• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أولويات مقارعة الفقر.. تحديات ومعالجات

علي حسين

أولويات مقارعة الفقر.. تحديات ومعالجات

مع تطور الإنسان، ومع ازدياد قدراته العقلية والعملية في التعامل مع موارد الكوكب الوحيد الذي يسكنه، تزداد مشكلة كأداء أسمها (الفقر)، هذه المشكلة التي لم تفارق رحلة البشرية منذ نشوئها، وعبر جميع مراحلها، حتى عندما أخذت الآلة محل الجهد العضلي للإنسان، وبرعت فيه، وأعطت نتائج خيالية من حيث سعة الانتاج وجودته، إلا أنّ الفقر لا يزال يعيث فساداً في حياة الأفراد والمجتمعات والأمم، والسبب دائماً مفردة اسمها (الجشع).
نعم الجشع والظلم وضعف الإنسان في التحكم برغائبه وأهوائه النفسية، أساس الفقر، لأنّ هذه النزعات البشرية الشريرة، تؤدي بالنتيجة إلى سوء استعمال خطير لموارد الأرض، وتقود إلى عمليات احتكار دولية وجماعية وفردية لثروات العالم، حيث تنحصر غالبية ثروات وموارد المعمورة بأيدي دول، وشركات، وأفراد، يمثلون أقلية قليلة، قياساً لسكان العالم أجمع.
ولم تفلح طروحات المصلحين وأفكار الفلاسفة، ولا بحوث ودراسات المعنيين بمعالجة الخرق الخطير للفقر، حيث يعاني الأكثرية لسكان العالم من هذا الوباء، أو التحدي الكبير.
يقول السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، في كتابه المهم والقيّم عن الفقر، والموسوم بـ (استراتيجيات مكافحة الفقر في منهج وتعاليم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام)، حول هذا الموضوع:
(الفقر يُعد من أهم التحديات التي واجهت البشرية على مرّ التاريخ، ويشكل هو والجهل والمرض وانعدام الأمن بأبعاده المختلفة، الأضلاع الأربعة للتخلف والشقاء البشري.. ولايزال الفقر يشكل الظاهرة الأخطر، والهاجس الأكبر للبشرية، رغم كل التطور العلمي وكل البرامج والمناهج الاقتصادية على الصعيد المحلي والدولي).

الفقر العالمي المزمن
عندما بدأ الإنسان رحلته في الأرض، كان يحصل على غذائه بالقوة والمطاردة والصراع مع الكائنات الأخرى التي تقتسم معه المعمورة، فكان حاله حال الضواري والكائنات الضعيفة على حد سواء، ومع تصاعد النضوج والوعي العقلي، بدأ يجد البدائل والحلول الأفضل لحياة أفضل، واستمر هذا التصاعد في الاختيار والسعي مع استمرار رحلة الإنسان في الوجود، ومع ظهور التجمعات البشرية، بدأ الصراع ينتقل من الإنسان مع الحيوان، إلى الانسان مع الإنسان، وظهر التحدي الأكبر في حياة البشرية، ألا وهو مشكلة الفقر التي أخذت بالتصاعد منذ أوائل نشوء البشرية، ولا تزال تشكل التحدي الأكبر حتى الآن.
وقد جاء في دراسة لإحدى المنظمات الاقتصادية الدولية المستقلة: (إنّ المشكلة الاقتصادية الأساسية التي عانى الإنسان منها منذ فجر التاريخ وحتّى يومنا هذا تتمثل بمشكلة الفقر، ويتحدث رجال الاقتصاد الوضعي عن ذلك من خلال بيان طرفي المشكلة الاقتصادية المتمثلين بندرة الموارد الطبيعية وتزايد الحاجات الإنسانية أكبر من نسبة تزايد الموارد الطبيعية، الأمر الذي يؤدي إلى إيجاد المشكلة الاقتصادية التي يتمثل معظمها في مشكلة الفقر).
فيما يطرح السيد مرتضى الحسيني الشيرازي في كتابه المذكور اعلاه، بعض الحلول التي تسهم في وضع خطوات واضحة المعالم لمقارعة الفقر، يقول سماحته في هذا المجال:
(لكي نعرف مدى خطورة مشكلة الفقر، يجب أن نعرفه بشكل صحيح ومتكامل. فإنّ الفقر لا ينحصر في الجانب المادي فحسب، كما يتوهمه عامة الناس، بل له امتدادات واسعة إلى أبعد الحدود، ذلك أنّ الفقر يعني: الحاجة والحرمان، وهو على هذا يستبطن كافة العناوين التالية: الحرمان من الحب والعاطفة/ افتقاد التعليم اللائق/نقص الرعاية الصحية الشاملة/ضعف التربية البدنية وممارسة الرياضة/الفقر إلى المسكن المناسب/الملبس المناسب/المأكل والمشرب/المركب/الجماليات والكماليات والزينة/الأمن على الصعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية/الحرمان من الحقوق الأولية والثانوية/الحرمان من الفكر والثقافة والعقيدة/فقر المجتمع والدولة/ افتقاد الاستقلال الاقتصادي والسياسي).
وبهذا فإنّنا نتفق مع رؤية السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، بأنّ الفقر لا يعني قلةً في الرغيف فقط، ولا يعني التضوّر من الجوع الجسدي فحسب، إنما هناك فقر يتعدى هذا النوع من الفقر إلى نوع آخر، يُسهم في تدمير حياة الإنسان، ويعمل على تحويلها الى ما يشبه العبث، لأنّ الإنسان الجائع الفقير، غالباً ما يكون غير قادر على الانتاج والإبداع في أي مجال من مجالات الحياة، وبهذا سيتحول إلى عبء ليس على نفسه وعائلته فحسب، إنما هو عبء على مجتمعه ودولته، فضلاً عن كونه عبئاً على العالم أجمع، وكلما كثر هذا النوع من الناس، كلما كبرت وتضاعفت نسب الفقر في العالم.
لذلك يؤكد السيد مرتضى الحسيني الشيرازي في كتابه المذكور آنفا، على أنّ: (الفقر ليس عدم تملك الأموال والثروات، بل هو الحرمان من الاستفادة منها واستثمارها لرفع حوائج الإنسان المادية منها والمعنوية، السياسية منها والاجتماعية، العلمية منها والفكرية والثقافية، الأساسية منها والجمالية والكمالية).

شمولية أبعاد الفقر
إنّ التأكيد على شمولية الفقر، يعني بالدرجة الاساس عدم التركيز في سبل المعالجة، على الحاجة للرغيف فقط، وهنا قد ينطبق المثل المعروف القائل، (بدلاً من أن تعطي الإنسان سمكة، علمه كيف يصطادها)، لذا يبرز بقوة دور المعنيين بمعالجة الفقر الفكري للإنسان، وتدني الوعي لديه، فضلاً عن توفير الاحتياجات الداعمة للإنسان، حيث يشكل افتقادها، أبعاداً مضافة للفقر.
من هنا يورد لنا السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، في كتابه هذا، مثالاً عظيماً يستلهمه من حقيبة التأريخ الإسلامي في حلقاته الأكثر إشراقاً، حينما يقتبس الكاتب بعض المعالجات التي انتهجها الإمام علي بن أبي طالب –عليه السلام- حينما قاد الدولة الإسلامية وقارع الفقر بأساليب ترقى إلى أفضل التعاملات والإجراءات العملية لمقارعة الفقر. لذا يقول السيد مرتضى الشيرازي، في هذا المجال:
(الشمولية في أبعاد الفقر تعكسها أحاديث أمير المؤمنين فقد أشار -عليه السلام- إلى الفقر العلمي بقوله: *لا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل*، والجهل في حد ذاته فقر وحرمان علمي وثقافي، وهو سبب من أهم أسباب الفقر الاقتصادي أيضاً).
وهكذا تتعدد أسباب الفقر وزيادته، فالجهل الإداري الاقتصادي الاجتماعي الذي تعاني منه الدول الإسلامية والعربية يُسهم على نحو كبير في تضخيم مشكلة الفقر، على الرغم من الثروات والموارد الكبيرة التي تتوافر لهذه الدول، ولكن الفشل في إدارتها وكيفية الإستفادة منها، فضلاً عن الجشع والطمع والفساد، حتماً سيقود إلى نتائج خطيرة تجعل الفقر في مقدمة المشكلات التي يعاني منها المسلمون، وقد ورد في أحد التقارير الاقتصادية العالمية:
(إنّ العالم الإسلامي يتمتع بثروة غابية نادرة، لأنّ تنوع المناخ في العالم الإسلامي أدى إلى تنوع الغابات من جهة كثافة النمو الشجري في أنحائه، وقد لعبت كميات الأمطار الساقطة من حيث توزيعها وموسم سقوطها دوراً كبيراً في تباين وكثافة الأشجار لكن استخدام الثروة الغابية الطبيعية لايحقق سوى 9 % تقريباً من إنتاج الغابات في العالم، وتأتي الأخشاب في طليعة ذلك الإنتاج، وما قيل عن الثروة الزراعية يقال عن الثروتين الحيوانية والمائية، ذلك لأنّ إنتاجهما لا يكفي حاجات سكان العالم الإسلامي بسبب عنصري الإهمال وعدم المضي قدماً في تطوير الأساليب المؤدية إلى زيادة الموارد في مجال الثروة الحيوانية والمائية).
نعم لابد من الاعتراف بأنّنا لم نتعامل مع ثرواتنا ومواردنا بعلمية وتنظيم، ويتحمل المسؤولون عن إدارة دول العالم الإسلامي نسبة كبيرة من مسؤولية الاخفاق في هذا المجال، فضلاً عن النخب التي تقود المجتمع الإسلامي، فالجميع هنا يشترك في مسؤولية الفقر الذي يتعرض له المسلمون، مع أنّهم يملكون أكثر الموارد والثروات في العالم.


معالجات أولية
مما تقدم يحتاج المسلمون إلى نوع معاصر من التعامل مع مواردهم الكثيرة، ويتقدم ذلك التخطيط السليم والتنفيذ الدقيق، من خلال نجاح الفعل الحكومي المختص أولاً، واعتماد الكفاءات المعنية المتخصصة في تطوير عمليات الانتاج النوعي والاستثمار الأمثل، على أنّنا يجب أن نعترف، بأنّ الفشل السياسي في إدارة البلدان الإسلامية، سيؤدي بصورة قاطعة إلى فشل في جميع مجالات الحياة، وأهمها وأولها الفشل الاقتصادي، الذي يفاقم من مشكلة الفقر، الذي ينتشر ويتوسع من حالته المادية، إلى حالات معنوية تؤثر على الفكر والوعي والثقافة، ومن ثم الإنسان الذي يجهل مصالحه وحقوقه، والذي سيبقى فقيراً طالما كان ناقص الوعي والثقافة، لذلك حتى لو امتلك الإنسان مئات المليارات ولم يطور نفسه في الدفاع عن حقوقه ولم يستثمر هذه الاموال في تطوير وعيه فإنّه سيخسر كل شيء بالنتيجة.
وينطبق هذا القول على الدول التي تمتلك ميزانيات ضخمة وموارد هائلة لكنها تفشل في استثمارها لبناء مؤسسات الدولة والبنى التحتية، إذ ستبقى تعاني من الفقر المدقع، وتصاعد الفساد، واحتكار المال لدى الأقلية، مما يجعل الفقر مشكلة غير قابلة للزوال.
يقول السيد مرتضى الحسيني الشيرازي في هذا الشأن: إنّ (من يملك المليارات لكنه لا يستثمرها في الدفاع عن حقوقه وحقوق أمته فهو – فقير-، بل هو - أفقر الناس-، والدولة التي تملك مئات المليارات لكنها لا تصرفها في مؤسسات البنية التحتية وتقوية المؤسسات الدستورية فهي فقيرة أيضاً).
لذا يبقى المسلمون بحاجة إلى معالجات عملية دقيقة، تتعلق بالتنظيم والتخطيط والتنفيذ، وجلها يتعلق بالجانب الحكومي، إلا أنّ وعي الشعوب، وزيادة الثقافة في مجالات الحياة كافة، يسهّل الأمر كثيراً، ويصبح من الممكن معالجة قضية الفقر وفق أساليب معاصرة، تتبناها الحكومة والشعب معاً، من أجل الحد من وباء يتعاظم اسمه الفقر، في دول إسلامية غنية، ثرواتها أكثر مرات ومرات من دول متقدمة قليلة الموارد.

المصدر: مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام

ارسال التعليق

Top