(إنّ رَبّكمُ اللهُ الذِي خلقَ السّمَوات والأرْض فِي سِتةِ أيّامٍ ثمّ اسْتوَى على العَرْشِ يَغشى الليلَ النهَارَ يَطلبهُ حَثِيثاً وَالشمسَ والقمرَ وَالنجُومَ مُسَخّرَاتٍ بأمْرهِ ألا لهُ الخلقُ وَالأمرُ تبَارَكَ اللهُ رَبّ العَالمين) ( الأعراف/ 54 ).
إنّ نظرة فاحصة متأملة نوجهها إلى ظواهر هذا العالم، ونستبطن بها خفايا هذا الوجود وأعماقه، ونتأمل بها نظام الموجودات المهيمن على عالم الطبيعة والمجتمع.
إنّ نظرة كهذه ستقودنا ولا شك إلى اكتشاف العلاقة الطبيعية الكامنة بين القانون والأخلاق، وتنظيم العلاقات الاجتماعية للأفراد والمجتمع من جهة وبين نظام التكوين الطبيعي العام الذي ينظم الطبيعة والحياة من جهة أخرى، إذ يبدو لنا الإنسان في هذه الحالة وجوداً كونياً يحتاج إلى تنظيم طبيعي كما تحتاج سائر أجزاء الكون الطبيعية الأخرى، لأنّ هذا النظر الموحد يسوقنا إلى استنتاج قانون كوني موحد يخضع له الإنسان كما تخضع له سائر أجزاء الوجود.
وهذه النظرة الواعية المتأملة تساعدنا على اكتشاف حقيقة هامة أخرى، وهي أنّ الإنسان يشترك مع سائر أجزاء الطبيعة بوحدة المبدأ والتوجيه والغاية.
فالله هو الخالق الذي صدر عنه كلّ الوجود، وهو الموجه والمسير والمنظم للخلق، وهو الغاية الكبرى التي يتجه إليها الكون والإنسان في مسيرة تكاملية قسرية ومختارة، وكلّ يواصلها حسب درجة وجوده وإمكانات تكامله.
وبهذا التفكير والتحليل الموحد نستطيع أن نكتشف أنّ الوجود بأسره – بما فيه الإنسان – يفرض ضرورة قيام النظام والقانون الذي ينظم حياة الإنسان على أسس وقواعد طبيعية وكونية ترتبط بطبيعة تكوين وخصائص فطرته وعناصر وجوده ونشاطه، كفرد في أسرة الكون المنظمة الكبرى...
وهذا الاستنتاج يقودنا إلى الاعتقاد بأنّ الذي خلق الكون والحياة وأجرى الوجود على أساس من الدقة والجمال والنظام والإتقان المتناهي في الضبط والمتانة، لابد أن لا يترك الإنسان – وهو فرد في أسرة هذا الوجود – شاذاً عن مسيرة هذا النظام الكوني العام، فينحرف عن الغاية الكبرى للوجود غاية الكمال والتعبير عن العبودية لله والإعلان عن وجوده الأحدي الحقّ.
ولذلك كان الإنسان بحاجة إلى أن يتضح له النظام الإلهي الذي يسير حياته وفق الطبيعة والفطرة الإنسانية، حسب منهج ونظام تكاملي مناسب.
ولما كان الإنسان هو الموجود الذي يملك الإرادة والاختيار ويعبر عن أهدافه الحياتية بالاختيار الواعي، وبالتعامل الإرادي اليقظ.. لما كان الإنسان كذلك فقد أرسل الله سبحانه الرسل والشرائع ليضع بين يدي الإنسان المنهج والنظام الشامل الذي يخطط حياته، ونشاطه وفق غاية الوجود النهائية، وهي إظهار التسليم والعبودية لله وحده، عن طريق السير على منهج الخالق الكريم، والالتزام برسالته التي يطرحها بين يدي الإنسان بوساطة رسله وأنبيائه المجاهدين.
وبتأملنا في العديد من آي القرآن الكريم ندرك روح هذه الفكرة -فكرة ارتباط الإنسان بالنظام الطبيعي وحاجته إليه – منبثة وظاهرة في دعوة القرآن وحواره مع الإنسان كما في قوله: (إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف/ 54).
فبهذا النص الواضح الصريح ذكرنا القرآن بالهيمنة الإلهية على كلِّ الوجود وبالتنظيم الكوني الشامل ليضع الإنسان في إطار هذا الوجود المنظم المتناسق، ويكشف عن هذه العلاقة المترابطة بين الخلق والأمر[1] ليثبت مبدأ الربوبية – الذي هو السيادة والسياسة والتدبير والتوجيه – لله الخالق وحده، وليؤكد أنّ ليس بالإمكان الفصل بين الخلق والأمر (التكوين والتشريع) وليس بالإمكان من الناحية الواقعية العزل بين الإنسان ونظام حياته الذي اختاره له خالقه دون أن يؤدي هذا العزل إلى الانحراف، ودون أن تتعرض الحياة للانهيار والتحلل والفساد بعد أن تفقد نظامها الإلهي المتقن الذي جاء متطابقاً مع الطبيعة التكوينية للإنسان.
وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الرابطة – التكوينية التشريعية – أدق تعبير بقوله: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف/ 54).
(إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف/ 40).
فالقرآن حينما أوصلنا إلى هذه النتيجة – أي الترابط بين الخلق والأمر "التكوين والتشريع" إنما كان يستهدف التأكيد على جوهر العلاقة الطبيعية بين التكوين والتشريع لنكتشف من هذا التلازم حقيقة إيمانية وفكرية خطيرة، وهي أنّ الذي خلق الخلق وأبدع وجوده، ورسم غايته، وخطط تكوينه، يبقى هو الموجه الحقيقي الذي يضع لخلقه خطة المسير ونظام الحركة.
لذلك أبرز القرآن الحكيم هذه الحقيقة جلية في نصوصه العديدة ليوضح لنا أنّ مبدأ الحكم والأمر، أو التشريع والتقنين والتنظيم ليس من اختصاص أحد من الناس، بل هو أمر مرتبط بإرادة الخالق وحكمته.
لأنّ التنظيم والتقنين هو صورة من صور العلاقة بين الخالق والخلق، وأنّ هذه العلاقة هي إحدى الصيغ العملية المعبرة عن العبودية أو الارتباط الكلي والتبعية بين الإنسان وربّه.
وأنّ تدخل أي طرف آخر في تنظيم الحياة البشرية ووضع النظام والقانون لحياة الإنسان ونشاطاته الفردية والاجتماعية المختلفة معناه اشتراك في العلاقة مع الله.
والتسليم بهذه السلطة (التقنين والتشريع) لغير الله إنما هو صورة من صور العبادة والخضوع والاستسلام لغير الله[2].
لذلك لفت القرآن الحكيم الأنظار إلى هذه النتيجة الخطيرة في حياة الإنسان فقال: (إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) (يوسف/ 40).
وقد طبق القرآن الكريم هذا المبدأ على اليهود والنصارى الذين تركوا شريعة الله ونظامه العادل وخضعوا لإرادة الرهبان والأحبار يضعون لهم القوانين ويشرعون لهم الأنظمة فقال:
(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة/ 31).
وجاءت التفاسير عن الأئمة (ع) لتوضح أنّ المقصود بالربوبية الواردة في هذه الآية والتي صنعها الأتباع لأحبارهم ورهبانهم ما هي إلا الالتزام بأوامرهم وتشريعاتهم وقوانينهم التي يصدرونها للأتباع، الخاضعين لإرادتهم وأهوائهم.
فقد ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) أنّه قال حينما سُئل عن معنى الآية الآنفة الذكر "أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، ولكن أحلوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون".
وعلى هذه القاعدة جرت الآيات القرآنية معبرة وناطقة عن معنى إعطاء صلاحية الحكم والتشريع لغير الله، فسمت هذا الانحراف كفراً وفسوقاً وظلماً وجاهلية، وأطلقت على الذين يمارسون عملية التشريع والتقنين بصيغته الشاذة المنحرفة عن إرادة الحقّ والعدل الإلهي طواغيت وأصناماً يعبدون من دون الله كما تبين لنا النصوص القرآنية هذه الحقيقة بقوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة/ 47).
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) (المائدة/ 45).
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة/ 44).
(أفحُكمَ الجَاهِليّة يَبغونَ وَمنْ أحسَنُ مِنَ اللهِ حُكماً لِقوْمٍ يُوقِنونَ) (المائدة/ 50).
(ألمْ ترَ إلى الذِينَ يَزعُمونَ أنهُمْ آمَنوا بمَا أنزلَ إليكَ وَمَا أنزلَ مِن قبلِكَ يُريدُونَ أن يَتحَاكمُوا إلى الطاغوتِ وَقدْ أمُروا أن يَكفرُوا بهِ وَيُريدُ الشيطانُ أن يُضلهمْ ضَلالاً بَعِيداً) (النساء/ 60).
فبهذا التطابق النصي المتوافق بين آي القرآن الحكيم ندرك أنّ الحكم – سواء بمعناه الدال على وضع القانون والتشريع، أو بمعناه الدال على التطبيق وإلزام الأفراد بالقانون والتشريع – يجب أن لا يخرج عن إرادة الله وحكمه، لأنه صورة من صور العبادة والخضوع لله وحده.
الهامش
[1]- الخلق هو الإبداع والتكوين من غير أصل، وهو التقدير المتقن للأشياء، أما الأمر فهو التوجيه والتنظيم والتسيير.
[2] - إنّ هذا التسليم والخضوع لشريعة الله تعالى لا يعني سلب الإرادة الإنسانية وإنما يعبر عن برمجة الطريق ومنهجة الحياة مع تمكين الإرادة الإنسانية من الاختيار المسؤول الذي يترتب عليه الجزاء وتحمل نتائج الفعل.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق