• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الحوار المخملي.. إنعاش لمشاعر الأسرة

الحوار المخملي.. إنعاش لمشاعر الأسرة

لا شكّ أنّ كلَّ حوار يدل بوجه من الوجوه على وجود شيء من الاختلاف، وإذا جرى حديث بين شخصين دون وجود شيء يختلفان فيه، فإنّ الأولى أن يسمى حديثهما اتصالاً وتواصلاً.

في (الحوار المخملي) يكون هناك اختلاف بين أفراد الأسرة حول شيء ما، وتكون هناك رغبة في الوصول إلى رؤية مشتركة أو قرار موحَّد، لكن لا يكون هذا هو المطلب الأوّل، وإنما يكون التواصل والاندماج وتقوية الرابطة الأسرية هو المستهدف أوّلاً، ويكون هو الثابت والمستمر الذي يجري في ظله كلّ حوار، ومن ثمّ نجد درجة عالية من الرضا والتسامح والقبول المتبادل، وكأنّه ليس هناك خلاف أو نزاع في مسألة من المسائل، ويمكن أن نرصد حرص الأسرة على مشاعر أفرادها في العديد من المواقف والسلوكيات، منها:

1-    الذي يحاور حواراً مخملياً يحرص على فهم ما يحرّك مشاعر الذي يحاوره، فهناك كلام يبعث على السرور، وكلام يثير الاهتمام، وثالث يثير الشك والغضب، وبما أنّ طبائع الناس متقاربة وموحدة في أمور كثيرة، فإنّ الحرص يجعلنا نفهم مشاعر من نحاوره من خلال قياسها على مشاعرنا: هذا طالب في المرحلة المتوسطة يقول لأخيه: أبشّرك قد كان ترتيبي الثالث على زملائي، فيقول له أخوه: هذا شيء عظيم، لكن كيف تغلبت على الضعف الذي كان لديك في مادة الجغرافيا؟ كلفني أستاذي ببحث ووعدي إذا أجدتُ فيه أن يحسِّن لي درجتي في الامتحان السابق، وقد كتبت البحث، وغيَّر درجتي، وانتهت المشكلة، هذا شيء مدهش، ويقوم إليه ويعانقه، وسيكون الاحتفال في المساء بهذا النجاح الباهر على حسابي.

إنّ جميع الناس يحبون هذا الأسلوب في الحوار، ويرتاحون له.

2-    مراعاة المشاعر تتطلب فهم البعد العاطفي في الموقف الحواري: هذه فتاة في الثامنة عشرة تقدم لخطوبتها شاب، وقرر أهلها عدم القبول به، لكن الفتاة أصرت عليه، وحاولت إقناع والدتها به، ونزولاً عند رغبتها تمت الخطوبة، وعقد القرأن وبعد شهر من تعرف تلك الفتاة على الشاب، وبعد سهر ليلة كاملة من الهم والخوف والتفكير والحيرة قررت عدم المضي في مشروع الزواج، وجلست إلى أمها تحدِّثها بذلك والدموع تملأ عينيها.. الأم المتشربة لروح الحوار المخملي أدركت أنّ هذه اللحظة ليست لحظة عتاب على القرار الأوّل أو الثاني، ولا لحظة بحث عن الأسباب، وإنما هي لحظة تعاطف ومساندة ومواساة، وإنّما مؤازرة ابنتها في هذه اللحظة والوقوف إلى جانبها، أهم من أي حوار وأي بحث، وحين تمتص البنت الصدمة، وتهدأ، فإنّ من الممكن أن يكون هناك كلام آخر..

3-    مراعاة مشاعر من يحاورنا ويتحدث إلينا تتطلب أن نكون كرماء أسخياء في التفاعل معه؛ لأنّ ذلك يشجعه على الكلام، ويجعله يشعر بالثقة تجاه الأفكار التي يقدمها، هذا الكرم يتجلى في إشعارنا له بأننا متابعون له بدقة، وحين نسمع منه شيئاً جيداً؛ فإننا نثني عليه.

إنّ هذه الدرجة من التفاعل تشجع على استمرار الحوار، وتشجع المحاور على البوح بما عنده.

بعض الناس تجد في وجوههم دائماً نوعاً من الجمود والبلاهة والتجهم، إنّهم لا يعبرون، وتشعر وأنت تتحدث معهم، وكأنك تتحدث مع تمثال أو دمية، وهذا شيء مزعج للغاية؛ لأنّه يجعل المتحدث والمحاور متوجساً من مفاجأة غير سارة تنتظره ممن يجلس أمامه! إنّ من المهم أن ندرك أنّ ما بين (70) إلى (80%) من المشاعر والمعاني تنتقل خارج إطار اللغة المنطوقة؛ أي: عبر حركة الرأس واليدين، وتعبيرات الوجه، ووضعية المتحدث وهيئته.. ولهذا فإننا حين نتحاور وجهاً لوجه تكون طريقة الكلام أكثر إفادة ونقلاً للمعاني من الكلام نفسه. التواصل البصري بين المتحاورين أيضاً مهم، وقد قالوا قديماً: "العينان مغرفتا الكلام"، والحقيقة أنّ التقاء العين بالعين يساعد على تنظيم التفاعل الداخلي بين المتحاورين، ونحن كثيراً ما نخطئ في هذا الشأن، هذا أب يتحاور مع ابنه الكبير حول التخصص الذي يرغب في الالتحاق به في الجامعة، لكنه وهو يجادل ابنه لا ينظر إليه، وإنما ينظر إلى زوجته، وكأنه يطلب منها النصرة والمساعدة على ابنه، وهذا يشتمل على نوع من الإهانة للابن!

يشكو كثير من المراهقين أنهم في نظر آبائهم وأمهاتهم لا يملكون الحد الأدنى من الرشد، ولهذا فإنّ الاجتماع مع الوالد – على نحو أخص – لا يعني أكثر من حضور (حفلة) حافلة بالمواعظ والتوجيهات والملاحظات، وحافلة باللوم والعتاب، بالإضافة إلى عدد من الطلبات المحددة، مما يتعلق بالدراسة والأصدقاء ووقت الفراغ... ومع أنّ المراهقين ينقصهم الكثير من الرشد فعلاً، وهم يميلون إلى المبالغة في معظم الأحيان، إلا أنّ ما يقولونه ليس بعيداً عن الواقع، وقد ألحقت هذه الوضعية بالعلاقة بين الأبوين والأبناء الكثير من الضرر، وأوجدت نوعاً من الجفاء المبطّن بينهم.

المربي المتشبع بأدبيات الحوار المخملي يقلل من المواعظ والتوجيهات إلى الحد الأدنى مراعاةً لمشاعر الشريك (زوج أو زوجة) والأبناء، وعوضاً عن ذلك يتحدث عن تجاربه الشخصية وتجارب غيره، ويوفِّر أوّلاً المناسبة والسياق لذلك، فإذا كانت هناك حاجة إلى حث الأولاد على الاهتمام بالوقت والاستفادة منه، فإنّ عليه أن يتحين الفرصة لذلك، وهي قد تتمثل في تحدث أحد الأبناء عن واحد من رجالات الأُمّة الكبار.

4-    إنّ مراعاة المشاعر لا تعني مداراتها فحسب، وإنما تعني إنعاشها وتغذيتها أيضاً، ومن المهم إضفاء المرح على جلسات الحوار ولقاءات الأسرة، والمحادثات الثنائية بين الأبوين، وبينهما وبين الأولاد، وبين الأولاد بعضهم مع بعض، والحقيقة أنّه إذا كانت المعرفة خبز الدماغ، فإنّ المرح هو قوت الروح، وقد دل بعض الدراسات على أنّ هرمون (الدوبامين) الذي يفرزه الجسم عند الضحك أو الشعور بالسعادة هو نفسه الذي يحفظ أجزاء المخ من التلف – أي يؤخر تلفها –، ويجعله نشطاً، وكلما زاد إفراز الجسم لهذا الهرمون كان النشاط الذهني للإنسان أفضل، ومن هنا: فإنّ الحوار لا يمكن أن يكون مخملياً، كما لا يمكن إنعاش مشاعر الأسرة من غير شيء من المرح والسرور والضحك والمزاح في غير ما يسخط الله – تعالى –، وفي إطار التوازن والاعتدال؛ إحدى الأسر اتفق فيها الأب والأُمّ على أن يقوم أحدهما – بالتناوب – بافتتاح جلسات الأسرة وحواراتها بطريقة ذكية تجعل الجميع يضحكون من قلوبهم، ومن اللطيف أنّ الأطفال الصغار صاروا يسألون: متى سنجلس؟ وإذا خلت افتتاحية إحدى الجلسات من الطرفة المعتادة، بدت على وجوههم الكآبة!

مثال: أسرة كان أحد أبنائها فكِهاً جدّاً، ويحفظ عدداً كبيراً من الطرف الذكية والممتعة، عوَّد أسرته كلما حمي فيها النقاش، وارتفعت الأصوات أن ينهض واقفاً، ويقول: بنبرة حادة (توقّف) ثمّ يشرع في تقديم طرفتين أو ثلاث؛ فيضحك الجميع، ويتذكرون أنّ الأمور أبسط من أن نتحمس لها إلى درجة الغضب والشجار.

في التبسم الذي حثنا عليه (ص)، وذكر أنّ فيه صدقة – أقول في التبسم صدقة ذات وجهين: فهي صدقة على الذات؛ لأنّ المرء حين يضحك ينفع نفسه، ويخلصها من وطأة الكآبة، وصدقة على المتحاورين والمتحادثين، حيث يُدْخِل عليهم السرور والمتعة. 

 

المصدر: كتاب التواصل الأسري

ارسال التعليق

Top