كان أهل نينوى في أرض الموصل من العراق، لا يختلفون عن غيرهم من الأُمم الغابرة في المعتقد والتفكير، إلا بما انطوت عليه البيئة، أو فرضتهُ سُبُل العيش.. فقد عبدوا الأصنام، ووقعوا في حمأة الجهل والشرك، حتى إنشلَّت حياتهم الفكرية عن إدراك الحقائق السامية، والسمو إلى المُثُل العليا..
ولئن كانت حياة بني البشر في تلك الأزمان، قد قامت على الوثنية، إلا أنّ الله سبحانه وتعالى، وهو خالق السماوات والأرضين، وما فيهنَّ، لا يترك عباده يهيمون في مهاوي الضلالة والبغي، وفي دياجير الظلمة والضياع. فقد تجلَّت حكمتهُ، وعَلَتْ قدرته ببعث النبيّين والمرسَلين، هُداةً لأهل الأرض، ورأفةً بالخلق.. وحتى لا يكون لأهل نينوى حجّة على خالقهم كمثل أهل الأرض كلهم، فقد بعثَ فيهم نبيّاً، يحمل إليهم رسالة التوحيد، ويدلهم على طريق الإيمان الصحيح.. جاء نبي الله يونس (ع)، يدلي لبني قومه بحجَّة ملؤها الحكمة والبيان، ويدفع ببيّنة قوامها البرهان.. جاء يُحذِّرهم من من هوى النفس حتى لا يسلكوه فيجمحُ بهم إلى الضلالة، ويدعوهم إلى سلوك طريقٍ إن هم اتَّبعوه يقودهم إلى الهداية.. اعتمد في دعوته على دلائل العقل والمنطق، وعلى مشاعر النفس والوجدان.. فأبان للقوم أن يتفكَّروا بما هم عليه من الخلق، وبأن ينظروا بما حولهم، وبكل ما يحيط بهم، فيدركوا بأنّ وراء هذا الكون، خالقاً ومُدبّراً، ويؤمنوا بأنّ هذا الخالق واحدٌ لا شريك له، يختصُّ وحده بالعبادة، ولإسمه التقدير والتقديس، ولمجده الإجلال والتعظيم.. إنها دعوةٌ للعقول والقلوب. فمن شاء اهتدى وظفَر، ومن جهل ضلّ وخسر.. وأخذ يذكِّرهم بأنّ الله قد بعثه رحمةً بهم، ورأفة بأحوالهم، كي يدلَّهم على آثار رحمة ربّه التي هي كفيلةٌ بأن تهديهم إلى نِعَمه وآلائِه، وإلى حكمته وعليائه، فاستَمَعَ القومُ ليونس، وهو يقول كلاماً لم يألفوه من قبل.. ولكنهم دُهشوا وهو يدعوهم لعبادة إله لا يرونه، وذُهِلوا وهو يُسفِّه الآلهة التي كانوا يعتكفون عليها بعد آبائهم وأجدادهم.. فلم يتقبَّلوا منه ذلك، وكبُر عليهم أن يكون هذا الداعية منهم وهو يخرج على المألوف من معتقداتهم، وينقمُ على الموروث من عاداتهم وتقاليدهم.. سيما وأن يونس من العامة فيهم، لا من أصحاب البيوتات الرفيعة، ولا من ذوي الشأن والنفوذ.. استغرب أهل نينوى لهذا الرجل تنصيب نفسه رسولاً عليهم مدَّعياً هدايتهم، فأظهروا له العداوة، وجاهروه بالسفاهة، وهم يقولون: - هذيانٌ وبهتان ما تدَّعيه يا يونس.. أنتخلى عما نشأنا عليه في هذه الديار؟ إلى دين ابتدعته وتريد أن تُجاهدنا فيه؟!.. رأى يونس أن يدفع التهمة التي يصمونه بها، وهم أولى بالإتهام مما يدعون عليه زوراً وبهتاناً، فارتفع صوتُهُ مندّداً بجهالتهم وصرخ فيهم: - يا قوم! ارفعوا غشاوة التقليد عن عيونكم، ومزِّقوا نسيج الأوهام عن عقولكم، وإنني كفيلٌ بأنَّكم ستجدونَ هذه الأصنام التي تتوجّهون إليها صباح مساء تافهة، وأنتم تتوهّمون في الإعتماد عليها لقضاء الحاجات فإنها لا تدفع عنكم شرّاً، ولا تجلب لكم نفعاً.. إنها لا تشفي مريضاً، ولا تردُّ ضالاً. وهي لا تخلق مولوداً، ولا تُحيي ميّتاً.. يا قوم!.. ما لكم تُعرِضون عن دين يأمر بتقويم أموركم، واستقامة أوضاعكم، ورفع أخلاقكم؟!.. وما بالكم ترفضون ما فيه صلاح الأُمّة والفرد فيكم، ويفضي إلى شاطئ الأمان في حياتكم؟. لقد شاء يونُس أن يجادلهم بالحقّ، وأن يُبيّن لهم طريق الصواب، ولكنه لم يظفر منهم إلا بقناعة الجاهلين، ولم يغنم إلا بجدال المتعنِّتين.. لقد أنكروا عليه دعوتهُ، وراحوا يؤلِّبون القريب والبعيد، حتى يحقِّروه ويذمّوه.. لقد رأى يونس القوم وهم يعمدون إلى النيل منه بالتهكُّم والسخرية. ويقومون على أذَّيته بالإحتقار والإذلال.. إنهم يريدون أن يُظهِروه للملأ مناوئاً لمعتقداتهم بادّعاء كاذب، وخارجاً على عاداتهم وتقاليدهم. برأي فاسد.. وتمادَوا في محاولاتهم به، وهو يتحمَّل كل ما يبدون وما يضمرون. ولم يأبه لما يفعلونه به، وظلّ على دعوته؛ ولكنه وهو يراهم على الضلالة يصرّون، قام يحذِّرهم من سوء عاقبة ما يفعلون، فقال لهم: - يا قوم! لقد دعوتكم ونصحت لكم، وقد جادلتكم بالتي هي أحسن، فإذا كانت دعوتي تصل إلى قرارة نفوسكم كان الخير الذي أرجوه والإيمان الذي أبتغيه، وإلا فإني أنذركم عذاباً واقعاً وبلاءً نازلاً، وهلاكاً قريباً، سترون طلائعه، وتتقدم إليكم دلائله. قالوا: يا يونس، ما نحن بمستجيبين لدعوتك، ولا خائفين من وعيدك، فأتِنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. ولم يطق يونس (ع) صبراً بل ضاق بهم ذرعاً، وقطع الرجاء منهم بعد مطاولتهم، وهزئهم به، فدعا الله تعالى أن ينزل عليهم العذاب، فاستجاب الله دعوته في ساعة ما، فخرج يونس من بين أظهرهم ليتنحّى عن مكان سخط الله وغضبه، ولم يكد يبتعد قليلاً عن نينوى حتى وافت أهلها نذر العذاب واقتربت منهم طلائع الهلاك. فقد اغبَّر الجو حولهم، فنظروا إلى أنفسهم فوجدوا أن ألوانهم قد تغيَّرت ووجوههم قد تشوََّهت، فساورهم الخوف وداخلهم القلق، عندما أيقنوا أنّ دعوة يونس (ع) حقّ وإنذاره صدق، وأنّه سيصيبهم ما أصاب الأُمم السالفة. فآمنوا بالله العليّ العظيم واستغفروه، وتابوا إليه وخرجوا إلى شعاف الجبال وبطون الصحاري يضرعون ويبكون ويتوسَّلون أن يتقبّل الله توبتهم، وأن يرفع عنهم العذاب. وفرَّقوا بين الأُمّهات وأطفالها، والإبل وفُصلانها، والبقر وعجولها، والغنم وحملانها ثمّ أعول الجميع لفراق أولادهم، فصاحت الإمهات ورغت الإبل، وخارت البقر، وثغت الغنم، حتى تلاشت النفوس وصغرتْ، وذابت الغطرسة وامَّحتْ، وكانت ساعة رهيبة. فبسط الله عليهم عند ذلك جناح رحمته ورفع عنهم سحائب نقمته، إذ كانوا في توبتهم صادقين وفي إيمانهم خالصين لله ربّ العالمين، وبلغ من توبتهم أن بدأوا برد المظالم بينهم حتى أنّ الرجل كان ليأتي بالحجر وقد وضع عليه أساس بنيانه فيقتلعه ويردّه إلى صاحبه، فحبس الله عنهم العذاب، ورجعوا إلى دورهم آمنين مطمئنين، وودّوا أن يعود إليهم يونس (ع) ليعيش بينهم رسولاً ونبيّاً ومعلِّماً وإماماً. ولكن يونس (ع) كان قد ذهب مُغاضباً.. ورحل عنهم يائساً.. وقد فارقهم وترك ديارهم طمعاً بأن يجد القوم الذين يفهمون رسالته ويستجيبون لدعوته... وأخذ يضرب في الأرض، ويجدّ في السير حتى انتهى إلى البحر، وهناك وجد جماعة يعبرون، فسألهم أن يصحبوه معهم، ويحملوه في سفينتهم، فقبلوه على ارتياح للطف سؤاله، وإشراقة وجهه. وأنزلوه بينهم منزلاً كريماً ومقاماً عزيزاً، ولكنهم ما إن ابتعدوا عن الشاطئ وجاوزوا اليابسة، حتى هاجت الأمواج، وهبَّت الأعاصير، وتوقَّع الراكبون في السفينة سوء المصير، فزاغت منهم الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وظنَّ كلٌّ منهم أنّه هالك، وفي جوف البحر غارق، ففكّروا بأمرهم فلم يجدوا سبيلاً إلى نجاتهم، إلا أن يخفِّفوا من حمولتهم، فقالوا كيف؟ فاتّفقوا على الإقتراع... وساهمَ الجميع ووقع السهم على يونس... ولكنهم ضنُّوا به تكريماً لما رأوه منه. فعادوا للمساهمة وعاد السهم على يونس.. فضنوا به أيضاً نظراً لمكانته التي احتلها يونس (ع) من نفوسهم، وعادوا للمساهمة، فعاد السهم عليه. فعلِم يونس (ع) أنّ هذه مشيئة من الله عزّ وجلّ، وأنّ من وراء ذلك سِرّاً، وأنّ لله في ذلك تدبيراً.. ثمّ أدرك أنّه استعجل في تركه لقومه، قبل أن يأذن الله سبحانه له بالهجرة، لأنّ الأنبياء – عليهم السلام – كانوا عندما يداهم قومهم العذاب، لا يخرجون من بين ظهرانيهم إلا بأمر من الله. وكان على يونس (ع) أن ينتظر قضاء الله فيهم بعد أن أوحى الله إليه أنّه معذِّبهم بعد ثلاثة أيام، فتذكر ذلك يونس (ع) وذكر الله تعالى. فوقف على حافة السفينة وألقى بنفسه في البحر، وأسلم أمره لربّه. الأمواج تُقَلّبُهُ بين طيّاتها وتحشرهُ في دياجير ظُلُماتِها، وإذا بحوتٍ ضخم الجثَّة طويل الجسم، يتعقَّبه حتى إذا دنا منه أمر الله الحوتَ المسخَّر لهذه الغاية أن يَبْتَلِعَه على أن لا يأكل لحمَه ولا يشِّم عظمه لأنّه نبيٌّ كريم تعجَّل في مفارقة قومه من غير أن يأذن الله تعالى له، فليكن في بطن الحوت فترة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.. فابتلعه الحوت وراح يشقُّ الأمواج ويهوى إلى الأعماق، فضاق صدرُ يونس (ع) وفزع إلى الله واستغاث استغاثة الملهوف ولجأ إلى الله لجأ المكروب، فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجاب الله له دعاءه وأوحى إلى الحوت أن اصعد إلى سطح الماء، واقترب من الشاطئ الأيمن، وألقٍ بضيفك في العراء. فألقاه الحوتُ على الشاطئ سقيماً هزيلاً مريضاً عليلاً، فتلقته رحمةُ الله الواسعة وأنبتت فوقَ رأسه شجرةً من يقطين أكل من ثمرها واستظلَّ بورقها فبدأت تعودُ إليه العافية وتظهرُ فيه تباشيرُ الحياة. ولما استوى سليماً ورجع إلى سابق عهده أوحى الله إليه أن ارجع إلى بلدك وموطن قومك وعشيرتِك فإنهم آمنوا فنفعهم الإيمان ونبذوا الأصنام والآن يتحسَّسون مكانك ويرقبونَ مجيئك. فعاد يونس إلى قومه وحمد الله وشكره على نِعَمِه لأنّه فارقهم وليس فيهم شاكرٌ للرحمن، وعاد إليهم وما فيهم إلا ألسنة تلهج بذكر ربِّ الأكوان. سلام الله على يونس إنّه كان من المرسلين المسبحين. ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى يونس في سورة الأنبياء فقال: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء/ 87-88). وفي سورة الصافات: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (الصافات/ 139-148). وفي سورة يونس: (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (يونس/ 98). المصدر: كتاب قصص الأنبياء في القرآن الكريم المختار من مجمع البيان الحديث (داوود وسليمان ويونس)مقالات ذات صلة
ارسال التعليق