• ٢٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحج كمال العبودية

الحج كمال العبودية
◄أعلم انّ أوّل الحج: الفهم، اعني فهم موقع الحج من الدين، ثمّ الشوق إليه، ثمّ العزم عليه، ثمّ قطع العلائق المانعة منه، ثمّ شراء ثوب الإحرام، ثمّ شراء الزاد، ثمّ اكتراء الراحلة، ثمّ الخروج، ثمّ المسير في البادية.. ثمّ استتمام أفعال الحج. أما الفهم، اعلم انّه لا وصول إلى الله سبحانه وتعالى إلا بالتنزه عن الشهوات، والكف عن اللذات، والاقتصار على الضروريات فيها، والتجرد لله سبحانه في جميع الحركات والسكنات.. فلما أقبل الخلق على اتباع الشهوات وهجروا التجرد لعبادة الله عزّ وجلّ وفتروا عنه، بعث الله عزّ جلّ نبيه محمداً (ص) لإحياء طريق الآخرة، وتجديد سنة المرسلين في سلوكها.. فأنعم الله عزّ وجلّ على هذه الأمّة بأن جعل الحج رهبانية لهم، فشرف البيت العتيق بالإضافة إلى نفسه تعالى.. ووضعه على مثال حضرة الملوك، يقصده الزوار من كل فج عميق، ومن كل أوب سحيق، شعثاً غبراً متواضعين لرب البيت، ومستكينين له، خضوعاً لجلاله واستكانة لعزته، مع الاعتراف بتنزيهه عن أن يحويه بيت، أو يكتنفه بلد، ليكون ذلك أبلغ في رقهم وعبوديتهم، وأتم في إذعانهم وانقيادهم، ولذلك وظف عليهم فيها أعمالاً لا تأنس بها النفوس، ولا تهتدي إلى معانيها العقول، كرمي الجمار بالأحجار، والتردد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار. وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية.. فإنّ الزكاة إرفاق وجهه مفهوم وللعقل إليه ميل، والصوم كسر للشهوة والتي هي آلة عدو الله، وتفرغ للعبادة بالكف عن الشواغل. والركوع والسجود في الصلاة تواضع لله عزّ وجلّ بأفعال هي هيئة التواضع، وللنفوس أنس بتعظيم الله عزّ وجلّ، فأما ترددات السعي ورمي الجمار وأمثال هذه الأعمال فلا حظ للنفوس ولا أنس فيها ولا اهتداء للعقل إلى معانيها، فلا يكون في الإقدام عليها باعث إلا الأمر المجرد، وقصد الامتثال للأمر من حيث إنّه أمر واجب الاتباع فقط، وفيه عزل للعقل عن تصرفه، وصرف النفس والطبع عن محل أنسه، فإن كل ما أدرك العقل معناه مال الطبع إليه ميلا ما، فيكون ذلك الميل معيناً للأمر وباعثا معه على الفعل، فلا يكاد يظهر به كمال الرق والانقياد، ولذلك قال (ص) في الحج على الخصوص: "لبيك بحجة حقا تعبدا ورقا" ولم يقل ذلك في صلاة ولا في غيرها.. وإذا اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى ربط نجاة الخلق بأن تكون أعمالهم على خلاف هوى طباعهم، وأن يكون زمامها بيد الشرع، فيترددون في أعمالهم على سنن الانقياد وعلى مقتضى الاستعباد، كان مالا يهتدي إلى معانيه أبلغ أنواع التعبدات في تزكية النفوس وصرفها عن مقتضى الطباع إلى مقتضى الاسترقاق، وإذا تفطنت لهذا فهمت أن تعجب النفوس من هذه الأفعال العجيبة مصدره الذهول عن أسرار التعبدات. وهذا القدر كاف في تفهم أصل الحج إن شاء الله تعالى. وأما الشوق، فإنما ينبعث بعد الفهم والتحقق بأنّ البيت بيت الله عزّ وجلّ، وانّه وضع على مثال حضرة الملوك، فقاصده قاصد إلى الله عزّ وجلّ و زائر له... فالشوق إلى لقاء الله عز وجل يشوقه إلى أسباب اللقاء لا محالة، هذا مع أنّ المحب مشتاق إلى كل ماله إلى محبوبه إضافة، والبيت مضاف إلى الله عزّ وجلّ فبالحري أن يشتاق إليه لمجرد هذه الإضافة فضلاً عن الطلب لنيل ما وعد عليه من الثواب الجزيل. وأما العزم، فليعلم أنّه بعزمه قاصداً إلى مفارقة الأهل والوطن، ومهاجرة الشهوات واللذات متوجهاً إلى زيارة بيت الله عزّ وجلّ، وليعظم في نفسه قدر البيت وقدر رب البيت، وليعلم أنّه عزم على أمر رفيع شأنه، خطير أمره، وأن من طلب عظيماً خاطر بعظيم، وليجعل عزمه خالصاً لوجه الله سبحانه وتعالى بعيداً عن شوائب الرياء والسمعة، وليتحقق أنّه لا يقبل من قصده وعمله إلا الخالص، وإنّ من أفحش الفواحش أن يقصد بيت الله وحرمه والمقصود غيره، فليصحح مع نفسه العزم، وتصحيحه بإخلاصه، وإخلاصه باجتناب كل ما فيه رياء وسمعة، فليحذر أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. وأمّا قطع العلائق، فمعناه: رد المظالم والتوبة الخالصة لله تعالى على جملة المعاصي، فكل مظلمة علاقة، وكل علاقة مثل غريم حاضر متعلق بتلابيبه ينادي عليه ويقول: إلى أين تتوجه؟ أتقصد بيت ملك الملوك وأنت مضيع أمره في منزلك هذا، ومستهين به ومهمل له؟ أو لا تستحي أن تقدم عليه قدوم العبد العاصي، فيردك ولا يقبلك؟ فإن كنت راغباً في قبول زيارتك، فنفذ أمره، ورد المظالم، وتب إليه أوّلاً من جميع المعاصي، واقطع علاقة قلبك عن الالتفات إلى ما وراءك لتكون متوجهاً إليه بوجه قلبك كما أنه متوجه إلى بيته بوجه ظاهرك، فإن لم تفعل ذلك لم يكن لك من سفرك أولاً إلا النصب والشقاء، وآخراً إلا الطرد والرد. وأما الزاد، فليطلبه من موضع حلال، وإذا أحس من نفسه الحرص على استكثاره وطلب ما يبقى منه على طول السفر، ولا يتغير ولا يفسد قبل بلوغ المقصد فليتذكر أن سفر الآخرة أطول من هذا السفر، وأن زاده التقوى، وأن ما عداه مما يظن أن زاده يتخلف عنه عند الموت ويخونه فلا يبقى معه كالطعام الرطب الذي يفسد في أول منازل السفر، فيبقى وقت الحاجة متحيراً محتاجاً لا حيلة له.. فليحذر أن تكون أعماله التي هي زاده إلى الآخرة لا تصحبه بعد الموت، بل يفسدها شوائب الرياء وكدورات التقصير. وأما الراحلة، إذا أحضرها فليشكر الله بقلبه على تسخير الله عزّ وجلّ له الدواب لتحمل عنه الأذى، وهي: الجنازة التي يحمل عليها، فإنّ أمر الحج من وجه يوازي أمر السفر إلى الآخرة، ولينظر أيصلح سفره على هذا المركب لأن يكون زاداً له لذلك السفر على ذلك المركب؟ فما أقرب ذلك منه، وما يدريه لعل الموت قريب، ويكون ركوبه للجنازة قبل ركوبه للجمل، وركوب الجناة مقطوع به، وتيسر أسباب السفر مشكوك فيه، فكيف يحتاط في أسباب السفر المشكوك فيه، ويستظهر في زاده وراحلته ويهمل أمر السفر المستيقن؟ وأما شراء ثوبي الإحرام، فليتذكر عنده الكفن ولفه فيه، فإنّه سيرتدي ويتزر بثوبي الإحرام عند القرب من بيت الله عزّ وجلّ وربما لا يتم سفره إليه، وأنّه سيلقى الله عزّ وجلّ ملفوفاً في ثياب الكفن لا محالة، فكما لا يلقى بيت الله عزّ وجلّ إلا مخالفاً عادته في الزي والهيئة فلا يلقى الله عزّ وجلّ بعد الموت إلا في زي مخالف لزي الدنيا، وهذا الثوب قريب من ذلك الثوب، إذ ليس فيه مخيط كما في الكفن. وأما الخروج من البلد، فليعلم عنده انّه فارق الأهل والوطن متوجهاً إلى الله عزّ وجلّ في سفر لا يضاهي أسفار الدنيا، فليحضر في قلبه أنّه ماذا يريد، وأين يتوجه، وزيارة من يقصد، وأنّه متوجه إلى ملك الملوك في زمرة الزائرين له، الذين نودوا فأجابوا، وشوقوا فاشتاقوا، واستنهضوا فنهضوا وقطعوا العلائق، وفارقوا الخلائق، وأقبلوا على بيت الله عزّ وجلّ الذي فخم أمره، وعظم شأنه ورفع قدره، تسليا بلقاء البيت عن لقاء رب البيت إلى أن يرزقوا منتهى مناهم. وليحضر في قلبه رجاء الوصول والقبول لا إدلالاً بأعماله في الارتحال ومفارقة الأهل والمال، ولكن ثقة بفضل الله عزّ وجلّ ورجاء لتحقيقه وعده لمن زار بيته، وليرج أنّه إن لم يصل إليه وأدركته المنية في الطريق لقي الله عزّ وجلّ وافدا إليه، إذ قال جلّ جلاله (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ...) (النساء/ 100). وأما دخول البادية إلى الميقات، ومشاهدة تلك العقبات فليتذكر فيها ما بين الخروج من الدنيا بالموت إلى ميقات يوم القيامة وما بينهما من الأهوال والمطالبات. وليتذكر من هول قطاع الطرق هول سؤال منكر ونكير، ومن سباع البوادي عقارب القبر وديدانه وما فيه من الأفاعي والحيات، ومن انفراده من أهله وأقاربه وحشة القبر وكربته ووحدته، وليكن في هذه المخاوف في أعماله وأقواله متزودا لمخاوف القبر.   المصدر: مجلة الضياء/ العدد 31 لسنة 1993م

ارسال التعليق

Top