• ١٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

تداخل علم الأخلاق مع أصول الفقه

تداخل علم الأخلاق مع أصول الفقه

اعلم أن الأصل في التداخل المعرفي الداخلي عند أبي إسحاق هو بالذات اشتغاله بمفهوم "المقصد"؛ فقد نُسب إليه تأسيس "علم المقاصد"، على الرغم من أن غيره، من أمثال الجويني والغزالي، سبقه إلى الكلام في هذا الموضوع، إلا أن مدلول هذا التأسيس فيه إجمال يحتاج إلى تفصيل؛ فقد يراد به جعل المقاصد قسماً متميزاً من أصول الفقه ينضاف إلى الأقسام الأخرى كقسم الأدلة وقسم الأحكام وقسم طرق الدلالة ليكوِّن المجموع ما اصطلح عليه باسم "أصول الفقه". وقد يراد أيضاً إنشاء صياغة جديدة لأصول الفقه ينتقل بمقتضاها هذا العلم إلى مزيد من الإحكام المنهجي والاشتمال المضموني.
أما الأول، فغير مسلَّم، لأن ما تناوله علم المقاصد بالبحث هو جملة ما يختص بالنظر فيه علم الأصول بحسب وضعه الاصطلاحي؛ فمن الخطأ المنهجي إنزال المقاصد منزلة باب من أبواب الأصول كما يقع ذلك في كتب "الأصوليين" المتأخرين. وأما الثاني، فيحتاج إلى مزيد التوضيح؛ فإذا كان المقصود هو انتقال في النظام المعرفي كما جاء ذلك عند الجابري، بمعنى أن علم المقاصد هو علم يُخرِج أحكام الفقه من المعالجة البيانية إلى التنسيق البرهاني، فلا يُسلِّم، لأننا سوف نرى أن المضامين المقصدية تندرج في نظام معرفي أنزله الجابري مرتبة هي دون مرتبة البيان؛ إذ ينكشف أنها على الحقيقة مضامين عرفانية، فيكون الانتقال الذي حصل في علم الأصول ليس انتقالاً إلى "الأفضل" أي ارتفاعاً في القيمة العلمية كما ادعى هذا الناقد، بل انتقالاً إلى " الأخس"، أي نزولاً في هذه القيمة، متى أخذنا بمعاييره في ترتيب النظم المعرفية. أما إن كان المقصود هو بناء نسق متداخل يحقق وجهاً من وجوه التكامل لم ينتبه إليه الأصوليون الذين سبقوا الشاطبي، فهو ما ندعيه ونريد إقامة الدليل عليه.
بعد هذا التمهيد، لنرجع إلى ما كنا بسبيله، وهو أن مفهوم "المقصد" هو مدار التداخل الداخلي عند الشاطبي؛ فلنبسط الكلام في ذلك، مستهلِّينه بتحرير المراد من لفظ "مقصد"، فنقول بأن المقصد لفظ مشترك بين معان ثلاثة لا أحد، حسب علمنا، سبق إلى تفصيل الفروق بينها. ولكي نتبين بوضوح هذه الفروق، نتوسل في ذلك بطريق التعريف بالضد، فنقابل معاني المقصد بأضدادها، واحداً واحداً.
أ ـ يُستعمَل الفعل: "قصد" بمعنىً هو ضد الفعل: "لغا" ("يلغو"). لما كان اللغو هو الخلو عن الفائدة أو صرف الدلالة، فإن المقصد يكون، على العكس من ذلك، هو حصول الفائدة أو عقد الدلالة؛ واختص المقصد بهذا المعنى باسم "المقصود"، فيقال: "المقصود بالكلام" ويراد به مدلول الكلام.
ب ـ يُستعمَل الفعل: "قصد" أيضاً بمعنى هو ضد الفعل: "سها" (يسهو"). لما كان السهو هو فقد التوجه أو الوقوع في النسيان، فإن المقصد يكون، على خلاف ذلك، هو حصول التوجه والخروج من النسيان؛ واختص المقصد بهذا المعنى باسم "القصد".
ج ـ يُستعمَل الفعل: "قصد" كذلك بمعنىً هو ضد الفعل: "لها" ("يلهو"). لما كان اللهو هو الخلو عن الغرض الصحيح وفقد الباعث المشروع، فإن المقصد يكون، على العكس من ذلك، هو حصول الغرض الصحيح وقيام الباعث المشروع؛ واختص المقصد بهذا المعنى باسم "الحكمة".
وعلى الجملة، فإن الفعل: "قصد"، قد يكون بمعنى "حصَّل فائدة" أو بمعنى "حصل نية" أو بمعنى "حصل غرضاً"، فيشتمل "علم المقاصد" إذ ذاك على ثلاث نظريات أصولية متمايزة فيما بينها: أولاها، نظرية المقصودات، وهي تبحث في المضامين الدلالية للخطاب الشرعي؛ والثانية، نظرية القصود، وهي تبحث في المضامين الشعورية أو الإرادية والثالثة، نظرية المقاصد، وهي تبحث في المضامين القيمية للخطاب الشرعي.
وإذا تقرر هذا، ظهرت الحاجة إلى معرفة السبب الذي جعل هذه المباحث الثلاثة تجتمع في صلب أصول الفقه. الواقع أن من يعمل الفكر في أحكام هذه المباحث، لا يلبث أن يتبين أن هناك أصلاً جامعاً بينه، إذ أن لكل من المقصود والقصد والمقصد أوصافاً أخلاقية: ظاهرة وخفية، نسيتها أو تناستها كل الدراسات التراثية، قديمها وحديثها، لأسباب متباينة ليس هذا موضع بسط القول فيها؛ وحسبنا هنا أن نستخرج هذه الأوصاف الأخلاقية، حتى نبين كيف امتزج علم الأخلاق بعلم الأصول امتزاجاً.
1.2.2ـ الأوصاف الأخلاقية للمقصودات الشرعية: من الأوصاف الأخلاقية التي يختص بها العنصر الأول من العناصر المقصدية، وهو المقصود الشرعي، وصفان أساسيان: أحدهما، "الصبغة المعنوية"؛ والثاني، "الصبغة الفطرية".
1.1.2.2ـ الصبغة المعنوية للمقصود الشرعي: ليس المقصود الشرعي من النص صيغة أو أسلوباً، وإنما هو أمر مضموني يُستَخرج من هذه الصيغة أو هذا الأسلوب، وقد يكون استخراجه قريباً أو بعيداً؛ فإن كان الأول، فإن المضمون يتبادر من اللفظ بأول النظر ونكتفي فيه ببادئ الرأي؛ وإن كان الثاني، فإننا نحتاج إلى مجاوزة الدلالة المباشرة والغوص في باطن النص غوصاً يتفاوت سعة وعمقاً، مع التوسل في ذلك بالأدلة الزائدة على اللفظ، وهي صنفان: أحدهما" أدلة مقالية مكونة من سياقات الكلام أو من نصوص أخرى؛ والآخر: أدلة مقامية مشتملة على أسباب النزول وملابسات السنة وظروف الممارسة العامة، وعلى ما تواتر من القوانين والقواعد المُشرَّعة إلى وقت ورود النص.
ولما كان المقصود الشرعي يؤخذ من منطوق النص كما يؤخذ من مفهومه، فلم يعد وجوده موقوفاً على ظاهر النص، وصار مُدْرَكاً عقلياً مستقلاً قد تقرب أو تبعد أسباب وصله بالصورة اللفظية. غير أن هذا المدرَك العقلي الشرعي ليس تصوراً مجرداً، بل هو مدرَك متصل اتصالاً بالقيمة العملية؛ ومقتضى القيمة العملية أن الخطاب المبَلَّغ يُنْهِض إلى العمل ويُحرِك دواعي الممارسة في ظروف سلوكية مخصوصة. وبما أن المقصود الشرعي مدرَك عقلي عملي، فقد صار نازلاً منزلة "المعنى"؛ فالمعنى إذن هو ما كان من المضامين الدلالية موجوداً في الإشارة كما هو موجود في العبارة، ومتحققاً في العمل كما هو متحقق في النظر. وكل ما كان كذلك، أي كان مضموناً دلالياً موجَّهاً توجيهاً عملياً، فله أساساً تعلق بالأخلاق، فالمقصود الشرعي هو إذن مقصود أخلاقي.


المصدر : تجديد المنهج في تقويم التراث

ارسال التعليق

Top