• ٢٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

القرآن وأسلوب الدعوة في مكة والمدينة

أسرة البلاغ

القرآن وأسلوب الدعوة في مكة والمدينة

إنّ استقراء ما نزل من آيات مكية تتحدّث عن أسلوب الدعوة في مكة، وكيفية التعامل مع الخصوم، والتأمل في المسيرة التي انتهجها الرسول وأصحابه في حمل الدعوة والتبشير بالإسلام، تكشف لنا أنّ الرسول (ص) كان يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، ويتبع أسلوب الحوار الفكري، والإقناع العلمي، ولم يستعمل العنف، ولم يشرع باستعمال القوة في مكة، رغم ما لاقى هو وأصحابه من أذى واضطهاد، وفرض للحصار الاقتصادي والاجتماعي عليه، وعلى أصحابه وأعمامه، في السنة العاشرة من البعثة.. والقرآن رغم كل ذلك أمر النبي محمداً (ص) بالصبر والتحمل، وفتح الآفاق النفسية، وشرح الصدر، واللجوء إلى أسلوب الحوار العلمي، والاقناع المنطقي لهداية الناس، وإصلاحهم.. فهو نبي جاء بالهدى والاصلاح، وليس متسلطاً يخضع الناس بالقوّة والارهاب.
ولكي يتّضح أسلوب الدعوة، ونمط الخطاب فلنقرأ بعضاً من النصوص القرآنية التي حدّدت موقف الرسول (ص) من الأذى والعدوان والاضطهاد والارهاب الذي استعمل ضدّه وضد أصحابه، وضد مَن يستمع إلى خطابه ودعوته.. 
قال الله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل/125).
(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ *وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت/34-35).
(قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سبأ/24).
(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون/6). 
(أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص/54-55). 
(وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ *فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الزخرف/88-89).
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر/85). 
(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) (الفرقان/63).
(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ *مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (الجاثية/14-15). 
(وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) (الإسراء/53). 
(وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا) (المزمل/10).
(فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا) (المعارج/5).
(فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ..) (الأحقاف/35).
وهكذا نجد القرآن يثبت منهج الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.. إنّه يدعو إلى الحوار والتفاهم إذ يقول: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ.. ) (النحل/125).
(وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..) (النحل/125).
(وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..) (الإسراء/53).
(..وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سبأ/24).
إنّه لم يتهم الطرف الآخر ولم يستفزه، بل دعا إلى رحلة حوار للبحث عن الحقيقة، ليعرف الطرفان أين الحق والصواب.. بل ويتخذ أسلوباً سلمياً آخر حينما يقول لهم: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون/6).
إنّه يدعو الآخر إلى التعايش، وإن لكل دينه وعقيدته وليدع كل منهما بدعوته، وليتحمل مسؤوليته؛ فالإنسان الذي يستعمل عقله وضميره وحسّه الأخلاقي.. سيكتشف أين الحقيقة..  فإنّه مطمئن إلى انتصار منهج العلم والعقل.. 
ويتسامى منهج الدعوة ونمط الخطاب وأخلاقية الإنسان الحامل للدعوة الإسلامية، يتسامى بالدعوة إلى الصبر والتحمل، وعدم استعمال الرد والعنف.. جاء ذلك في قوله تعالى:
(وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ..) (المزمل/10).
(فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا) (المعارج/5). 
(فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ..) (الأحقاف/35) .
ثمّ ينتقل إلى مرحلة أخلاقية أسمى من مراحل المنهج الأخلاقي والسلوكي فيدعو إلى المغفرة والصفح الجميل..  (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) (الجاثية/14).
(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ..) (الزخرف/89).
(..فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر/85).
(..وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) (الفرقان/63).
ويتسامى منهج الدعوة في التعامل والخطاب إلى موقع أعلى فينادي بمقابلة الإساءة بالإحسان، لرفع الحواجز النفسية والفكرية، وتوفير الأجواء والظروف الكافية لفتح العقول والقلوب على مبادئ الحق والإيمان.. يتضح ذلك من قوله تعالى: (..ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت/34).
ثمّ يسترسل في الثناء على هذا الأسلوب في الدعوة فيوضح أنّ الذين يرتقون إلى هذا المستوى هم ذوو حظ عظيم، وأصحاب إرادة وصبر جميل..  (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت/35).
إنّه الصبر والعفو والصفح والسلام، ومقابلة الإساءة بالإحسان.. ذلك منهج القرآن في دعوته، وتلك سيرة رسول الله (ص) العملية في الدعوة وتبليغ الرسالة، ولكنّ الأشرار لم يستجيبوا لكل ذلك، فواجهوه وأصحابه بالعنف والارهاب والقتل والتعذيب والحصار والحرب النفسية والإشاعات والتهم الباطلة.. ومع ذلك صبر وغفر.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ هذه الآيات، وإن نزلت في مكة، ورسمت أسلوب الدعوة في تلك البيئة والظروف، إلاّ أن تلك الآيات لم تنسخ، ولم تفقد دورها كأسلوب وطريقة في نشر الدعوة الإسلامية، وإنّ ما جاء من آيات الجهاد كان لردع الطغيان والفساد وحماية حريّة الفكر، والدفاع عن الحق والعدل والهدى، وليست أسلوباً ناسخاً لما جاء في هذه الآيات وأمثالها..
والمرحلة الثانية من مراحل الدعوة في العهد النبوي.. عصر التشريع، ونزول الوحي، واكتمال الرسالة.. المرحلة الثانية، كانت في المدينة المنورة، وهي الفترة التي امتدت عشر سنوات، من يوم هجرة الرسول (ص) إليها وحتى وفاته فيها.
وفي المدينة المنورة تمّ بناء الدولة والمجتمع الإسلامي إلى جانب الدعوة إلى الإسلام..  وكما هو واضح وثابت تأريخياً فإنّ سبب الهجرة، هو الارهاب والظلم والعدوان ضدّ النبي (ص) ودعوته والمؤمنين به والمتعاطفين معه، كما هاجر الآخرون إلى الحبشة قبل ثمان سنوات من الهجرة إلى المدينة.. فقد مارست قريش القتل والتعذيب والحصار الاقتصادي، والارهاب الفكري والاضطهاد الاجتماعي، فلم تفلح في تحقيق أهدافها.. فقرّرت قتل النبي (ص) والتخلّص منه.
وهكذا خططوا لقتله وقرّروا ذلك.. وليلة التنفيذ أخبر الله سبحانه نبيه بما يريده أولئك الأعداء، فخرج مهاجراً إلى المدينة المنورة، بعد أن أصبحت له قاعدة فيها وأنصار، وبيعة تعهّد فيها زعماء المدينة بنصرته، والدفاع عنه، وعن الدين الذي يدعو الناس إليه.. وحين استقر النبي (ص) في المدينة التي تبعد عن مكة حوالي (450) كم شرع ببناء الدولة والمجتمع على أساس مبادئ الإسلام.. مبادئ الحق والعدل والإيمان، وقيم الأخلاق التي بشّر بها القرآن..  لقد نصّ القرآن على بناء الدولة على أساس العدل وسيادة القانون واحترام إرادة الأمّة.. جاء ذلك في النصوص الآتية: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ..) (النساء/58).
وثبت مبدأ سيادة القانون في الدولة فخاطب النبي (ص) بقوله: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الجاثية/18). 
فالنبي (ص) الحاكم مكلّف باتباع القانون وتنفيذه.. وفي الآية الآتية يؤكِّد القرآن احترام إرادة الأمّة والتشاور معها، والتعامل الإنساني الشفاف، فخاطبه بقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران/159).
وهكذا انتقل الإسلام بالمجتمع العربي في المدينة من الحياة القبلية، والصراعات التي كانت بين القبائل، إلى الدولة وبنائها على أرقى الأسس الحضارية، على أساس العدل، وسيادة القانون، واحترام إرادة الأمّة ورأيها.. وراح الرسول (ص) يواصل دعوته إلى الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية كافّة، منطلقاً من هذه القاعدة السياسية، الدولة التي يقودها في المدينة..
ولما كانت هناك موجبات لحماية الدعوة والدولة، وأنّها مهدّدة بغارات الأعداء، والقوى المعادية من حولها.. دولة الفرس في الشرق، والروم في الغرب.. وتكتل اليهود في المدينة، وقوى قريش في مكة التي أخرجته منها، وما زالت تتعقبه، وتعمل على القضاء عليه، وعلى دعوته.. وكما يشهد الواقع التأريخي فإنّ كل الظروف القائمة من حول الدعوة آنذاك تُشعر بالخطر على الوضع الحضاري الجديد..  وانّ لغة العصر، وظروف المرحلة لا تعرف غير العنف والقوة.. والرسول (ص) يدعو بوسائل الفكر والحوار العلمي، وبالحكمة والموعظة الحسنة، كما شهدت المرحلة التأريخية التي عاشتها الدعوة في مكة ثلاثة عشر عاماً.. 
وإذاً فمن المنطقي والضروري أن يتبنى هذا الدين أداة القوّة للدفاع والحماية والوقوف بوجه الطغيان والارهاب الموجه ضدّه، وضدّ المستضعفين فكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً في ذلك العالم الذي يسعى هو لتحريره وانقاذه.. إنّه يريد أن يحرر الإنسان من العبودية، ولتلك الأوضاع قوى مسلّحة تحميها وتضطهد الإنسان، ولا تستجيب لمنطق العقل، ودعوة العلم والمعرفة.. من هنا كان لا بدّ من أن يُشرّع الجهاد لمواجهة تلك الأسباب مجتمعة، ولهذا دعت الضرورة لتشريع الجهاد والقتال للدفاع، وإزالة الظلم والطغيان الذي تحصن بالعنف والقوّة والإرهاب.. 
ولمزيد من حفظ الأمن والسلام، وكف نذر الحرب والقتال، شرع الإسلام نظام المواثيق والعهود، ووضع له قوانينه وأحكامه الخاصّة، وابتدأ بمعاهدة سلام مع اليهود المقيمين في المدينة، في السنة الأولى من وصول الرسول (ص) إليها.. ثمّ توقيع معاهدة صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة.. وبهذا النظام ثبت أسلوباً حضارياً آخر من أساليب الدعوة العقائدية والسياسية.. 

ارسال التعليق

Top