إذا كان الإنسان كائناً اجتماعياً، فالمجتمع هو أيضاً نسيج من العلاقات الإنسانية، وبتعبير آخر، فإنّ المجتمع يوجد في الوقت الذي توجد فيه الاتصالات والعلاقات بين العناصر والعوامل المختلفة، وهذه الحقيقة طالما شغلت علماء الاجتماع، ويمكن صياغتها بالسؤال التالي: ما هو عامل إيجاد العلاقات في المجتمع؟ وما هي الحاجات الأولية، والحاجات الثانوية؟ وفي النتيجة ما هي القيم الأفضل؟
البعض أراد تقليل أهمية مبنى العلاقات الإنسانية إلى مستوى إرضاء الحاجات الأولية، ويفسر ميول البشر بعضهم إلى البعض الآخر بمستوى سد الحاجات، ويعتبر هذا الأمر هو الهدف النهائي لانسجام المجتمع. أما النظريات السائدة اليوم في علم الاجتماع، فإنّها في الغالب تؤكد على أنّ كثيراً من الحاجات الأولية تشكّل ركناً أساسياً في ميول البشر لتكوين الاتصالات، ولكن المهم هو انّ طبيعة اتصالات البشر، لا تبقى في مستوى سد الحاجات الجسدية، بل ترتفع إلى مرتبة "الحب" اللانهائية والواسعة، وهذا التكافل في طبيعة الاتصالات، هو في حدود إرادة الإنسان، وبالنتيجة فإنّ حركته بإتجاه الهدف، والقيام بالعمل، تنطلق من طبيعة ميله وحبه لذلك الموضوع. وهذا المدعى يمكن اثباته من خلال بسط الحقائق اليومية للحياة، على النحو الذي إذا كان فيه الإنسان غير متعلق بشيء خاص، فإنّه لا يسعى مطلقاً للوصول إليه. ومن ناحية أخرى، يجب الأخذ بنظر الاعتبار بأنّ مقولة الحب في أريكة الايديولوجيات والثقافات المتنوعة، أخذت معنى خاصاً، ولها مشهد متميز. وطبيعي فإنّ ماهية العلاقات في الثقافة الدينية، هي علاقة وليدة القيم القائمة على قبول قادر مطلق للكون. وفي نفس الإتجاه، فإنّ القيم هي التي تحدد نوعية العلاقات وإتجاهها وحدودها. ويستنبط من الآيات والأحاديث، بأنّ علاقة الإنسان بالله تعالى، هي علاقة "يحبهم ويحبونه"، أي العلاقة على أساس الحب.
يقول الإمام جعفر الصادق (ع): "هل الدين إلّا الحب والبغض"[1].
أي انّ الدين هو الحب والبغض في الله تعالى. وفي حديث آخر يقول:
"نحن لا نعبد الله إلّا على المحبة، وهذا مقام لا يناله أي أحد"[2].
والتوحيد من وجهة نظر القرآن الكريم، يطرح بمعيار الحب والجذب الداخلي. ومفاد الآيات القرآنية وبعض الأحاديث القدسية (سيرة الأنبياء والأئمة)، تؤكد على هذه النقطة، وهي انّ شرط الوصول للقاء الله تعالى هو حصر الإنسان لميله وحبه بالله تعالى فقط، ولا يحب ولا يعشق سوى الله تعالى، فالاستقرار الظاهري والباطني للإنسان هو في علاقته الخالصة بالله تعالى[3].
ومن جهة أخرى، فإنّ الإرادة قائمة على المحبة، وإذا لم ترتبط الإرادة بشيء، فلن يكون هناك نهوض وعمل (كما انّه إذا لم تكن هناك كراهية وبغض فلايوجد تجنّب ووقاية). والإرادة التي هي في طول إرادة الله من ناحية العمل بالتكليف، ستوصل الإنسان إلى مستوى الكمال والفلاح.
وأحد تأكيدات القرآن الكريم جاء على هذه النقطة، وهي انّ عمل أي إنسان لن يمحى، وملف الإنسان يبقى مفتوحاً بعد موته "الباقيات الصالحات"، وبما انّ عمل الإنسان حاضر دائماً (أعني أنّ أثره لن يمحى)، من هنا: يجب أن تكون العلاقة بتكليفه. والقرآن الكريم يوضح هذا الارتباط، وهو أنّ العمل يرتبط بصاحبه:
(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (الإسراء/ 7).
ويقول تعالى:
(وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) (النجم/ 39-42).
ومن هنا، فإنّ عمل الإنسان، هو الذي يحدد طبيعة الأواصر والاتصال بالعالم الخارجي. ومبنى هذا الأصل هو انّ عمل الإنسان إذا كان خيّراً، فإنّه سيحظى ببركات العالم، وسيكون موجوداً مباركاً. وإذا كان سلوكه شريراً وسيّئاً، فلن يرى خيراً من العالم، بل سوف لن يكون له تأثير إيجابي في العالم[4]. وبخصوص عمل الخير يقول سبحانه وتعالى:
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ) (الأعراف/ 96).
ويقول تعالى:
(وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان/ 20).
ووفقاً لذلك، فإنّ الإيمان والتقوى وهما أفضل السلوكيات، يحددان علاقة الإنسان مع العالم الخارجي في البعدين الفردي والاجتماعي.
انّ علاقة التعامل فيما بين المحبة والمعرفة لنيل الكمال، وفي هذا المجال الضيق، فإنّ اتساع المعرفة مع زيادة المعرفة، واشباع النظر مع زيادة الإيمان، والسلوك الفردي (بواسطة دائرة المحاسبة والرقابة) مع تقوى الفرد، وفي النتيجة السلوك الجمعي (عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) مع التقوى الجماعة، هذه كلّها وضمن حركة ولادة، لها علاقة تعاملية مع بعضها. يقول الله تعالى:
(إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) (الأنفال/ 29).
أي: القدرة على تمييز الحقّ من الباطل والصحيح من الخطأ "... أن تتقوا ستحظون بذلك النور. وإن تعملوا بما تعلمون، سيتكشّف لكم ما تجهلون. وإن سرتم بمقدار المقدرة، ستمنحون قدرة تجاوز العقبات الكؤود".
يقول البارئ تعالى بشأن عمل الشر:
(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (الحج/ 31).
هذا هو تأثير العمل السيِّئ للإنسان. "أي عمل عملناه، وكلّ خاطرة خطرت ببالنا، وكلّ أمل زرعناه في قلوبنا، وكلّ كلمة قلناها، وكلّ جملة كتبناها، وكلّ خطوة خطوناها، وكلّ ما قبلناه، أو كلّ لقمة لامست أفواهنا، وجميع أعمالنا وما يرتبط بنا، كلّها إذا كانت سيِّئة، فهي خاصة بنا، وإذا كانت حسنة فإنها خاصة بنا أيضاً".
وعلى أساس ما تقدم، يمكن الاستنتاج بأنّ المدراء في الثقافة الإسلامية، يخصصون أكثر وقتهم للعلاقات مع الناس، وهذه الاتصالات يجب أن لا يكون مبناها المنفعة الإدارية، وفي النتيجة ينظر للإنسان كآلة، بل انّ المدير، يجب أن ينظر للناس على انّهم تجلّيات للحقّ، قابلة للعشق والحب في طول عشق الله تعالى.
العلاقات على أساس الميول:
قيل انّ الحياة هي شبيهة – في الغالب – بشبكة علاقات... شبكات واسعة جدّاً. وحين يقبّل الأب جبين ولده، ويبتسم الطفل لأُمّه، ويرفع التلميذ يده للإجابة على سؤال المعلم، وينظر المستهلك إلى قيمة السلعة، فإنّ كلَّ واحدة من هذه الحركات هي نوع من الاتصال، يجعل البشر على اتصال، البعض بالبعض الآخر، من الصبح وحتى الليل.
إنّ للعلاقات أهمية خاصة، وخاصة اليوم، حيث تُسد حاجات الأفراد بها. فالكتّاب، والخطباء، والمعلمون، والفنانون، يعملون في مجال العلاقات الحِرَفية، بل انّ جميع أفراد المجتمع أيضاً يسيّرون حياتهم عن طريق إقامة العلاقات، مثل: الشرطة، والبائعين، والمحللين النفسيين، والسكرتيرين، وهم يعتبرون العلاقات المؤثرة هي قلب الإدارة.
وفي المجتمعات الحالية، قلّما نجد أشخاصاً يعملون بالصيد، والزراعة أو الأعمال الأولية البسيطة التي تحتاج إلى قوّة جسدية، لتسيير حياتهم، بل انّ أكثر الأفراد في بنية المجتمعات المتحضرة، دورهم هو نقل المعلومات. فحتى لو لم يكن للاتصالات مبنى للعمل في هذه المجتمعات، فإنّ القسم الأكبر من حياة الإنسان اليوم هو عبارة عن إنتاج المعلومات ونقلها. وعلى سبيل المثال: الأب يعلّم ابنه، وآخر يذهب إلى المعبد، والذي يهوى المسابقات الرياضية يذهب لمشاهدتها. فكلّ واحد من هؤلاء يقوم بالاتصال مع الآخرين عن طريق اللغة أو سائر وسائل التعامل الإنساني. واللغة هي أعم وأكثر أنواع العلاقات الإنسانية شيوعاً، وتعتبر نوعاً من السلوك، وتتكون من نشاطات كالكلام وردود الفعل لفهم ما يقال. ومجموع العلاقات البشرية هي أوسع بكثير من اللغة.
وكما يقيم، اليوم، مختلف الأفراد في المجتمعات، وبأساليب متنوعة، علاقات البعض مع الآخر، فإنّ مختلف شعوب العالم لها أيضاً علاقات، البعض مع الآخر، والكيفية والنوعية في طبيعة علاقات البشر، هي نفسها طريقة حياتهم وثقافتهم. وتتغيّر شبكة علاقات مجتمع ما تبعاً للتغيير أو التحول في العناصر الثقافية لذلك المجتمع. ولهذا يعتقد المختصون، بعدم إمكانية الفصل بين العلاقات والثقافة.
ولعل أشد الانتقادات التي يمكن أن يتعرض لها المدراء من قِبَل زملائهم أو رؤسائهم أو العاملين معهم، تتعلق بعدم قدرتهم على إقامة علاقات ذات تأثير.
ومن هنا، يجب أن لا ننسى بأنّ الاتصالات المؤثرة، لا تعتبر هدفاً، بل وسيلة لكسب الهدف. والميزة الأساسية الباعثة على الأمل بخصوص الاتصالات، هي انّها مكتسبة وليست ذاتية.
والأفراد الذين يميلون حقاً لتحسين إمكاناتهم على إقامة الاتصالات، فإنّهم يستطيعون المضي نحو أهدافهم نظراً لهذه المسألة.
ماهية العلاقة:
المدراء يعملون في عالم الإشارات والايماءات والكلمات. وينقضي أكثر وقت المدراء في الاتصال بالآخرين. وهذه الاتصالات تعينهم على تحقيق أهدافهم. والأبحاث التي أُجريت تبيّن انّ المدراء يفضلون في عملهم – وبشدة – الاتصالات الكلامية على اتصالات الكتابية.
والواضح انّ نوع الإدارة ومستواها ودائرة عملها، ذات تأثير في كيفية العلاقات. ولهذا لا يمكن طرح قانون مطلق لكيفية اتصال المدير بالآخرين. وقد اكتشف أحد المتخصصين من خلال دراسة سلوك المدراء ذوي المستويات العليا، اكتشف انّ 78% من وقت هؤلاء المدراء قد خصّص للتعامل مع الآخرين.
النتيجة:
خلاصة البحث هي انّ القيام بأي عمل إداري هو بحاجة إلى شبكة من العلاقات. وعلى هذا الأساس فإنّ القيادة الفاعلة مرهونة ببث الرسائل المدونة بصورة جيدة عن طريق قنوات الاتصال الجادة. ومن أجل اتخاذ القرارات، وتغيير الإتجاه، والسيطرة على المشروع، وتعليم العاملين، وتنسيق الأعمال المختلفة للمؤسسة بأكملها، فإنّ المدراء بحاجة إلى إقامة العلاقات.
والاتصالات الممزوجة بالمحبة والتي تدر بالنفع على الآخرين، تستطيع وحدها الوصول إلى أعلى مستوى في التأثير. والعلاقات المبنية على المحبّة تلقي في نفس المتلقي سلوكاً محباً، كما ستخلق فيه سلوكاً محباً. وهذا الأمر له قيمة إلهية، حتى انّ المبعوث الذي يمارس سلوكاً ممزوجاً بالمحبة يعينه اللطف الإلهي ويدعمه. والمدراء الذين يريدون القرب من الله تعالى، عليهم – دائماً – أن يكونوا ذوي نظر حسن، في تعاملهم مع الآخرين، وأيضاً اتصالاتهم بالأفراد داخل المؤسسة أو خارجها تكون أساس الحب.
الهوامش:
[1] - «أصول الكافي»، باب الحب في الله والبغض في الله.
[2] - السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، ج1.
[3] - الشيخ عبد الله جواد آملي، «التفسير الموضوعي للقرآن الكريم»، ج1، ص377.
[4] - الآملي «التفسير الموضوعي للقرآن الكريم»، ج3، ص363.
المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 66 لسنة 1993م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق