• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

إبراهيم (ع) وبناء الشخصية الإنسانية

إبراهيم (ع) وبناء الشخصية الإنسانية

هذا الإنسان الذي كرَّمه الله وفضَّله على كثير ممّن خلق تفضيلاً؛ حين يعرض عن الحقّ ويهمل العقل الذي أكرمه الله به، ويرضى لنفسه الهبوط إلى ما دون ذلك: يرتد إلى ما هو أشبه بالمسخ في تفكيره، ونظره إلى الأُمور، كائناً ما كان شأنها في عاجله وآجله.

أرأيت إلى قوم إبراهيم (ع)، بعد أن فجأهم بالحقيقة آخر المطاف، وبيّن لهم بالحجة الدامغة، أنّهم في عبادتهم للأصنام في ضلال مبين، على شاكلة آبائهم الذين – بما هم عليه من ذلك – في ضلال مبين أيضاً؛ لما أنّهم يتدحرجون – بعماية – على هذه الطريق المنكوسة والعياذ بالله!!

ثمّ: ألم ترى إلى ما كان منهم؟ لقد كان منهم أن استنكروا ما قاله (ع) وسألوه سؤال استنكار محذرين منذرين: (أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ) (الأنبياء/ 55)، وذلك ما جاء في قوله تعالى: (قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ) (الأنبياء/ 54-55).

هكذا يجادلونه بهذا العبث في إهمال لأبسط قواعد الحوار، وما يقضي به العقل السليم من النظر في كلام المخالف واحترام الدليل.

نعم، ألا تستوقفك هذه الكلمات من قولهم: إنّ هذا ثمرة الخضوع لتزيينات الشيطان، وما يزخرف من العبودية للهوى وتقليد الآباء والأجداد بلا نظر أو تمحيص.

سبحان الله! يكلّمهم الناصح الأمين من أرفع مستوى في قضية أصيلة من قضايا الإنسان تتعلق بمعتقده، وترتبط إيَّما ارتباط بوجوده وإنسانيته؛ لأنّه إذا تخلى عن العبودية لله: فقد تخلى عن حقيقة وجوده الإنساني، وحرِّيته الحقيقية، وناهض فطرته التي فطره الله عليها... يكلّمهم – صلوات الله وسلامه عليه – من هذا المستوى، فيقابلونه بهذا التساؤل المقيت الذي يجعل الاهتمامات الكبيرة على الصعيد العام، نوعاً من العبث الذي عبروا عنه باللعب، دون شيء من الحياء!!

ونحن نرى في دنيا الواقع اليوم: أنّ كلّ أُولئك الذين يحلو لهم أن يتشدقوا بالإلحاد والكفر بمن خلقهم وخلق الكائنات كلّها، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة: يقعون في شرك العبودية لغيره من الأشخاص، أو النفس، أو المال، أو أي غرض من أغراض الدنيا علا أو سفل! بل قد دخلت هذه العبودية لغير الله – مع ما يكتنفها ممّا ذكرنا – في صلب تنظيمات منمقة مسؤولة، ولكن تحت عناوين أُخرى في ظل مبادئ تنكر وجود الله. وهل بعد هذا الضياع للإنسان، وكرامته وحرِّيته من ضياع؟ بل وهل بعد هذا العدوان على أصل الفطرة عنده من عدوان؟!

أمّا إبراهيم (ع): في تعبير عن البنية الفكرية السليمة، والنظرة الإنسانية التي تصف – فعلاً – صورة تكريم الله للإنسان، والمنهج الذي يضع العقل موضعه ليعمل هو، وينهزم التقليد الأعمى الموروث... أمّا إبراهيم: فقد نصح لقومه ووضع الحقيقة المعقولة المقبولة المستندة إلى الدليل الناصع بين أيديهم لو كانوا يعقلون. وقد جاء التعبير عن ذلك كله بقوله جل شأنه: (قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (الأنبياء/ 56).

ويلاحظ أنّ خليل الرحمن (ع) طرح الحقيقة مصحوبةً بدليلها؛ بل ربّكم المستحق للعبادة الذي لا إله غيره: وهو فاطر السماوات والأرض الذي فطرهنّ خلقاً سوياً لا عوج فيه ولا أَمْت.

فخالق الكون بما فيه من إنسان وسماوات وأرضين وما حوت من المخلوقات الذي ابتدأ خلقهنّ، وهو الخالق لجميع الأشياء.. هو – سبحانه – الجدير بأن يُعبد وتعنو الوجوه لعظمته، وتعفَّر الحياة بالسجود بين يديه.

وانظر إلى اعتزاز المؤمن بربّه، وبالحقّ الذي يدعو إليه؛ يقول إبراهيم (ع): (وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)، أي وأنا أشهد أن لا إله غيره ولا ربَّ سواه.

إنّ كلّ أُولئك الذين أوصدوا دون عقولهم أبواب التدبر، وأغلقوا – عامدين – منافذ الفهم والتفكر: غير مقبولي الشهادة في مثل هاتيك القضية الكبرى، ولكن مقبول الشهادة: هو الإنسان السويُّ الذي أزال الغشاوة عن عينيه، وترك للفطرة التي فطر الله الناس عليها أن تستجيب وتعمل، وأطلق العنان بدقة وتجرد، فنظر واستقرأ وتدبّر.

من أجل ذلك أعلن إبراهيم في قومه على صورة لا تحتمل اللبس (وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).

أمّا بعد: فإنّ كلّ ما يدور على أرضنا في العالم الإسلامي، وما يدور في العالم من حولنا ممّا يتعلق بالمسلمين بشكل مباشر أو غير مباشر: يستدعي بناء الشخصية المتوازنة التي تتحسّس الواقع من خلال العقيدة ومنهج التفكير السليم، وتنطلق بثبات وطمأنينة في مختلف آفاق العمل البنّاء؛ لأنّ الشخصية القلقة التي ضاع صاحبها، وهوت إلى القاع بإعراضه عن العقيدة السليمة عقيدة الفطرة. وإدباره عمّا يقول به العقل السليم: هو عبء على الأُمّة ولون من ألوان الركام المؤذي على الطريق.

وإنّ إبراهيم فيما شهد للحقيقة، وفيما حكم بالضلال على المستهترين بعقولهم، المستهينين بفطرهم: قد رشَّح لمسيرة الإنسان، مَن يكون الكفء من بني الإنسان.

وإنّ من إعجاز القرآن: ما أغنى – بحمد الله – البشرية بتجربة القرون التي عاناها الإنسان، وحُقَّ لأُمّة غنيت هذا الغناء: أن تنمي فاعليتها الذاتية وتستأنف مسيرة الحقّ المضيَّع من جديد.

 

المصدر: كتاب القصص القرآني وعطاء الشباب القلب.. والعقل.. والساعد

ارسال التعليق

Top