• ٢٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التسامح في الإسلام

التسامح في الإسلام

- صراع بين أتباع الأديان:

إذا تتبعنا أدوار التاريخ رأينا أنّ المجتمع الإنساني لم يعرف السلام بسبب اختلافه في الدِّين، فكانت كلّ جماعة لا تفتأ تثور على مخالفيها في العقيدة، وكثيراً ما نشأ من جراء ذلك مذابح وحشية سوّدت وجه التاريخ. وهذا يرجع - ولا ريب - إلى التعاليم ونزعة الحقد التي بثّها زعماء الأديان في روع العامّة ضد الآخرين بالأديان الأخرى. وقد ادّعى الباحث (جون سيمون) في كتابه (حرّية الاعتقاد) أنّ الحقد الديني لم يتوصل إلى تخفيفه إلّا منذ قرن ونصف، فقال: "إنّ حرّية الأديان ليست ببعيدة العهد، فإنّ تاريخ العالم كلّه هو عبارة عن تاريخ الحقد الديني. وهذا الحقد الديني الذي هو أقدم من الحرّية يتصاعد إلى أبعد عصر في التاريخ" وبعد أنّ عدد آثار التعصب المذموم في العالم كلّه من القرون الأولى إلى العصور الوسطى، قال: "وأخيراً توصلت الروح الفلسفية إلى تقرير حرّية الأديان في 4 آب سنة 1789م. ولكن هذه الأمنية العادلة لم تتحقق إلّا في سنة 1791م. وهو تاريخ تحرير اليهود من المظالم. ومع هذا كلّه فإنّ الثورة الفرنسية على ما كانت عليه من خلوها من حسن الإدارة في الأعمال لم تتمكن من تأسيس الحرّية الدينية".

إنّ قول (جون سيمون): بأنّ الحرّية الدينية لم تتقرر إلّا منذ قرن ونصف تقريباً ليس صحيحاً، بل إنّ اقرارها كان منذ أربعة عشر قرناً وذلك على يد الإسلام، ولا يسعنا إلّا أن نستدل على ذلك بنصوص من القرآن، وشواهد من سيرة المسلمين الأولين، وشهادة بعض المؤرخين الغربيين.

 

- اختلاف الناس سُنّة الله في خلقه:

كيف توصل الإسلام إلى نزع الأحقاد الدينية من عقول متبعيه؟ إنّه توصل إلى ذلك بطريقة لم نسمع بها إلّا منذ أمد قريب أي بعد أن وقف علماء الإنسان على أسرار النفس الإنسانية وكيف أنّها تختلف في الحكم على الأشياء، ولهذا صرّح القرآن بأنّ اختلاف الناس في معتقداتهم من سنّن الله في خلقه. قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (هود/ 118-119). ويقول الله مُخاطباً رسوله محمّداً (ص): (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (يوسف/ 103).

وعلى هذا عَلِم المسلمون أنّه يتوجب عليهم أن لا يحقدوا ولا يضطهدوا مَن يخالفهم في الدِّين لأنّ هذه هي إرادة الله التي خلقت الناس على هذا الاختلاف.

 

- الحرّية الدينية:

ثمّ نرى أنّه بينما كان رؤساء أكثر الأديان يأمرون اتباعهم باستعمال أشدّ الطُّرق الإكراهية لحمل الناس على الدخول في دينهم ولو أدى ذلك إلى قتل عشرات الآلاف، نرى الإسلام يخاطب متبعيه بأنّهم لا يرغموا أحداً على ترك دينه واعتناق الإسلام، وفي هذا يقول تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة/ 256). ويقول تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس/ 99). أي ليس بمستطاع لك يا محمّد ولا من وظائف الرسالة التي بُعثت بها أن تُكره الناس على الإيمان.

وعلى هذا المبدأ سار المسلمون في علاقتهم مع أهل الأديان الأخرى، فكانوا يبيحون لأهل البلد الذي يفتحونه أن يبقوا على دينهم مع أداء الجزية، وكانوا في مقابل ذلك يحمونهم ضد كلّ اعتداء، ويحترمون عقائدهم وشعائرهم ومعابدهم.

وهذه الحرّية تبيح لغير المسلمين تحت ظل الإسلام ما لا يبيحه الإسلام لأهله. فالإسلام حرّم الخمر وأقام الحدّ على شاربها من المسلمين، ومع ذلك أباح لغيرهم أن يشربوها. وكذلك حرّم لحم الخنزير ولكن أباح لغير المسلمين أن يأكلوه ما دام دينهم لا يحرّم ذلك. ولقد بالغ الإسلام في حماية حرّية المخالفين إلى حدّ أنّ المسلم إذا أراق خمراً لذمي يعيش تحت الراية الإسلامية أو قتل خنزيراً له وجب عليه أن يدفع قيمة ما أُتلف.

ومن آثار الحرّية الدينية ما رسمه الإسلام من أدب المناقشة الدينية ومجادلة أهل الكتاب مجادلة أساسها العقل والمنطق وعمادها الإقناع بالطريقة التي هي أحسن. قال تعالى: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت/ 46). ويقول الله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125).

ويرسم الله كيفية معاملة المسلمين للذين يخالفونهم في دينهم بقوله: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة/ 8-9).

ففي هاتين الآيتين يأمر الله المسلمين معاملة مَن يخالفونهم في دينهم بالعدل، ولم يكتفِ به بل تجاوز ذلك إلى التوصية بالبرّ بهم، والبرّ فوق العدل، فهو لا يأتي إلّا من العطف والحنو وإرادة الخير، واستثنى الله الذين اضطهدوا المسلمين وقاتلوهم، وهذا عدل لا شائبة فيه.

والإسلام يرجح كفة الصلح والمودة على العداوة والبغضاء. قال الله تعالى: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الممتحنة/ 7).

وممّا ينتظم في حُسن معاملة المسلمين لمن يخالفهم في دينهم هو: ما سوّى به القرآن بين الوالدين المؤمنين والوالدين المشركين في وجوب الإحسان إليهما: (وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (لقمان/ 14-15).

ومن التسامح في الإسلام: إباحته طعام أهل الكتاب، وتحليله لذبائحهم، وإباحته للمسلم أن يتزوج من نسائهم، قال الله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (المائدة/ 5). والمؤاكلة والمصاهرة تدعو للمحبّة وحُسن المعاشرة والإخلاص في المعاملة.

ومن التسامح أيضاً: تسميتهم بأهل الذمة. فلفظ الذمة معناه: ذمة الله وعهده ورعايته، وقد ورد عن النبيّ (ص) قوله في التوصية بهم: "مَن آذى ذمياً فأنا خصمه، ومَن كنتُ خصمه خصمته يوم القيامة".

 

- أسباب منع المسلمة من الزواج بغير المسلم:

سأل أحد الباحثين الأميركان صديقنا العلّامة الشيخ محمّد الشال قائلاً: إذا كان الإسلام يشتمل على غاية التسامح فلماذا منع المسلمة من التزوج بغير المسلم؟ فكان جوابه: "إنّ الحياة الزوجية شركة وتعاون ومساواة بين الزوجين في جميع الحقوق العامّة، وهي شركة لا تنتظم إلّا إذا بُنيت على المحبّة الخالصة واحترام كلّ من الشريكين للآخر احتراماً يتناول جميع أموره، ومن أهم الأمور التي يحرص عليها الإنسان الجانب الديني فيه.

وعندما أباح الاسلام للمسلم أن يتزوج امرأة مسيحية أو يهودية جعل لها كافة الحقوق الزوجية التي للزوجة المسلمة ما عدا أمراً واحداً وهو التوارث، فلا ترثه ولا يرثها. وحتى في هذا الحقّ كان الإسلام منصفاً كعادته لأنّه سوّى في منع الميراث بالنسبة لكلّ منها، بخلاف ما يقرره تشريع اليهود فيما إذا تزوج رجل يهودي امرأة غير يهودية ثمّ ماتت فإنّه يرثها وإذا مات هو قبلها لا ترثه.

كما دعا الإسلام الزوج المسلم إلى احترام الزوجة غير المسلمة واحترام دينها وتركها تؤدي شعائرها في كنيستها أو بيعتها، وهذا ليس بغريب على الإسلام لأنّ مَن يؤمن به، يؤمن بصدق عيسى (ع) ورسالته كما يؤمن بصدق موسى (ع) ورسالته، وهنا لا نجد ضرراً على الحياة الزوجية...

أمّا إذا تزوجت المسلمة بالمسيحي أو اليهودي فإنّ الحياة الزوجية - التي لا تقوم إلّا على الاحترام المتبادل كما ذكرنا - لا تستقيم لأنّها تتزوج من رجل يعاديها لأنّه يكذّب رسولها ولا يؤمن به، وليس عنده من التسامح في العقيدة مثل ما عند المسلم، وهو ينظر إليها من أنّها تؤمن بدين لا أساس له من الصحّة، ولا شك أنّ هذا يؤدي إلى احتقارها ومنعها من الاستمرار في اعتناقها لدينها أو قيامها بشعائره، وكيف تنتظم الحياة الزوجية مع هذا العداء والاحتقار؟.."

 

- مُحاربَة التَعصّبْ:

دحض الإسلام الظنون والأوهام التي رانت على عقول أهل الأديان الأخرى ونشأ عنها التعصب العنصري الذميم وذلك حين ادعوا إنّهم أبناء الله وشعبه المختار، وإنّ الجنّة خاصّة بهم دون غيرهم:

(وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (المائدة/ 18).

وقال تعالى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/ 111-112).

ويُعلن القرآن أنّ الإنسانية جمعاء تستحق التكريم من غير اختصاص بلون أو جنس أو أُمّة، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) (الإسراء/ 70).

فليس ثمة شعب الله المختار في الإسلام بل الإنسانية كلّها جديرة بالتكريم في هذه الأرض بمقتضى الإرادة الإلهية.

 

- معاملة المسلمين لغيرهم:

أعطى النبيّ (ص) مثلاً أعلى لمعاملة أهل الكتاب. فقد روي أنّه كان يحضر ولائمهم ويشيع جنائزهم، ويعود مرضاهم، ويزورهم ويكرمهم. حتى روي: أنّه لما زاره وفد نصارى نجران فرش لهم عباءته ودعاهم إلى الجلوس عليها.

وروي: أنّه كان يقترض من أهل الكتاب نقوداً ويرهنهم أمتعته، حتى أنّه توفي ودرعه مرهونة عند بعض يهود المدينة في دين عليه، ولم يخلص درعه إلّا خلفاؤه بعد وفاته. كان يفعل ذلك لا عجزاً من أصحابه عن إقراضه، فكان منهم المثرون، وهم المستعدون لأن يضحوا بأنفسهم وأموالهم في مُرضاة نبيّهم، ولكنّه كان يفعل ذلك تعليماً وارشاداً لأُمّته.

وقد سار المسلمون على سيرة نبيّهم فعاشروا غيرهم من أهل الملل والنحل الأخرى بصفاء ووئام، فكان المسيحي واليهودي يجاوران المسلم فيتزاورون ويتهادون لا يفصلهم إلّا المسجد والكنيسة والبيعة. روي: أنّ غلاماً لابن عباس الصحابي الشهير ذبح شاة فقال له ابن عباس: لا تنسَ جارنا اليهودي، ثمّ كرّرها حتى قال له الغلام: كم تقول هذا! فقال: إنّ النبيّ (ص) قد أوصانا بالجار حتى خشينا أنّه سيورثه. فابن عباس بنص هذا الخبر كان مجاوراً ليهودي، وكان يهتم بالإهداء إليه كما يهتم بسواه مراعاة لحرمة الجوار، ومعنى هذا: أنّ الإسلام لا يفرّق في مكارم الأخلاق وحقوق الاجتماع بين مسلم وغيره.

والفقهاء الأوّلون لم يهملوا حقوق أهل الذمة فقد نصوا على وجوب الرفق بهم ودفع مَن يتعرض لأذيتهم، فقال الشهاب القرافي - وهو من كبار أئمة التشريع في الإسلام - في كتابه الشهير (الفروق): "إنّ عقد الذمة يوجب لهم حقوقاً علينا، لأنّهم في جوارنا، وفي خفارتنا، وفي ذمة الله تعالى، وذمة رسوله (ص) ودين الإسلام. فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أوغيبة في عرض أحدهم، أو أي نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك، فقد ضيّع ذمة الله تعالى، وذمة رسوله (ص)، وذمة دين الإسلام".

 

- شهادة بعض علماء الغرب في التسامح الإسلامي:

جاء في الأخبار النصرانية شهادة تؤيد مدى التسامح الإسلامي وهي شهادة "عيشويابه" الذي تولى كرسي البطريركية من سنة 647-657هـ. إذ كتبَ يقول: "إنّ العرب الذين مكّنهم الربّ من السيطرة على العالم يعاملوننا كما تعرفون. إنّهم ليسوا بأعداء للنصرانية بل يمتدحون ملتنا ويوقرون قسيسينا وقديسينا ويمدون يد المعونة إلى كنائسنا وأديرتنا".

وقد استطاع (ميخائل الأكبر) بطريق انطاكية اليعقوبي أن يحبذ فيما كتبه في النصف الثاني من القرن الثاني عشر ما قرره إخوانه في الدِّين، وأن يرى إصبع الله في الفتوح العربية حتى بعد أن خبرت الكنائس الشرقية الحكم الإسلامي خمسة قرون، وقد كتبَ يقول بعد أن سرد اضطهادات هرقل: "وهذا هو السبب في أنّ إله الانتقام الذي تفرّد بالقوّة والجبروت والذي يديل دولة البشر كما يشاء فيؤتيها مَن يشاء ويرفع الوضيع، لما رأى شرور الروم الذين لجأوا إلى القوّة فنهبوا كنائسنا وسلبوا أديارنا في كافة ممتلكاتهم وأنزلوا بنا العقاب في غير رحمة ولا شفقة أرسل أبناء إسماعيل من بلاد الجنوب ليخلصنا على أيديهم من قبضة الروم. وفي الحقّ أنّنا إذا كنّا قد تحمّلنا شيئاً من الخسارة بسبب انتزاع الكنائس الكاثوليكية منا وإعطائها لأهل خلقيدونية فقط استمرت هذه الكنائس في حوزتهم.

ولما أسلمت المدن للعرب خصص هؤلاء لكلّ طائفة الكنائس التي وجدت في حوزتها (وفي ذلك الوقت كانت قد انتزعت منا كنيسة حمص الكبرى وكنيسة حران).

ومع ذلك فلم يكن كسباً هيناً أن نتخلص من قسوة الروم وأذاهم وحنقهم وتحمسهم العنيف ضدنا، وأن نجد أنفسنا في أمن وسلام".

ويقول "سير. ت. و. أرنولد" أيضاً في كتابه (الدعوة إلى الإسلام):

"ومن هذه الأمثلة التي قدّمناها آنفاً عن ذلك التسامح الذي بسطه المسلمون الظافرون على العرب المسيحيين في القرن الأوّل من الهجرة، واستمر في الأجيال المتعاقبة، نستطيع أن نستخلص بحقّ أنّ هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما فعلت ذلك عن اختيار وإرادة حرة، وأنّ العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح".

ويقول أيضاً قبل ذلك: "ويمكننا أن نحكم من الصلاة الودية التي قامت بين المسيحيين والمسلمين من العرب بأنّ القوّة لم تكن عاملاً حاسماً في تحويل الناس إلى الإسلام، فمحمّد نفسه قد عقد حلفاً مع بعض القبائل المسيحية وأخذ على عاتقه حمايتهم، ومنحهم الحرّية في إقامة شعائرهم الدينية، كما أتاح لرجال الكنيسة أن ينعموا بحقوقهم ونفوذهم".

وهذه شهادة أخرى على تسامح الإسلام من الأستاذ (متز) إذ يقول: "إنّ ما يميز المملكة الإسلامية عن أوروبا النصرانية في القرون الوسطى أنّ الأولى يسكنها عدد كبير من معتنقي الأديان الأخرى غير الإسلام، وليست كذلك الثانية، وإنّ الكنائس والبيع ظلت في المملكة الإسلامية كأنّها خارجة عن سلطان الحكومة، وكأنّها لا تكوّن جزءاً من المملكة، معتمدة في ذلك على العهود وما أكسبتهم من حقوق. وقضت الضرورة أن يعيش اليهود والنصارى بجانب المسلمين، فأعان ذلك على خلق جوّ من التسامح تعرفه أوروبا في القرون الوسطى، كان اليهودي أو النصراني حراً في أن يدين بدينه، ولكنّه إن أسلم ثم ارتدّ عوقب بالقتل".

وهذه شهادة أخيرة على تسامح الإسلام من عالم كبير، وهو الأستاذ شكري قرداحي، فقد نشر كتاباً بالفرنسية سماه "إيجاد وممارسة القانون الدولي الخاص في بلاد الإسلام" تكلّم فيه عن حالة الأجانب في بلاد المسلمين، متتبعاً في بحثه أدوار التاريخ. فأفاض يفصّل الأطوار التي مرّت فيها حالة الأجانب على عهد الدولة العربية أوّلاً، ثمّ على عهد الدولة التركية، فلم يجد بداً من الاعتراف: بأنّ معاملة الأجانب في بلاد المسلمين كانت تصدر عن شعور صادق بالتسامح لا يوجد ما يقابله في معاملة الدول الغربية. ثمّ لما تقرر نظام الامتيازات في بلاد المسلمين بإلحاح الدول الغربية، وهو النظام الذي جعلوه مشابهاً لنظام الأقليات العنصرية في العهد الراهن، ظهر جلياً أمر لم يكن منتظراً، ذلك أنّه قد ثبت أنّ حالة الأجانب تحت ظل الامتيازات أصبحت أقل ملاءمة لهم من كلّ وجه من حالتهم على عهد الدولة الإسلامية. فاتضح أنّ عاطفة التسامح الإسلامي كانت أجدى عليهم من نظام الحماية التي يتمتعون بها الآن.

هذه شهادة بعض العلماء في التسامح الإسلامي، وهي سيرة لا يوجد لها مثيل في الأُمّم قديماً وحديثاً.

فالتسامح الإسلامي يُعتبر من أقوى الأدلة على أنّ القرآن وحي إلهي لا عمل إنساني، وإلّا فأنى للأُمّم في عهد اعتزازها بقومياتها وأديانها أن تتغلب على أهواء نفوسها فتقوم على نظام من المعاملات يقصر عن مثله ما أوجدته المدنية بعد مجالدة للحوادث دامت قروناً طويلة، وبعد أن بلغت من العلوم شأناً لم يكن يتخيله الأقدمون في أيامهم الأولى.

 

المصدر: كتاب روح الدِّين الإسلامي

ارسال التعليق

Top