◄(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ * إِلّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة/ 159ـ 160).
ربّما يكون المقصود بهؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله، هم أهل الكتاب أو اليهود منهم خاصّة، كما في بعض الأحاديث المأثورة أو التفاسير المتنوعة... ولكن الآية لا تتجمد عند النماذج التي نزلت فيهم أو انطلقت منهم، لأنّ أسباب النزول تعتبر منطلقاً للفكرة من خلال النموذج الحيّ في عصر نزول الآية، لتتحرّك الفكرة من خلال الواقع الذي يقتحم على الناس حياتهم في نطاق المشكلة الحيّة البارزة... وفي ضوء ذلك نُقرِّر أنّ الآية واردة لتقرير المبدأ العام الشامل لكلّ الناس الذين يملكون المعرفة بحقائق الأشياء، وآفاق البيِّنات وسُبُل الهدى فيما بيَّنه الله للناس في كتابه سواء كان من الكُتُب الأولى التي أُنزلت على إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم، أو كان المراد به الكتاب الأخير الذي هو القرآن فإنّ الإنسان الذي يملك المعرفة يحمل مسؤوليتها أمام الله بأن يبيّنها الناس إذا طلبوها منه، أو إذا غفلوا عنها فلم يلتفتوا إليها ليسألوا عنها، فلا يجوز له أن يخفيها عنهم أو يكتمها عنهم لأنّ في ذلك إخفاءً للحقيقة، وكتماناً للرسالة ممّا يوجب وقوع الناس في الضلال أو انحرافهم عن خطّ الحقّ وضياعهم في متاهات الجهل والحيرة... وهذا مخالف للسنّة الإلهية التي درجت على إرسال الأنبياء وإنزال الكُتُب ليفتحوا عيون الناس وقلوبهم على الحقيقة، وليخطّطوا لهم درب الحياة على أساس المنهج الواضح المستقيم... ولما كانت أعمار الأنبياء محدودة، وكانت وسائل وصول الرسالات والكُتُب السماوية مرتبطة بالظروف الموضوعية التي تتحرّك فيها الرسالات، كان لزاماً على أتباع الأنبياء والرسالات أن يحملوا هذه الأمانة التي حملها الأنبياء وبلغوها من جيل إلى جيل لتتصل الحلقات في سلسلة واحدة، ولترتكز المراحل المتعدِّدة على أساس خطّة ثابتة ممتدة ولتتحرّك الحياة في خطوات الرسالات خطوة خطوةً.. ولولا ذلك لماتت الرسالات بموت أصحابها، إذا لم تسمح الصدفة بانطلاقة مصلح أو متحمس تدفعه نزعته الإصلاحية أو حماسة الإيماني إلى حمل الرسالة من جديد... ولا معنى لأن تكون القضية خاضعة لسؤال السائلين وفحص الباحثين، لأنّ الناس قد تخضع لغفلةٍ مطبقة أو لتوجيه سيء يبعد التفكير عن مساره الطبيعي فيما يثير من قضايا أو يواجه من علامات الاستفهام ولهذا فإنّنا نعتقد أنّ مسؤولية العلماء بالله وبشريعته الإسلامية كبيرة جدّاً في مجالات التبليغ الإسلامي تبعاً للحجم الذي يمثِّلونه في المعرفة العلمية وفي المساحة الإعلامية التي يملكونها في حياة المجتمع، وفي القوّة الاجتماعية التي يستطيعون أن يستخدموها في مجال الدعوة إلى الله لا سيما في الحالات التي يتعرَّض فيها الفكر الإسلامي أو الشريعة الإسلامية للخطر من قبل أعداء الله فإنّ الاستسلام للاسترخاء الفكري والعملي الذي يغريهم بالبحث عن المبررات للتقاعس عن الانطلاق، ولكتمان الحقّ عمّن يحتاجه من الجاهلين والغافلين يعتبر خيانة للإسلام وللمسلمين، ومصداقاً لقوله تعالى في هذه الآية: (أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ) (البقرة/ 159) وقد يؤكد ذلك الحديث الشريف المأثور: "إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه". ►
المصدر: كتاب من وحي القرآن/ حلقة3
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق