• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإسلام والتلوث السمعي

الشيخ خليل رزق

الإسلام والتلوث السمعي
◄التلوث الضوضائي (السمعي) الضوضاء وهي إحدى عناصر تلوث البيئة التي نشأت من وسائل الحضارة التي تحدث ضجيجاً مثل الطائرات والمركبات وأجهزة الإذاعة المسموعة والمرئية وآلات الحفر والبناء وكذلك الورش والمصانع. فالمراد من التلوث الضوضائي أو السمعي: الضجيج والضوضاء والأصوات العالية، التي تؤذي السمع وتتعب الأعصاب، وتشّوش على العقل، وتقلق الراحة، وتطرد النوم، وتؤثر في حياة الإنسان تأثيراً سيئاً، فللضوضاء آثار سيئة على صحة الإنسان، فهي تصيبه بالإرهاق وتثير أعصابه، وتفقده القدرة على التركيز الذهني، وقد عُرف أنّ الضوضاء تزيد سرعة النبض وتزيد من إفراز بعض الغدد في الجسم مما يتسبب عنه إرتفاع في نسبة السكر في الدم، وكثيراً ما ينجم عن الضوضاء إصابة القرحة المعدية أو قرحة الإثني عشر. إضافة إلى ضعف حالة السمع أو فقدانها، وتقاس شدة الضوضاء بوحدة خاصة تسمى "ديسبيل" نسبة إلى مبتكرها، بل ويبدأ هذا المقياس من الصغر حيث تكون الأصوات شديدة الخفوت إلى 130 حيث تكون الأصوات مسببة للألم. وقد لخّص العلماء والباحثون الآثار السلبية للضوضاء والأضرار الناتجة عنها في أربع مجموعات هي: 1-    آثار سمعية. 2-    آثار نفسية. 3-    آثار جسمانية. 4-    آثار على قدرة الإنسان الإنتاجية[1]. رغم أنّ الضوضاء مشكلة حديثة العهد بالبيئة فإنّ الإسلام لم يهملها لأنه الدين الخاتم الذي جاء بالتشريعات التي تسعد الإنسان في كلِّ عصر إلى قيام الساعة، ولذلك فهو يوجّه الإنسان إلى الإعتدال في كلّ شيء، ولهذا لم يحبّذ الضوضاء والضجيج بغير مسّوغ، لما لها من آثار سيئة في حياة الإنسان. أما الموقف العملي الذي عالج به الإسلام قضية التلوث السمعي فيمكن توضيحه من خلال ما يلي:   أ‌-      القرآن والتلوث السمعي: نبّه القرآن الكريم المسلمين إلى ضرورة خفض الأصوات وعدم رفعها في عدّة مواضع منها: 1-    في مجلس النبي (ص) قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (الحجرات/ 2-4). فقد حذّر الله تعالى من رفع الصوت واعتبره محبطاً للأعمال ووعد الذين يغضون أصواتهم بالمغفرة والأجر العظيم. وإنما جاء هذا الوصف القرآني المذموم لهذه الأصوات، لأنّ البعض كان ينادي بصوت مرتفع، وهو مستريح في بيته، لا يراعي الأدب مع النبي (ص).   2-    في مجالس العلم، وفي حضرة أهل الفضل والمنزلة من الناس: وذلك تأسّياً بما جاء في الأدب مع رسول الله (ص)، فالعلماء ورثة الأنبياء، فينبغي أيضاً التأدب معهم، بغض الصوت ورعاية المقام.   3-    ضرورة عدم رفع الصوت مطلقاً: ففي وصية لقمان لولده التي وردت في القرآن الكريم وفيها: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان/ 19). فالقرآن يدعو إلى عدم رفع الصوت ويقبحه في صورة منفردة محتقرة بشعة حين يعقّب عليه بتشبيهه بصوت الحمير، فيرتسم مشهد مضحك يدعو إلى الهزء والسخرية مع النفور والبشاعة، ولا يكاد ذو حس يتصوّر هذا المشهد المضحك من وراء التعبير المبدع ثم يحاول شيئاً من صوت هذه الحمير. وكفى بهذا تنبيهاً للإنسان العاقل أن يتشبه بالحمار البليد، الذي لا يبالي أن يرسل نهيقه المزعج في أيّ مكان شاء، وفي أي زمان شاء، فهو لا يعرف ما يليق وما لا يليق، وإنما ينطلق من غريزته وحدها.   ب‌- السنة النبوية والتلوث السمعي: 1-    النهي عن رفع الصوت حتى في "الذِكر": فعن أبي موسى الأشعري قال: كنّا مع النبي (ص) في سفر، فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي (ص): "يا أيها الناس، أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً، وهو معكم"[2]. ومعنى أربعوا على أنفسكم: أرفعوا بأنفسكم، واخفضوا أصواتكم. وروى الشيخان عن أبي قتادة قال: بينما نحن نصلي مع النبي (ص) إذ سمع جلبة رجال، فلما صلى قال: ما شأنكم؟ قالوا: إستعجلنا الصلاة. قال: "فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة، فعليكم بالسكينة، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتموا"[3]. وهنا نرى أنّ النبي (ص) قد لفت نظره وانتبه إلى ما سمع من جلبة وارتفاع الصوت، فسأل عن سببه، فقال الصحابة: إستعجلنا الصلاة "أي أنهم جاءوا يركضون فأحدثوا صوتاً عالياً، فنهاهم عن ذلك، وأمرهم بالسكينة". 2-    خفض الصوت في القرآن: ورد في الحديث عن النبي (ص) أنه أمر أبا ذر بخفض الصوت عند قراءة القرآن حيث قال: "يا أباذر إخفض صوتك عند الجنائز، وعند القتال، وعند القرآن"[4]. أما ما ورد عن قراءة القرآن بالجهر والصوت المرتفع فهو مشروط بأن يكون الصوت حسناً بحيث لا يؤذي الأخرين، لذا جاء التعليل "بأنّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً"[5]. وفي الحديث المروي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: "لكل شيء حلية وحلية القرآن الصوت الحسن"[6]. فقراءة القرآن بصوت حسن حتى ولو كانت مرتفعة فإنها من المقطوع به أنها لا تؤذي السمع بل تبعث على الراحة والسكينة. 3-    خفض الصوت عند المشي إلى المساجد وفيها: أشارة الروايات إلى سنن وآداب للمسجد نذكر منها ما يتعلق برفع الأصوات وهي: أ‌-      أن يكون المشي بسكون ووقار: فعن الإمام علي (ع) أنه قال: "من أراد دخول المسجد فليدخل على سُكون ووقار فإنّ المساجد بيوتُ الله وأحبُّ البقاع إليه"[7]. ب‌- كراهية رفع الصوت فيها بغير الآذان والوعظ وتعليم الأحكام: فعن أبي ذر عن رسول الله (ص) في وصيّته له قال: "يا أباذر الكلمة الطيبة صدقة، وكلّ خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة. يا أباذر من أجاب داعي الله وأحسن عمارة مساجد الله كان ثوابه من الله الجنة، فقلت: كيف يعمر مساجد الله؟ قال: لا ترفع الأصوات فيها، ولا يخاض فيها بالباطل، ولا يشتري فيها ولا يباع". جـ- كراهية اللغو والخوض بالباطل فيها: ففي الوصية المتقدّمة لأبي ذر ورد فيها عنه (ص): "واترك اللغو ما دمت فيها، فإن لم تفعل فلا تلومنّ يوم القيامة إلا نفسك". د- كراهية الحديث فيها: فعن رسول الله (ص) أنه قال: "جنّبوا مساجدكم مجانينكم وصبيانكم ورفع أصواتكم فيها إلاّ بذكر الله تعالى"[8]. 4-    خفض الصوت في الجنائز: في الحديث المتقدم من وصيّة النبي (ص) لأبي ذر: "إخفض صوتك عند الجنائز...". 5-    خفض الصوت عند الوالدين: فقد ورد في تفسير قوله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ...) (الإسراء/ 24). وهذه الآية تأمر باحترام الوالدين وتعظيمهما، وورد عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: "لا تمل لا تملأ – عينيك من النظر إليهما إلاّ برحمة ورقّة، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما، ولا يدك فوق أيديهما، ولا تقدّم قدّامهما"[9]. وفي رواية أخرى: "... فإن أنت خاصمته، فلا ترفع عليه صوتك، وإن رفع صوته فاخفض أنت صوتك"[10]. 6-    خفض الصوت في الأسواق: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): "إنّ الله يبغض كل جَعْظَري جَوّاظ، صخاب في الأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار"[11]. والجعظري: الشديد الغليظ، والجواظ: الأكول. والصخاب: الصياح. وروى ابن مسعود عن النبي (ص) أنّه قال في شأن صلاة الجماعة: "ليليني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم... ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، وإياكم وهَيْشَات الأصوات"[12]. وهَيْشَات الأصوات: إختلاطها وارتفاع الأصوات واللغط فيها.   ت‌- منع الأصوات المرتفعة في مهمة المحتسب: فقد جعل الحاكم الإسلامي من مهمات المحتسب أن يمنع ممارسة المهن المصّدرة للأصوات بين المنازل، فهو يستطيع منع مزاولة مهنة الحدادة التي تسبّب الأصوات العالية، وكذلك مهنّة القصّارين الذين يستخدمون الطرق والضرب لصبغ الثياب باللون الأبيض، وهذا ما يمكن مراجعته في أحكام المحتسب في ما ذكره القاضي الفرّاء والماوردي في الأحكام السلطانية. وأخيراً: قد يسأل البعض بأنه ما دام الإسلام قد حرّم رفع الصوت والضجيج في مثل هذه القضايا فلماذا لا نأخذ هذه الآداب والتعاليم في عصرنا الحاضر ونمنع من الفوضى والضجيج الذي قد يصدره الإنسان فيؤذي به الآخرين من قبيل رفع أبواق السيارات، وإصدار الأصوات المزعجة من السيارات والآت القيادة وكل الأجهزة والآلات التي تؤذي الآخرين وتتسبّب في إزعاجهم وكذلك ما يضرّ براحتهم من كلِّ ما ينتج من الأصوات المزعجة. وأن تخفض صوت الأجهزة المسموعة وأن تستخدم الآلات في الأوقات المناسبة. كما يجب إبعاد المطارات عن المناطق السكنية والتفكير في إقامة حواجز خاصة للصوت لإمتصاص الضوضاء كما هو حاصل – ومع الأسف – في البلدان التي لم تقرأ الإسلام ولم تلتزم بآدابه وتعاليمه. وهنا نسجل أيضاً للفقهاء العظماء الذين نهلوا من معين هذا الدين الحنيف حيث إستشكلوا في رفع صوت القرآن والآذان من مآذن المساجد عبر مكبرات الصوت ووضعوا هذا الأمر في دائرة المنع نظراً لما قد يترتّب عليه من ضجيج في بعض الأحيان فيؤذي السمع ويسبّب الإزعاج للناس...   الهوامش:
[1]- للتوسع في معرفة هذه الآثار راجع التلوث البيئي، م. س، ص410. [2]- اللؤلؤ والمرجان، م. س. (1728)، متفق عليه. [3]- م. ن، ص351. [4]- وسائل الشيعة، م. س، ج1، ص291، باب 7 ح3. [5]- الكافي، م. س، ج2، ص615، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن، ح9 و11. [6]- م. ن، ص615، ح9 و11. [7]- الوسائل، م. س، ج3، ص485، باب 7، ح1. [8]- م. ن، باب 27، ح4. [9]- الوسائل، م. س، ج21، ص488، باب 92، ح1. [10]- م. ن، ج19، ص204، باب 11، ح1. [11]- رواه ابن حيان، كما في الإحسان (72).

[12]- رواه مسلم في الصلاة، ص432، حديث 123، وأبو داود في الصلاة ص675 والترمذي ص228، والنسائي ص728.

  المصدر: كتاب الإسلام والبيئة

ارسال التعليق

Top