهو ان لا إله إلا الله..
ان كلمة التوحيد في نفس الإنسان المؤمن بالله هي ثورة متكاملة الأبعاد.. متجانسة التصوير... كلمة لا إله إلا الله ثمينة وثمنها دم المسلم ورقبته.. ومن هنا نرى أن في الإسلام ثورة متجددة دائمة الاشتعال تمتلك لهيباً عقائديه حارقاً.. هذه الثورة تظهر صريحة في آيات قرآنية وتظهر تلميحاً في أحاديث للرسول القائد (ص)، وتظهر مترجمة على أيدي الأئمة (ع) والصحابة (رض) وهي في كل الأحوال تعني دعوة إلى الثورة ضد الجاهلية.. كلمة دعا إليها الرسول (ص) وجاهد من أجل إعلائها، وقاتل الأئمة (ع) والصحابة (رض) من أجل تثبيتها وسقطت الرؤوس من أجل إعلائها مرة أخرى.. تلك هي كلمة التوحيد..
لنترك المتسائل يقول ماذا قدمت لنا الثورات في العالم؟ ألا يكفي هذا الضجيج وهذه المساجلات. ونقول انّ الثورة التي لا تستند على الإسلام هي ثورة لا أخلاقية.. ينقصها الخلق والهدف المطلق.. فسفك الدماء وابتزاز أموال العباد بغير حساب والفسوق بين الثوريين وغموض الهدف والصعود إلى الكراسي الذهبية.. كل هذا يجعل تلك الثورات ثورات لا أخلاقية.. في حين أنّ الثورة في الإسلام مسؤولية جسيمة أمام المعبود والعباد.. فهي ليست وجاهة ولا سفك دماء ولا فسوق.. السلطة في الإسلام مسؤولية، ودم المسلم لا يحل على أخيه المسلم إلا في مواضيع صريحة، والفاسق لا يلي المسلمين، والهدف واضح وهو إرضاء الله تعالى، وأموال الدولة في الإسلام محفوظة والعقوبة رهيبة لمن يعبث بأموال المسلمين..
هل تقدم تلك الثورات في العالم ما تقدمه الثورة الإسلامية؟ الظاهر أنّ الثورة كلمة تطلق على كل عمل يسعى إلى تغيير واقع ما، لكننا هنا نحاول أن نفرق بين الثورة الأخلاقية وتلك التي لا تمتلك الأخلاق.. الثورة الأخلاقية تلتزم بمبدأ ولا ترتبط بمصير فهي ثورة دائمة لا يمزقها استشهاد الأبطال ولا يثنيها انحراف المرتدين.. مبدؤها هو الذي يحدد طريقها وهو الذي يرسم معالم دربها وحدود محيطها.. والثورة الأخلاقية تمتلك الهدف المطلق، فلا تحريف في الهدف ولا تعديل في السلوك ولا تمييع في القرارات..
الثورة في الإسلام ضد الجاهلية فرض يقرّه القرآن، ويباركه الله تعالى.. والجهاد الذي يسميه البعض بالكفاح المسلح أمرٌ مفروض من السماء.. والتقاعس عنه يعني التمرد على أوامر السماء ومعصية لا حدود لها.. والكفاح المسلح لا يعني كفاح ماوتسي تونغ أو كفاح غيفارا أو كفاح نهرو أو كفاح غاندي.. الكفاح المسلح يعني كفاح علي وعمار وبلال والحسين والحسن وفاطمة وزينب كل في موقعه.. والكفاح المسلح لا يعني كفاح تشيلي أو كفاح كوبا، أو كفاح روسيا، لكنه يعني كفاح أصحاب الأخدود وكفاح من صهرت الشمس أجسادهم بالرمضاء، وكفاح من مشطوا بأمشاط الحديد ونشروا بالمناشير.. كفاح أبطال بدر وصفين وأحد والقادسية.. تلك هي الثورات في الإسلام وهؤلاء هم أبطالها.. غنىً في الفكر وغنىً في العقيدة وغنىً في التضحية..
وإذا كان الإسلام يعطي الثورة مفهومها الحقيقي من الناحية الفكرية والمبدئية فانه في نفس الوقت يكرس وجودها كظاهرة اعتيادية بغض النظر عن الزمان والمكان بشرط توفر أحد أركان الجاهلية في المجتمع أو الدولة.. ويرجع تشديد الإسلام على الثورة إلى قضايا مبدئية راسخة وهي محاربته لجميع أنواع الظلم الاجتماعي والسياسي وموقفه الصريح من الظلمة الطواغيت أولاً ووجوب فريضة الجهاد المسلح كحل نهائي لمشاكل الانحراف والارتداد ثانياً وشعور الإسلام بأنّ في طريق الجهاد نوعاً من الضبط التنظيمي للنفس البشرية تجعلها ترتبط بمسؤولها الأكبر وهو الله سبحانه وتعالى في كل وقت وبدون سابق إنذار..
إن للنفس البشرية نوازع غريزية فاجرة أو تقية (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس/ 7-8)، ولا يستطيع الإنسان المسلم بناء نفسه إلا بدحر النوازع الغريزية الفاجرة وتنمية النوازع التقية ودعمها بالإمدادات الروحية الساخنة إضافة إلى وضع العقل بمثابة الشاهد الرقيب بمعنى انفصال الشاهد عن المشهود والرقيب عن المراقب.. ولا يتم دحر النوازع الغريزية الفاجرة إلا بكسر قيود الشهوات الحيوانية لدى الإنسان.. هذه الشهوات التي تجعل الإنسان إما ملاكاً يطير في السموات العلى أو عبداً مكبلاً بالقيود لا يبرح السجن حتى يموت فيه.. اما تنمية النوازع التقية فهي البديل الطبيعي المتحرر للقيود الفاجرة وتتم بزرع مفهوم المسؤولية في الضمير.. المسؤولية الكبرى أمام الخالق والمسؤولية النسبية أمام المخلوق.. وبهما يثاب المرء في الدنيا والآخرة.. وبهما يتحمل الإنسان المؤمن مصائب الدنيا وبلائها..
والنفس البشرية مجبولة على الصراع النفسي العنيف بين التقوى والفجور وبين الحق والباطل وبين الخير والشر.. وتبقى الأمور هكذا في نفس الإنسان الذي يدخل دائرة الإيمان لأول مرة.. فتارةً ينتصر على نفسه وتارةً تنتصر عليه، ومرة ترى أن للباطل جولة وأن للباطل جولة وان للحق صولة إلى أن يثبّت الله قلبه على الإيمان فينسحب الباطل مهزوماً يلعق جراحاته.. وتشمخ تلك النفس المؤمنة الصابرة بانتصارها الشريف في أشرف معركة في الوجود..
إنّ بناء النفس ليس عملاً روتينياً متواتراً جامداً.. بل انه يحمل بين طياته من الإبداع ما لم يحمله أي عمل آخر لأن النفس الإنسانية مبدعة والعقل البشري مبدع وبهذا الإبداع يمكن أن يصل الإنسان إلى التشكيل الملائكي.. هذه الكتلة البشرية من اللحم والدم والعصب يمكن أن تصل في سبحات روحانية إلى ما هو أرفع وأسمى من اللحم والدم والعصب.. هذا الإبداع هو نفخة من نفخات روح الله في الإنسان (وإذ قال ربّك للملائكة اني جاعل في الأرض خليفة، (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 30).. وبهذا البناء الرائع لنفس الإنسان يستطيع المرء أن يتصل بربه بصورة أوثق وأن يرتبط بحبل متين لا ينفصم ولا ينقطع مع خالقه وبارئه.. ذلك الذي قال له كن فكان إنساناً في غاية التنظيم والدقة والتناسق..
البناء من الداخل ثورة هائلة لأنّ الإنسان القادرة على بناء نفسه قادر على بناء مجتمعه وأمته فكرياً وعقائدياً ومبدئياً وروحياً.. وقادر عل تحطيم أركان الجاهلية في الأرض طالما قدر على تحطيم الجاهلية في نفسه..
البناء من الداخل ليس ترميماً بل هو هدم واكتساح للجاهلية في النفس وتأسيس جديد لفكر جديد ومبدأ جديد وعقيدة جديدة وهو يمثل جهاداً أكبر في الإسلام لا يوازيه أي جهاد آخر من أي نوع..

المصدر: من سلسلة مقالات إسلامية 

ارسال التعليق

Top