العلامة الشيخ أحمد آذري قمي
◄(هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُنَّ أُمّ الكتاب وأُخرُ متشابهات فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتَّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربّنا وما يذَّكَّر إلا أولو الألباب) (آل عمران/ 7).
الآية الشريفة تدل بشكل صريح على تقسيم الآيات الكريمة للقرآن المجيد إلى قسمين: محكم ومتشابه، كما أنّ بعض النقاط القابلة لأن تطرح والمفيدة في ذيل هذه الآية هي ضمن هذا العرض:
1- ألا يوجد تناقض ومنافاة بين هذه الآية والآية الأولى من سورة هود التي تدل على إحكام جميع آيات القرآن، والآية 23 من سورة الزمر التي تدل على تشابه جميع آيات القرآن؟
2- ما هو معنى المحكم؟
3- ما هو معنى المتشابه؟
4- ما هو المقصود من التأويل؟
5- هل للمحكمات تأويل أيضاً؟
6- هل من أحد غير الله تعالى يعلم تأويل آيات القرآن؟
7- ما هي علة كون بعض آيات القرآن متشابهة؟ لماذا لم تكن جميع آيات القرآن محكمة؟
- النقطة الأولى:
مع قليل من الدقة، يتضح أنّه لا يوجد أدنى تنافٍ وتناقض بين الآية الأولى في سورة هود: (ألم كتاب أحكمت آياته ثمّ فُصِّلت من لدن حكيم خبير)، والآية 23 من سورة الزمر (الله نزَّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً...)، والآية السابعة من سورة آل عمران: (... منه آيات محكمات هنَّ أُمّ الكتاب وأُخر متشابهات...) لأنّ المقصود من محكم وإحكام وإستحكام جميع آيات القرآن المجيد الذي طرح أيضاً في الآية الأولى من سورة هود، هو أنّه لا يوجد أدنى شك وتردد في صحتها وانتسابها إلى الوحي الإلهي. والمقصود من تشابه جميع آيات القرآن الذي جاء في سورة الزمر هو أنّ جميع آيات القرآن تشبه بعضها البعض في الإستحكام والسلاسة والبلاغة والحلاوة وعدم المشابهة مع كلام المخلوق والنفاذ في القلوب والتأثير على الإنسان، وعظمة الكلام وغير ذلك.
والمقصود من أحكام بعض الآيات وتشابه القسم الآخر الذي ذكر في سورة آل عمران، هو إستحكام وتشابه مدلول الآيات. بناءً على هذا، لا يوجد أدنى تعارض بين هذه الآيات الثلاث. ويمكن أن يقال أيضاً أنّه عندما قال تعالى إنّ آيات القرآن محكمة لم يكن المراد جميع الآيات، وعندما قال تعالى إنّ جميع الكتاب متشابه فالمراد بعض الآيات، والآية التي هي مورد بحثنا شاهد ودليل على هذا الجمع والتفصيل.
- النقطة الثانية:
المقصود من إحكام هذه الآية هو عدم وجود تشابه في محتواها، وكل عقل سليم يدرك ذلك ويعتبره صحيحاً. وبعبارة أخرى، فإنّ مدلول الآية واضح جدّاً وبيِّن. القرآن المجيد ذكر في سورة الإسراء من الآية 21 حتى الآية 38 مسائل من قبيل لزوم الإحسان للوالدين والوفاء بالعهد ولزوم الإجتناب عن الزنا وبخس الكيل وقتل الأولاد والتجاوز على مال اليتيم والتبذير، ثمّ قال: (ذلك مما أوحى إليك ربّك من الحكمة...) أي أنّ حسن هذه الأعمال وقبح تلك الأعمال واضح للجميع ولا يوجد فيها أي تردد. بناءً على هذا، فإنّ كل الآيات التي تدل على وجود خالق للعالم هي من المحكمات، والآيات التي تدل على قبح الكذب والخيانة والسرقة هي أيضاً محكمة، بخلاف الآيات المرتبطة مثلاً بالإرث والتفاوت بين الورثة، حيث لا يستطيع أي شخص أن يدرك الحكمة من تشريعها، لذلك يمكن أن نعتبر هذه الآيات متشابهة.
- النقطة الثالثة:
المقصود من تشابه الآية هو أنّ المعنى الظاهري للآية، الذي هو مدلول ألفاظها، ليس قابلاً للفهم والإدراك بالنسبة إلى عامة الناس، بل هو مورد للتردد والسؤال أو هو أصلاً غير قابل للتصديق مثل آية (الرحمن على العرش استوى) (طه/ 5)، وآية (... يد الله فوق أيديهم) (الفتح/ 10)، وآية (إلى ربّها ناظرة) (القيامة/ 23). ففي هذه الآيات المباركة إذا قلنا أنّ لازم المعنى الظاهري لمدلول الألفاظ أنّ الله جسم وله يد وأنّه قابل للرؤية بواسطة عين الإنسان، فإنّ هذه المعاني غير قابلة للتصديق، لذلك فإنّ هذه الآيات هي من المتشابهات.
طبعاً يُعلم مع الدقة أنّه قد ظهرت في قالب هذه الألفاظ والأمثلة قدرة الله العزيز وتسلطه على كل الكائنات وكذلك الإلتفات الخاص لعباده في يوم الجزاء إلى ذاته التي لا شبيه لها. ولكن هذه المعاني الواضحة قد وضعت وراء حجاب الإبهام وقد سُترت واقعيتها مع أوهام الخطأ واشتبهت مع تلك المعاني غير القابلة للتصديق.
فالمعاد الجسماني وحياة الإنسان يوم القيامة مسائل كان يستبعدها الكفّار لأن فهمها وإدراكها كان صعباً بالنسبة إليهم. فقد كانوا يقولون (هيهات هيهات لما توعدون) (المؤمنون/ 36). كما أنّ النبي موسى على نبينا وآله وعليه السلام، أنكر أعمال الخضر (ع) العبد الصالح ولامه بقوّة، ولكن عندما وجّهها الخضر التوجيه الصحيح وأوّلها للنبي موسى (ع)، خرجت تلك الأعمال من التشابه فأيَّدها النبي موسى (ع). لذلك عندما يقول بعض العلماء المتشابه هو بالمعنى مجمل "والصيغة الناقصة للألفاظ في الدلالة على المعنى المشخص هي منشأ للتشابه"، فإنّ هذا الكلام وهمي وغير صحيح، بل إنّ المتشابهات هي التشابه الوضعي العارض على المدلول المشخص لألفاظ الآيات.
- النقطة الرابعة:
التأويل مشتق من أوّل بمعنى رجع (... ذلك خير وأحسن تأويلاً) (الإسراء/ 35) أي أنّ نتيجة وعائدة ذلك العمل أفضل.
الخضر على نبينا وآله وعليه السلام بعد أن بَيَّن العلة والوجه الصحيح لأعماله، قال: (... ذلك تأويل ما لم تسطِع عليه صبراً) (الكهف/ 82)، لذلك فإنّ كل واقع ووجود خارجي ليس تأويلاً، مثلاً الوجود الخارجي لزيد ليس تأويلاً لمفهوم زيد، بل إنّ التأويل هو الشيء الذي ثبت واتضح صدقه وحقانيته وصحّة مفهومه ومدلول لفظه ووجهه، لذلك إذا أطلق التأويل على تحقق القيامة (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله...) (الأعراف/ 53)، فهو من جهة إنّ وقوع الأمر الذي يعتبر بنظر الكفار بعيداً، واضحة صحّته وحقيقته.
التعبير عن الرؤيا سُمِّي تأويلاً في القرأآن الكريم، فسجود يعقوب (ع) وزوجته وأولاده الأحد عشر أمام النبي يوسف (ع) هو تأويل للرؤيا التي رآها يوسف (ع) (... هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربِّي حقّاً...) (يوسف/ 100).
- النقطة الخامسة:
المفسِّر العالي المقام الأستاذ العلامة الطباطبائي (رضوان الله تعالى عليه)، قال: "للمحكمات تأويل أيضاً"، وأعطى هذا التوضيح: "إذا طلب مسؤول من عامله أن أحضر لي الماء يكتشف من هذا الطلب أنّه عطشان والعطش ملازم عادة للشبع من الطعام، والشبع من الطعام لازم للحاجة إلى البقاء وحفظ الوجود وهذا أيضاً ملازم لعشق الكمال فهذه اللوازم هي معنى تأويل هذا الأمر".
والحقيقة أنّه ولو لم نكن نستطيع أن ننكر ملازمة هذه الأمور وكشفها عن أمور أخرى إلا أنّنا لا نستطيع أن نُسمِّيها تأويلاً، لأنّها ليست أشياء مخفية تحتاج إلى رفع الحجاب عنها. ونحن لا نجد في أي مكان من القرآن كلمة التأويل قد استعملت في مورد المحكمات سوى في الآية الشريفة (وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلاً) (الإسراء/ 35)، فقد استعمل التأويل في مورد المحكمات هنا لأنّه لا تشابه وتردد في وجودب إيفاء الكيل والوزن بالقسطاس.
ولكن يجب القول إنّه حتى في هذه الآية لم يستعمل التأويل في مورد المحكمات، وتوضيح ذلك: إنّ أهل الدنيا والأشخاص الماديين يترددون في صحّة وحسن هذه الأعمال ويبررون عملهم القبيح أي البخس في الميزان بقولهم: إذا لم نفعل هكذا لن نستطيع أن نحصل على الإنتفاع الذي نؤمِّن به حياتنا.
على كل حال، لا شكّ أنّ للآيات المحكمات في القرآن معاني ولوازم دقيقة ولطائف رقيقة وعمقاً لا نهاية له، كما قال أمير المؤمنين (ع) في وصف القرآن: "بحر عميق لا يدرك قعره". أمّا كلامنا، فهو أنّه بأي دليل نُسمِّي هذه اللوازم الدقيقة تأويلاً؟
- النقطة السادسة:
ذلك الذي ذُمَّ في الآية المباركة في سورة آل عمران هو ابتغاء التأويل وابتغاء الفتنة الذي خصت بأهل الزيغ والإنحراف، وواضح أنّ هؤلاء الأشخاص لا يرجعون للحصول على التأويل إلى محكمات القرآن ولا إلى المفسِّرين المعصومين للقرآن "الرسول (ص) والأئمة (ع)"، وإلا فإنّ التدبير في القرآن وإزالة الإختلاف ليس مذموماً مع الرجوع إلى الآيات المحكمات وأيضاً إلى الرسول (ص) والأئمة (ع)، بل إنّ هناك أمراً بذلك.
فالراسخون في العلم هم الأئمة (ع) بعد النبي (ص) الذين لم يكن – وليس لديهم – حاجة للتعمق في الآيات المحكمات وفي المدلول المتشابه للآيات لأنّ علمهم علم ربوبي ولدُني.
- النقطة السابعة:
من علل عروض التشابه بُعد واقع بعض المطالب والمفاهيم عن ذهن عامة الناس مثل صفات الله تعالى، خصوصيات المعاد وملاكات الأحكام وأمثالها، فلإلقاء هكذا معانٍ أو تقريبها لإدراك المخاطبين يلجأ المتكلم إلى الوسائل السهلة واليسيرة والمعمول بها بين العقلاء مثل ضرب الأمثال.
القرآن المجيد يُبيِّن واقع التوحيد والإسلام والعمل الصالح واستمرار العطاء وإتيان الثمر وعلة هذا الأمر بهذه الكيفية: العمل الصالح شجرة أصلها ثابت ومستقر في عمق الأرض وفروعها ممتدة في السماء، وهذه الشجرة مصونة ومحفوظة من يبوس أصلها ومن الحرمان من النور، ولذلك فهي دائماً خضراء ويانعة ومثمرة.
وفي مكان آخر يُبيِّن قدرة خالق العالم في قالب (اليد التي هي فوق الأيادي)، ويفهم تسلطه على كل الكائنات بتعبير (استوى على العرش).
طبعاً هذه الوسيلة البيانية بالإضافة إلى مساعدتها على إفهام وإدراك المعاني والأسرار اللطيفة والدقيقة للأفراد المنحرفين، فإنّها تقود إلى إشكالات وتؤدِّي إلى ضياعهم، وهذا الضياع يكون عندما لا يلتفتون إلى الآيات المحكمات ويتمسّكون بالآيات المتشابهة لإيجاد الفتن وعبادة الهوى (إنّ الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها فأمّا الذين آمنوا فيعلمون أنّه الحق من ربّهم وأمّا الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضلّ به إلا الفاسقين) (البقرة/ 26).
والخلاصة أنّ بعض المطالب ليست قابلة للبيان في القوالب اللفظية التي هي الوسيلة الوحيدة للتفهيم. وإذا كانت قابلة، فالمصلحة بألا تبين بشكل صريح.
المصدر: مجلة نور الإسلام/العدد 31و32 لسنة 1992م
ارسال التعليق