• ١٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ضعف الإنسان في قوته

أ. د. عبد الكريم بكّار

ضعف الإنسان في قوته

إنّ الله – سبحانه وتعالى – زوَّد الإنسان باستعدادات كبيرة للإفادة من كلِّ ما حوله فيما يخدم وجوده على هذه الأرض؛ وإنّ ما نشاهده اليوم من إنجازات تقنية مذهلة ومتتابعة قد زادت في سلطان الإنسان، ووسَّعت مجاله الحيوي على نحو لم يكن يمكن تخيله في يوم من الأيام. وإلى جانب هذا هناك نور ساطع ومستمر يضيء (داخل الإنسان) ويعمل على توجيه حركته وضبطها كي تظل القوة التي بين يديه خاضعة لسلطة الأخلاق والمبادئ، لكن الذي ثبت عبر ما لا يحصى من الشواهد أنّ الإنسان يظل مرتكباً في إدارة القوة التي يحصل عليها، وهذا تعبير ملطَّف حيث إنّ الحقيقة أنّ القوة التي بذل الإنسان وقته وماله وجهده كي يحوزها، كثيراً ما تُفسده وتغريه بالعدوان والظلم والبغي والكبر وكسر القيم والمبادئ الأخلاقية السامية، أي أنّ معظم الناس لم يستطيعوا تسجيل نجاحات تذكر في حماية أنفسهم من القوة التي يتمتعون بها، وهذا شيء مؤسف للغاية! إنّ القرآن الكريم تحدث عن هذه السنة بقوله: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (الشورى/ 27)، قال ابن كثير: أي: (لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض أشراً وبطراً، ولكن يرزقهم من الرزق ما يختاره مما فيه صلاحُهم، وهو أعلم بذلك، فيُغني من يستحق الغنى ويُفقر من يستحق الفقر). والحقيقة أنّ القوة بكلِّ معانيها تحرِّض الإنسان على البغي والطغيان وتستحثه على التوسع على حساب الآخرين، كما تستحثه على استغلالهم، وتلك القوة قد تتجلى في المال، وقد تتجلى في السلطان والنفوذ والشرف والمنصب والجمال وفصاحة اللسان والمعرفة... إنّ أي قدر زائد عن المألوف والمتاح لمعظم الناس في أيِّ لون من ألوان القوة، يُشكِّل مصدر إبتلاء لصاحبه ليرى الله – تعالى – عباده كيف يتصرفون في حالات التفوق، وكيف يتصرفون في حالات الإملاق والعسر والوضاعة والانحسار الاجتماعي... والتاريخ والواقع يفيضان بما يصعب حصره من النماذج التي أفسدتها القوة، وقد صدق من قال: إنّ القوة تُسبِّب الفساد، وإنّ القوة المطلقة قابلة للفساد قطعاً. إنّ طموحات الإنسان نحو العيش أكبرَ مدة ممكنة على هذه الأرض، إلى جانب طموحاته في أن يتمتع بخيراتها بأوسع ما يصل إليه خياله من ألوان المتعة، بالإضافة إلى التلذذ بكلِّ ما يمنحه التميز على الآخرين... إنّ هذه المعاني جعلت الإنسان يندفع في كلِّ اتجاه كما يفعل الوحش الكاسر في مطاردة الفريسة، وبذلك صار فعلاً البغي شأناً من شؤونه. ويقول الله – تعالى – في آية أخرى: (كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) (العلق/ 6-8)، إنّه يتجاوز حدوده ويتمدد بمجرد شعوره بالاستغناء والاستقلال، ويذكِّره الله – تعالى – بأنّ عليه أن يتذكر أنّه سيرجع إلى ربه، فيحاسبه على بغيه وطغيانه، ويقتص منه.

من صور البغي والطغيان:

1-   عدم الاعتراف بفضل الله على العبد، مما يدعوه إلى التقصير في الشكر، وهذا من تجاوز حدود العبودية.

2-   التكبر على الناس والاستخفاف بهم.

3-   رد الحقّ وعدم والإذعان له.

4-   رفض النصح والشعور بالكمال الذاتي.

5-   أكل حقوق الناس، أو المماطلة في أدائها.

6-   العدوان على الآخرين بالضرب والأذى.

7-   شتم الناس وسبهم واتهامهم بما ليس فيهم.

8-   تجاوز الموظف للصلاحيات الممنوحة له، أو استغلال الوظيفة لتحقيق أغراض شخصية ومصالح خاصة.

9-   تحميل المرء من ولّاه الله عليهم ما لا يطيقون من المهام والتكاليف.

10-                    إدعاء المرء ما ليس له على الصعيد الأدبي والمادي والاجتماعي.

قد تقولون: كيف نعالج هذا الطبع المتأصل فينا؟

وأقول:

لابدّ في البداية من أن ننمي الوازع الداخلي لدينا كي يردعنا عن البغي والطغيان، وتنميته تكون بمجاهدة النفس من أجل التفاعل معه والاستجابة لأوامره وإشاراته.

علينا أن ننظر إلى ما مكَّننا الله فيه من أشكال القوة على أنّه ابتلاء لنا واختبار لما لدينا من دين وخُلُق، وعلينا أن نحاول النجاح في هذا الاختبار من خلال توظيف ما لدينا من قوة وتفوق ونفوذ في مرضاة الله – تعالى – ونفع العباد ومحاصرة الشرور.

إنّ الوعظ مهما كان بليغاً، فإنّ في مجتمعاتنا شريحة واسعة، لا تتوقف عن ممارسة الظلم والبغي إلا إذا اصطدمت بحواجز إسمنتية عالية وقوية، ولهذا فإنّ عدالة القضاء وتطبيق النظم بفاعلية بالإضافة إلى إتاحة الفرصة الكاملة لأن يقوم الجميع بمراقبة الكلّ... ذات تأثير فعّال في كبح البغي، فالناس يخشون من الفضيحة، ويحرصون – في الغالب – على ألا تتعرض سمعتهم للتشويه.

على كلِّ واحد منا مهما كان عمله وموقعه أن ينظر إلى من يخالفه ويناقشه ويعارضه... على أنّه يقوم بعمل إيجابي جدّاً، وذلك لأنّه يردعه عن الظلم والتمادي في الخطأ؛ وعلينا أن نتذكر أنّ الكثير من البغي والظلم يقع بسبب تساهل الناس في حقوقهم، وبسبب عدم قيامهم بالأمر بالمعروف والنعي عن المنكر، وإنّ حماية المجتمع من الظلم والفساد المالي والإداري، تتطلب أن يشعر كلُّ واحد منّا أنّه يتحمل جزءاً من مسؤولية سلامة المجتمع وصلاحه.

 

المصدر: كتاب هي.. هكذا (كيف نفهم الأشياء من حولنا)/ ثلاثون سنّة إلهية في الأنفس والمجتمعات

ارسال التعليق

Top