• ٦ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العرب وفجوة العقل الإعلامي

عبدالحليم حمود

العرب وفجوة العقل الإعلامي

تعني فجوة العقل الإعلامي وجود رؤى نظريّة عدّة في حقل الإعلام، تتباين أسبابها وتداعياتها لدى علماء الاتصال والإعلام والممارسين الإعلاميين وجمهور المتلقين، وفي إطار المحاولات الدؤوبة، التي تقودها القوى المتحكمة في السوق العالمية من أجل عولمة الثقافة والتعليم والدين.

في ظل الصراع الثقافي، والتحديات الحضارية، تبرز فجوة العقل الإعلامي، حيث لم تعدّ تكنولوجيا الاتصال والمعلومات تشغل موقعاً مركزياً فحسب في شبكة الإنتاج، بل أصبحت تشغل موقع القلب في إستراتيجية إعادة تشكيل منظومة العلاقات الدولية على المستوى السياسي بين الحكومات، وذلك بالترويج لما يُسمّى بـ"الشرعية الدولية" ومعاييرها المزدوجة. وعلى المستوى الثقافي بين الثقافات المختلفة بإعلاء شأن الثقافة الغربية، وعلى الأخص الطبعة الأمريكية منها، وتهميش ثقافات الجنوب. وعلى المستوى الاتصالي بالترويج لما يُسمّى "القرية الاتصالية العالمية"، متجاهلاً عن عمد التفاوت الحاد بين معدلات التطوّر الإعلامي والمعلوماتي بين أجزاء العالم شمالاً وجنوباً، سواء تمثل ذلك في تكنولوجيا المعلومات والاتصال، أو في الإشعاع الإعلامي والمعلوماتي.

وتتجلّى فجوة العقل الإعلامي في ثلاثة مجالات رئيسيّة:

أوّلاً: تعددية الرؤى الفلسفية والنظرية في هذا الحقل المعرفي المهم.

ثانياً: تنوّع الممارسات المهنية في وسائل الإعلام المقروء والمرئي والمسموع.

ثالثاً: طبيعة الجمهور المتلقي، والتي تزخر بكثير من التباينات الاقتصادية والثقافية والديموجرافية، علاوة على تعدد مستويات الوعي السياسي والاجتماعي.

وتحفل الساحة الغربية (الأوروبية والأمريكية) بالعديد من التيارات والرؤى النظرية، التي توجه بحوث الإعلام والاتصال، فهناك الرؤية الوظيفية البراجماتية، التي سادت في الولايات المتحدة خلال أربعة عقود، ومازالت مسيطرة على معظم الباحثين ودارسي الإعلام في دول الجنوب، وعلى الأخص العالم العربي، وتعتمد على المنظور الإمبيريقي المعزول عن سياقاته الاجتماعية والثقافية، وترى أنّ الإعلام هو أداة التحديث في المجتمعات النامية، فيما يرى أنصار التيار النقدي الذي انبثق من التراث النقدي للفكر الاجتماعي الأوروبي، أنّ سيطرة الإعلام الغربي على وسائل الإعلام في دول الجنوب، تعد إحدى أدوات الاستعمار الثقافي الذي يروِّج لأساليب الحياة، والقيم الغربية، ويحاول فرضها على مجتمعات الجنوب.

ويؤكد هذا التيار أنّ الإعلام يثير إشكالية تتمثل في كونه يلعب دوراً مزدوجاً سواء على الصعيد الدولي أو المحلي، إذ يمكن أن يعبّر عن الهيمنة الكونية للغرب، ويمكن أن يكون وسيلة لإحياء وإنعاش الثقافات القومية في الوقت ذاته. كما يمكن استخدامه أداة للضبط الاجتماعي وتكريس التبعية الثقافية في دول الجنوب. ويحرص الباحثون المنتمون إلى التيار النقدي على تأكيد الحقيقة، التي تشير إلى أنّه لا توجد نظرية للاتصال بمعزل عن النظرية الاجتماعية العامّة. ولذلك يركّز أنصار هذا التيار النقدي على دراسة الظواهر الإعلامية والاتصالية في إطار السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي الذي أفرزها وتفاعل معها.

وهناك الرؤية الماركسية، التي تؤكد على مخاطر سيطرة رأس المال على الإعلام وهيمنة ثقافة وفكر الطبقات المسيطرة سياسياً واقتصادياً على السياسات والممارسات الإعلامية، بينما يركز أنصار التيار الليبرالي على دور القائمين بالاتصال، باعتبارهم منتجي المادة الإعلامية وحرّاس البوابات، ويتأثرون بتوجيهات صُنّاع القرار في المؤسسة الحاكمة ومصالح القوى الاقتصادية والمتحكّمة في السوق، ويؤثرون بصورة حاسمة في تشكيل اتّجاهات وقيم الجمهور والرأي العام.

ويعزى هذا الخليط النظري والمنهجي الذي يتميّز به حقل الإعلام والاتصال إلى الظروف التي صاحبت نشأته، فقط ظل هذا الحقل حتى بداية الستينيات موضع ارتياد وهجرة العديد من الباحثين، الذين ينتمون لمختلف فروع العلوم الاجتماعية والإنسانيات (السياسة، علم النفس، علم الاجتماع، اللغويات، التاريخ... إلخ)، ولذلك - وكما لاحظ والبور شرام العام 1980 - ، ظلّ هذا الحقل مجرد إطار تجمّعي للتخصصات المختلفة أكثر منه تخصصاً مستقلاً له مداخله النظرية وأساليبه المنهجية وأدواته التحليلية، وقد ترتّب على ذلك عدم ظهور بنية بحثية مستقلة لهذا الفرع المعرفي، ولكن بدأ هذا الوضع يتغيّر تدريجياً منذ نهاية السبعينيات، عندما بدأت حركة المراجعة لهذا التخصص.

وقد ساعد اكتشاف نظم الاتصال ذات التأثير المتبادل، واتساع الرقعة الجغرافية للبحوث الإعلامية، وتشابك الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية، على تحرير بحوث الاتصال من هيمنة النظرية الرياضية، التي تتمثل في النماذج الهندسية المغلقة، والتي ظلّت تحظى بتأثير ملحوظ على امتداد عقود زمنيّة عدّة، كما تركت بصماتها على العديد من التخصصات، مثل علم النفس واللغويات والاجتماع.

ومن أهم أوجه النقد، التي وجهت إلى هذا النموذج الهندسي، غلبة الطابع الإجرائي على حساب الجوانب النظرية، ممّا ترتب عليه استبعاد السياق الذي تجري في إطاره العمليات الاتصالية، وانتشار المناهج الكمّية، التي لاتزال تسيطر حتى اليوم على معظم بحوث الاتصال والإعلام، وذلك بالرغم من تصاعد الاهتمام بالمناهج ذات الطابع التحليلي، والمستندة إلى أُطر نظرية، والتوسّع في استخدامها في السنوات الأخيرة.

- الأداء الإعلامي:

تتجلّى فجوة العقل الإعلامي على الصعيد الأدائي في مجالي السياسات والممارسات الإعلامية عالمياً ومحلياً، وتعزى أساساً إلى أسباب عدّة، أبرزها:

1- الصراع التاريخي بين الصحفيين من ناحية، والقائمين على السلطة، وأعني بها كلّ أنواع السلطة (الاجتماعية والاقتصادية والسياسية)، في مختلف المجتمعات والعصور، ويرجع ذلك إلى التناقض الجذري بين مصالح هؤلاء المتسلطين وبين جوهر مهنة الصحافة، التي تستهدف تقصي ونشر كلّ صور وأشكال الفساد وسوء الإدارة والظلم الاجتماعي والقهر السياسي، ممّا يصطدم غالباً بمصالح السلطة، التي لا تتوانى عن اللجوء إلى العنف المباشر الذي يصل إلى حدِّ السجن والاغتيال والنفي من الأوطان للصحفيين.

2- الفجوة بين التعليم والبحث العلمي الأكاديمي في حقل الإعلام، وبين الممارسة المهنية وضوابطها السياسية والاجتماعية، وضغوطها وإغراءاتها الاقتصادية.

3- العامل الدولي والذي يكمن في تركة التبعية الإعلامية (القيم الإخبارية، المسلسلات والمنوعات والإعلانات)، فضلاً عن عدم التوازن في انسياب المعلومات من الشمال إلى الجنوب، ورسوخ الاتّجاه الرأسي أحادي الجانب للإعلام القادم من أعلى إلى أسفل من المراكز الدولية المهيمنة على التكنولوجيا الاتصالية والمعلوماتية ومصادر المعرفة والتراث الإعلامي إلى الأطراف الأفقر في الجنوب، ومن الحكومات إلى الأفراد والشعوب، ومن الثقافة الغربية المسيطرة إلى الثقافة التابعة في الجنوب.

تتجلّى فجوة العقل الإعلامي في المواقع الهامشية، التي يشغلها جمهور المتلقين، حيث تتعامل معهم وسائل الإعلام باعتبارهم مستهلكين، وليسوا مشاركين أو محاورين، وتستند في ذلك إلى النظرة التقليدية إلى الاتصال، التي تعمد إلى إفراغه من محتواه كعملية اجتماعية، وذلك بقصر أدواره على الوظيفة الإعلامية ذات الطابع الإقناعي الدعائي في أغلب الأحيان، وذات الاتّجاه الرأسي الأحادي.

ولا شك أنّ الطابع الاجتماعي للاتصال، باعتباره أحد وجوه التعبير عن الحرّية بمعناها المتكامل، يطرح ضرورة توافر فرص متكافئة لضمان وتفعيل الحقوق الاتصالية للأفراد والجماعات والدول، كما يؤكد أنّ ديمقراطية الاتصال ليست مسألة فنّية فحسب، كي تترك في أيدي الإعلاميين والمعلوقراطيين (سواء الممارسون أو الأكاديميون)، وإنّما هناك ضرورة لتحقيق ديمقراطية الاتصال من خلال إشتراك الجمهور في صنع السياسات الإعلامية والمعلوماتية على مختلف المستويات.

 

المصدر: كتاب الإعلام التضليلي (دور الدعاية والإعلان الغربية في تشويه صورة الإسلام) 

ارسال التعليق

Top