• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المرأة في الكيان الإسلامي

عزّالدين سليم

المرأة في الكيان الإسلامي

لست بصدد الدفاع عن إحدى متبنيات المبدأ الإسلامي حين عقدت بحثي هذا حول المرأة في المجتمع أو الكيان الإسلامي لعلمي ابتداء أنّ أسلوب الدفاع عاد أداة غير مجدية يلتمسها العاجزون والمتبرمون بما حواليهم من تردي وضياع في المجتمعات الغافلة عن الله تعالى في وقت أصبحت فيه مهاجمة المفاهيم الإسلامية، ومعاداتها من أوليات أهداف الضالعين في ركاب القوى - ذات الإمكانات الهائلة - المعادية للإسلام، والمنتفعين في حياة التيه في صحاري الضياع .

ومن هنا فقد أصبح إشغال أنفسنا - والحالة هذه -  بأمور الدفاع عن رسالتنا مسألة  - بغض النظر عن عدم جدواها - لا نطيقها نحن كأفراد، ولا تطيقها العُصبة أولو القوّة فينا، إذ لإعدائنا في كلّ يوم موضة جديدة، وأسلوب مستحدث في قلب عقيدتنا، والتصدي بالهجوم السافر على مبدئنا العتيد بغية زجنا في معارك جانبية - إذا وضعنا أنفسنا في مستوى الدفاع المجرد - على حساب مهماتنا الأساسية كأُمّة تصبو لبناء حاضرها، ومستقبلها بناء على ما يقتضيه المنهج الربّاني؟ ومرتكزاته، وأهدافه العليا.

وانطلاقاً من طبيعة هذا الوعي المحدد لحجم المسؤولية التي ينبغي أن يضطلع بحملها كلّ مسلم واعٍ لأهداف رسالته العظمى، عقدت هذا البحث متوخياً من خلاله إبراز الأطار العام لدنيا المرأة في المجتمع الإسلامي - بما ييسر الله تعالى لي متخطياً - ما استطعت كافة التجاوزات الطافحة بروح الحقد، واللاموضوعية التي تتسم بها الدراسات السائرة على الخط الاستعماري، وسالكاً كبديل لذلك أسلوب عرض وجهة النظر الإسلامية في مسألة المرأة والمبررات الأساسية التي وردت من أجلها صيغة النظرية الإسلامية المتبناة.

بيد أنّي - وقبل خوض غمار هذا الحديث - لابدّ من أن أشير ابتداءً، ولو بصورة عابرة إلى العوامل الأساسية التي ساهمت في حجب وجهة النظر الإسلامية في المرأة عن ذهنية الجيل المعاصر، فاتّخذت إطار يكتنفه الغموض، ويلفه ضباب كثيف من التشويه يحول دون رؤيته في إطاره السليم.

فمراجعة علمية للملابسات التي رافقت موضوع البحث نلمح الأمور الآتية كعوامل أسدلت الستار على واقع النظرية الإسلامية في المرأة:

1-   إنّ غياب الشريعة الإسلامية عن المسرح الحياتي للإنسان المعاصر قد ساهم في انعدام فهم النظرية الإسلامية الخاصّة بدنيا المرأة: في المجتمع الإسلامي من الجيل المعاصر.

2- إنّ الأوضاع الشاذة في العالم الإسلامي المغايرة للنظرية الإسلامية في المرأة والتي ألقت بثقلها على دنيا المسلمين منذ أجيال تعاقبت وغذتها نزعات عشائرية أو أقليمية أو قبلية أو غيرها، وسقوط المرأة تحت وطأة هذه الأوضاع الاجتماعية الشاذة  قد أوحى خطأ للغالبية العظمى من أبناء جيلنا المعاصر وقوف الإسلام من المرأة موقف الهاظم لحقوقها، المصادر لكرامته، والمغتال لأرادتها.

3- تولي جهات مشبوهة، وأقلام مأجورة مربوطة بشكل أو بآخر بالقوّة الاستعمارية مهمّة التزييف، والدس على الرسالة، ومدلولاتها الرفيعة بما فيها الجانب المتعلق بموقع المرأة في المجتمع الإسلامي، كأسلوب مشبوه من الأساليب التي تهدف إلى تعميق الهوة بين الإسلام والأجيال المعاصرة لحساب القوى المعادية للإسلام.

هذه أهم العوامل التي ساهمت مجتمعة فيما أرى في تشويه المعالم الأساسية لوجهة النظر الإسلامية في مسألة المرأة، ومكانتها في دنيا المسلمين.

 

الإسلام يحدد الموقع الطبيعي للمرأة

غير أنّنا لأجل أن نتخطى الصيغ المعادية للإسلام في نظرية المرأة بما فيها من تجاوزات، وتضليل لابدّ لنا من أن نستقي وجهة النظر الإسلامية (موضوع البحث) من خلال النصوص الإسلامية الأصيلة الواردة بين دفتي الكتاب العزيز، وسُنة المعصوم (ص).

على أنّنا حين نمارس دور المتتبع لهذه المسألة في ثنايا ينابيعها الصافية ندرك ابتداءً أنّ الرسالة الإسلامية المباركة تدشن موقفها من المرأة بالهجوم السافر المركز على الحضارات، والمناهج الاجتماعية التي تنكرت لهذا المخلوق الكريم، ونصبت له العداء بسبب وعي تبلد، ولم يعد مدركاً لدور المرأة الكبير في معركة بناء الحياة!!

فالرسالة الإسلامية قد وضعت نفسها على الخط الأمامي لمواجهة أعداء المرأة والغافلين عن دورها حين مارست دور المدافع العنيد عن المرأة وحقوقها، وإرادتها وشرفها، في الوقت الذي شنت فيه حملة من التنديد الصارخ بأعداء المرأة، كاشفة عن مظلوميتها، ومعرية كلّ الممارسات المعادية التي سلكت معها عبر الأجيال، والقرون التي غمرها طوفان الجاهلية قبل بزوغ شمس الرسالة الغراء.

وهذه بعض مصاديق الموقف الإسلامي هذا:

1-   (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ *بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (التكوير/ 8-9).

2- (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ *يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (النحل/ 58-59).

3- (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) (الإسراء/ 31).

فهذه النصوص الإسلامية وغيرها فوق مما تصوّره من روح المكابرة، والاستعلاء والامتهان لجنس المرأة من قبل الحضارات، والمناهج الاجتماعية التي سبقت بزوغ شمس الرسالة الإلهية، والتي تجسدت على شكل مواقف، ومعاملات، وتصوّرات يعافها العقل السليم، والذوق الرفيع، واندرجت تحت عناوين كالحة، ومخزية من الوأد للبنات، أو التبرم من ولادتها - على الأقل - أو منعها من حقوقها دون الرجل، أو التمييز بينها، وبين الرجل حتى في تناول بعض أنواع الطعام أو مصادرة إرادتها في اختيار زوجها، فضلاً عن تمتع الرجل بحقّ الزواج بما يشاء من النساء دون النظر إلى مفهوم العدالة أو المساواة، أو نحوهما من مفاهيم إنسانية. أقول: إنّ هذه الممارسات العلمية المجافية لروح التجمع الإنساني السليم في الوقت الذي تشجبها الرسالة الإسلامية بقوّة تعمد من جانبها إلى وضع المنطلقات الأساسية الواضحة لإسقاط كافة القيود والتجاوزات على حقوق المرأة الثابتة تحت أقدامها.

وهكذا تكون إطلالة الإسلام الحنيف على دنيا الإنسان بمثابة انعطاف تاريخي هائل لا نظير له في حياة العنصر النسوي على الإطلاق، اُستعيدت لها فيه كرامتها الممتهنة، وحقوقها المهدورة قروناً طويلة.

فلأوّل مرة في تاريخ إنسان هذا الكوكب تُمنح المرأة تأثير الدخول في دنيا الكرامة ويمنح لها حقّ العيش مع صنوها الرجل جنباً إلى جنب، الأمر الذي يبدو جلياً من خلال المفاهيم العملية التي جسدها الإسلام الحنيف في مجتمعه الكريم، متجاوزاً بها كلّ سمات الامتهان التي يتعاطاها الرجل في علاقاته مع المرأة، وعاملاً ما من شأنه على إنهاء كلّ حالات الشذوذ التي خلفتها المناهج الجاهلية التي كبلت هذا الإنسان.

وهذه بعض المبادىء الحيوية الأصيلة التي حملتها الاطروحة الإسلامية المُتبناة في مسألة المرأة:

1- (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً) (النساء/ 1).

2- (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا *وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء/23-24).

3- (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ...) (التوبة/71).

4- (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (النساء/ 124).

5- (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل/ 97).

6- (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم/ 21).

7- (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) (البقرة/ 187).

هذه بعض الأُطر الفكرية التي قضى الإسلام الحنيف من خلالها بردم الهوة السحيقة التي حفرتها المناهج الجاهلية بين الرجل والمرأة محققاً بذلك أرقى مظاهر التلاحم الروحي والمصيري بينهما، حيث أعاد للمرأة اعتبارها ودورها في معركة الحياة لتكون وصنوها الرجل جنباً إلى جنب.

فها هي الشريعة الإسلامية تبوىء العنصر النسوي مكانه العلي في رحاب المجموعة الإنسانية دون إفراط أو تفريط، كما ترجمته النصوص القرآنية التي عشنا ظلالها قبل قليل والتي تصوّر الرجل والمرأة، وقد انبثقا من مصدر واحد، وجنس واحد، خلافاً للنظرية القديمة التي ترى في المرأة مخلوقاً يرتدي أهاب شيطان.

ثم أنّ الإسلام بعد ذلك وعلى لسان نصوص كتابه المجيد يعتبر المرأة سكن للرجل الذي يأوى إليه في جو من المودة والدفء والحنان والرحمة حتى يعود الرجل وفقاً لهذه النظرة الواقعية لباساً لها وتعود المرأة لباساً له، فتتحقق بذلك أعلى مستويات التلاحم، والتراحم والتكافل في جو مفعم بالود والجمال.

والمتتبع - بعد ذلك - لتلك المبادىء والأُطر التشريعية التي حملها القرآن الكريم لتكون أُطروحة المجتمع الإسلامي المُتبناة في قضية المرأة والتي قضى الإسلام من خلالها بتجسيد أرقى مظاهر التلاحم الروحي والمصيري بين الرجل والمرأة يدرك ببُعد رؤية ووضوح إنّ المنطلقات الدستورية الإسلامية لم تسلك مجرى الأحداث العفوية اللاواعية التي لا تدري كيف تسير، ولا إلى أين تسير، وإنّما انطلقت في شكلها ومضمونها من خلال المواصفات البيولوجية التي يتمتع بها كلّ من الجنسين، حيث حسبت الرسالة الإسلامية لطبيعة التركيب النفسي والعضوي لكِلا العنصرين حسابه الدقيق الواعي بغية تخطي كلّ غُبن أو حيف ينال أحدهما حين إغفال ذلك التركيب الطبيعي لكليهما لتسند الوظائف، والمسؤوليات، وتمنح الحقوق لكلّ منهما وفقاً لما يتمتع به من طاقات، وما يمتاز به من إمكانات طبيعية بالشكل الذي يحقق أعلى مستويات الإنتاج، والتلاحم والانسجام، والمعطيات أثر في دنيا الإنسان.

وهي مسألة تعدُّ بديهية بالنسبة للرسالة الإسلامية، وإمكاناتها الضخمة لتحقيق ذلك بالدرجة المطلوبة نظراً إلى أنّ الإسلام - كمنهج ربّاني متكامل - يعلو فوق كلّ اجتهاد أو تخمين أو تصوّرات، باعتباره صادراً من خالق الإنسان جلّ وعلا الذي يعلم دواء الإنسان وعلاجه.

وهكذا فأنّ النظرة الإسلامية المُتبناة في مسألة المرأة تُبتنى على أساس استيعابها للجانب التكويني للإنسان بكِلا شطريه: الرجل والمرأة إلّا أن يبدو للمتتبع للنظرية الإسلامية في المرأة من خلال نصوصها الأصيلة: أنّ اهتمام الإسلام بالتركيب البيولوجي قبل إقرار منطلقاته النظرية لتحديد مسؤوليات كلّ من الرجل والمرأة في هذه الحياة تعلية عن كونه عملية واعية لتحديد المواقف، وإنضاج الظروف الموضوعية لتكافؤ الفرص، وتوزيع المهام توزيعاً منسجماً والقابليات الفكرية والاستعدادات البيولوجية، فأنّه من جهة أخرى يعكس روح المجتمع الإسلامي في إطاره الفني الرائع.

ارسال التعليق

Top