• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الفرق بين العقل والفكر

الفرق بين العقل والفكر
◄بين العقل والفكر عموم وخصوص، فكلّ عقل فكر وليس كلّ فكر عقل، لأنّ العقل أعم من الفكر، بل الفكر من أدوات العقل، ومن أدوات العقل الإلهام، كالإلقاء في الرُوُع أو النقر بالأذن، وهو المتعلق بالله تعالى، فإذا أخطأ الفكر الطريق حاد عن العقل وذهب صوب النكراء، فيسمى عند العوام بالعقل، وهو عند الخواص وفي الحقيقة ليس بعقل بل النكراء والشيطنة.

العقل: يقال للقوة المتهيئة لقبول العلم، ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة عقل[1].

هذا من حيث اللغة، ولكون اللغة حيادية فلا تفرق بين القوة المؤدية للرحمان والقوة المؤدية للشيطان، وأما من حيث الاصطلاح فهو:

عن أبي جعفر (ع) قال: لما خلق الله العقل استنطقه ثمّ قال له: أقبل فأقبل، ثمّ قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليَّ منك، ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر وإياك أنهي وإياك أُعاقب وإياك أُثيب[2].

يطلق العقل على ستة معانٍ:

الأوّل: قوة إدراك الخير والشر والتمييز بينهما والتمكن من معرفة أسباب الأمور ذوات الأسباب وما يؤدي إليها وما يمنع منها. والعقل بهذا المعنى مناط التكليف والثواب والعقاب.

الثاني: ملكة وحالة في النفس تدعو إلى اختيار الخيرات والمنافع، واجتناب الشرور والمضار.

الثالث: القوة التي يستعملها الناس في نظام أمور معاشهم، فإن وافقت قانون الشرع واستعملت في ما استحسنه الشارع تسمى بعقل المعاش وهو ممدوح وإذا استعملت في الأمور الباطلة والحيل الفاسدة تسمى بالنكراء والشيطنة في لسان الشرع.

الرابع: مراتب استعداد النفس لتحصيل النظريات وقربها وبعدها عن ذلك، وأثبتوا لها مراتب أربع سموها بالعقل الهيولاني: والعقل بالملكة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد.

الخامس: النفس الناطقة الإنسانية التي بها يتميز عن سائر البهائم.

السادس: ما ذهب إليه الفلاسفة من أنّه جوهر قديم لا تعلق له بالمادة ذاتاً ولا فعلاً[3].

الفكر: الفكرة قوة مُطْرِقَةٌ للعلم إلى المعلوم.

والتفكّر: جولان تلك القوة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب[4].

لعل هذا المعنى من أرقى المعاني التي ذكرها الأصفهاني

وأما اصطلاحاً فلا يختلف عنه لغة كما قرأت معي.

إنّ العقل كما قرأت في أصول الكافي، ليس له تعلق بالمادة أو الماديات، وهذا يعني أنّه ليس بجسم وليس له حدود ولا ينفعل، وهو مشترك بين العباد جميعاً، إلا أنّ العباد يختلفون في الأخذ منه، فمثله مثل ماء المطر النازل من السماء، كثير ولكن كلّ فرد يأخذ بحسب حاجته، قال تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ) (الرعد/ 17)، ومثله مثل التيار الكهربائي يسري في السلك بمئات أو آلاف الأمبيرات (شدة التيار الكهربائي)، ولكن كلّ جهاز يأخذ بقدر قدرته من الاستهلاك، فهذا يأخذ عُشرَ أمبير، وذاك يأخذ مئة أمبير، مع أنّ فرق الجهد (الفولتية) واحد، مثلاً 220 فولت، فكذلك العقل، فهو نعمة كبقية النعم التي أنعم الله بها على العباد، وكلّ عبد يختار الكمية التي يريد بحسب استعداده الذي أعده للأخذ، لا بحسب العطاء الإلهي، فعطاؤه تعالى غير محدود بالقياس إلى العباد رغم محدوديته لأنّه مخلوق من مخلوقاته.

أما الفكر، فهو الوسيلة التي يستخدمها العقل من خلال القلب – لأنّه فيه – لدرك الأشياء وأما التفكّر فهو الآلية التي يستخدمها القلب للوصول للهدف، فتكون مرة بالعين وأخرى باللسان وثالثة بالأذن ورابعة بالدماغ (أي المخ) وهو أكبر من هذه الحواس جميعاً، وله التفويض، كالتذكر مثلاً، أو إجراء العمليات الحسابية والرياضية والفلكية وغيرها من العلوم.

إنّ العقل مرتبط بخلق الإنسان كما بدأه الله تعالى في أصل الفطرة، قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الرّوم/ 30)، أي أنّ العقل يبقى مع الإنسان وإن خالف ما أراد الله منه، وإن ظهر منه خلاف العقل، وذلك بسبب مرض القلب أو تقلبه، ولذلك ندعوا: يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك[5]، أي ثبته على الفطرة في أصل الخلق، أي على أوّل الدين وهو التوحيد كما قال أمير المؤمنين: أول الدين معرفته..[6]، وأحياناً تكون بسبب مقدمات خاطئة فيخطأ الفكر، فإذا أخطأ الفكر ظهر خلاف العقل، وهذا بسبب تقلب القلب عن العقل المودع فيه، والذي من واجبه أن يحافظ على أوامر العقل.

لقد أخطأ الكثير من العلماء والمفكّرين في وصف العقل وواجبه، فتصورا أنّ العقل نتاج الفكر وأنّ الفكر نتاج التفكير، والعملية معكوسة تماماً، لأنّ الفكر قوة مطرقة للعلم، فبالفكر نصل إلى العلم ولكن بعد أن نستخدم الواسطة إليه وهما التفكّر والتفكير، فهما أدوات الفكر، لأنّ التفكّر هو المقاربة بين العلوم والتفكير هو العمل بما يمليه التفكّر والنتيجة التي يستخلصها الفكر من التفكّر والتفكير هي العلم، ولولا وجود العقل لما تمكن التمييز بين فكر وفكر، فالعقل مفيض الفكر والفكر مفيض التفكّر والتفكير وسيلة الوصول من المجهول إلى المعلوم، والمعلوم إذا كان في مجال النظر سمي العقل الفعّال، وإذا كان في مجال العمل سمي العقل المستفاد.

وعليه فليس تمام العقل موجوداً عند الطفل، بل نسبة وجوده تعتمد على أركان عدة، منها الوراثة ومنها البيئة ومنها حركة الطفل نفسه ومنها ما يأتي بالأمر المفاجئ، أي غير المخطط له ومنها اللطف الإلهي، وأعني بالعقل هنا: قدرة الإنسان في الأخذ من العقل الكامل التام الشامل الذي خلقه الله تعالى أوّل ما خلق كما في الحديث، ولسمو هذا الخلق جعله الله تعالى في أسمى الأعضاء، التي هي عرشه وهو القلب، ومنع من إدخال غير الله إليه، فالإنسان هو الذي يختار إما العقل وإما ما يقابل العقل وهي النكراء، فيبدو للآخرين أنّ فلاناً عاقلاً وهو ليس بعاقل بل منكر.

امّا التجربة فلا تضيف للعقل شيئاً، بل تفتح الطريق للفكر أن يجول بواسطة التفكّر والتفكير للوصول إلى المجهول، فتكون النتيجة أنّ الفكر أخذ من منبع ومكمن العقل ما قاده إليه تفكّره وتفكيره، ولذلك قال النبيّ الأكرم (ص): "تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة"[7]، ولم يقل (ص) تفكير ساعة، لأنّ النبيّ (ص) في مقام البيان لكلِّ شيء، والحديث هنا يعطي أولوية التفكّر على التفكير، لأنّه علته، والتفكر هنا كما أسلفت الطريق إلى العلم النظري وهو ممزوج بالنية، التي هي خير من العمل كما في الحديث: نية المؤمن خير من عمله ونية الكافر شر من عمله؛ وكلّ عامل يعمل على نيته[8]، والتفكير الطريق إلى العلم العملي، والنتيجة أنّ العقل استخدم أدواته في تفعيل حركة نفسه وزيادتها، وهذا يتم بالحركة الجوهرية للعقل، ولا إشكال في كيفية انفعال العقل بنفسه، وهو كما قال أمير المؤمنين (ع): "وإنما هي نفسي أروضها (أذللها) بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر [القيامة]"[9]، هذه هي الحركة الجوهرية للنفس والتي هي هنا بمقام الروح وهي أيضاً بمقام العقل.

أمّا التفكّر فلا يرد على الدماغ، وإنما التفكير هو الذي يرد على الدماغ، فالعين لها تفكير وليس لها تفكّر واللسان له تفكير وليس له تفكّر والمخ له تفكير وليس له تفكر، فضلاً عن كونها ليست فكر، فلا هي بالعقل، إنما العقل بالقلب لأنّ الفكر فيه، ولهذا يستطيع الإنسان أن يعيد ذكرياته وأحاسيسه بعد الموت السريري لبقاء القلب حياً، أي بقاء الإنسان حي، ولو كان العقل والفكر والتفكّر بالدماغ لما عاد للميت سريرياً إحساسه وذكرياته، لأنّها ماتت بموت دماغه، وهذا من أدل الإدلة على أنّ القلب محل العقل والتدبّر والتفكّر وأما الدماغ فمحل التدبير والتفكير، وهما ليسا من مختصاته، بل اليد لها تدبير والعين لها تدبير والرجل لها تدبير وهكذا بقية الأعضاء، ولكن الدماغ أكثر الجوارح (الأعضاء) لها التفكير والتدبير، وهو أمين عام القلب وموضع أسراه وأرشيفه.

الهوامش:


[1]- مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني باب العين، ص577.

[2]- أصول الكافي، الشيخ ثقة الإسلام الكليني، ج1 كتاب العقل والجهل، ح1.

[3]- أصول الكافي، الشيخ ثقة الإسلام الكليني، ج1، كتاب العقل الجهل في هامش، ح1.

[4]- مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني باب الفاء، ص643.

[5]- مفاتيح الجنان، الشيخ عباس القمي تعقيب صلاة الصبح، ص49.

[6]- نهج البلاغة الخطبة الأولى، تحقيق صبحي الصالح.

[7]- مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، العلامة المجلسي ج9 وح25 وجاء في التربية الروحية، السيد كمال الحيدري، ص210 فصل التذكر بلفظ سبعين بدلاً من ستين.

[8]- أصول الكافي، الشيخ ثقة الإسلام الكليني، ج2، كتاب الإيمان والكفر باب النية، ح2.

[9]- نهج البلاغة كتاب رقم 45 لواليه على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري عند إجابته لدعوة (وليمة).

المصدر: كتاب العقل بين القلب والدماغ

تعليقات

  • 2022-01-29

    Soufia

    مقال رائع فالعقل هو حاسوب القلب والقلب هو الذي يبرمجه حسب نظره ومبادئه ويضع فيه ملفاته وذكرياته فيستعمله في حساباته واستنتاجاته العقل فيه ملكة المنطق وكل الاعضاء تعمل بواسطته ولم يذكره الله أبدا في القرآن بل ذكر فقط الفعل ربما اخطأ الانسان في تسميته وأشار فقط ان القلب هو الذي يعقل ومعنى يعقل هو يتعرّف وقد اعجبني تحليلكم كثيرًا لست ادري كيف وفقتم بهذه الدقة في شرحه فقد وافق تفكيري وعقلي وأظن والله اعلم ان القلب هو عقل النفس وبصره لان الله ذكر ان البصر في القلب "لم يذكر ابدا ان القلب هو العقل ذكر فعله فقط اي انه يعقل ومنه من المنطقي ان يسمى عقلا فإننا نسمي الاشياء حسب افعالها لكن والله اعلم لم يرد الله ان يسميه عقلا كي لا يلبس على الانسان وهي اشارة لنا لخطئنا في تسمية العقل القلب هو الواعي فينا والعقل لا وعي فيه والروح تكمن في القلب كما جاء في القرآن فالروح والله اعلم هي علم رباني نفخ من روحه والله نور فالروح نور من الله والنور علم وهو العلم الوحيد المخزن في القلب "عقل النفس"واما العلم الذي يمنطقه العقل يخزن في العقل فيصبح برنامج ومنطق جديد للعقل

ارسال التعليق

Top