• ٢٣ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

ثرثرات النساء

دانة الخياط*

ثرثرات النساء
في الحلم، كنت أقف على باب حديقة الزهور، أحاول الدخول ولا أستطيع، فوقفت حائرة خجلى، أشاهد الزهور المنسقة المرتبة، البحيرة الصغيرة، الشجيرات والخضرة الخلابة.. أملأ رئتي بالهواء المنعش.. يا لسحر الطبيعة وجمالها. ثمّ صحوت فجأة، وتذكرت أنّ اليوم هو آخر يوم لي في هذه المدينة، قفزت من سريري، فعليّ أن أستغل كل دقيقة من يومي لتصريف أموري، وإنهاء أعمالي. دقت الساعة تمام السادسة مساءً، وكنت قد انتهيت من إغلاق حقيبتي، توجهت إلى وداع والدي، لم تبك أمي، ولم أبك أنا، قبلتهما، ودعتهما بهدوء ورحلت. طارت الطائرة، وأنا أنظر من نافذتها إلى الأبنية والأرصفة والأزقة، كل شيء بات بارداً في هذه المدينة التي ولدت فيها، وعشتُ فيها طفولتي وصباي، وشهدت كل ذكرياتي.. وكنت أعلم أني في يوم ما، سأصطدم بالفراغ الذي دُفعت إليه دفعاً، فليس سهلاً عليّ أبداً أن أدخل عامي الـ30 بلا رجل أو عائلة أو أحلام.. ناهيك عن التعليقات التي طحنت رأسي طحناً من والدتي ونساء الحي والقريبات. فكان لزاماً عليّ أن أرحل لأبحث عن أحلامي الضائعة، ولأوقف التسرب السريع لعمري وأيامي بلا فائدة. نجحتُ ورحلتُ، لا أعلم هل لي عودة بعد ذهابي هذا؟ كما لا أعلم ما ينتظرني في الغربة. بعد ساعتين من الإقلاع حطت الطائرة في المدينة التي تعاقدت مع أحد مستشفياتها، كانت الحرارة شديدة وخانقة، وصلت إلى سكني وحجرتي المخصصة، رتبتها وأفرغتُ حقائبي. شعور غامض كان يتملكني، خليط من الخوف والقلق والرغبة في إثبات الذات والاستفسارات. فكرتُ في حياتي السابقة وما ينتظرني.. شعرتُ بالغثيان والاختناق، فكل شيء من حولي جديد وغريب، لكني لم أشأ الاستمرار في هواجسي، فخلدتُ إلى النوم استعداداً لتسلم الوظيفة الجديدة في الغد.   -        الوظيفة الجديدة: في صباح اليوم التالي، تسلمت وظيفتي الجديدة، وبدأت حياتي الجديدة، وبدأت غربتي. في بداية الأيام كنتُ أشعر بألم في معدتي، فكل شيء جديد عليّ، لكن قوة شخصيتي وخبرتي، ولنقل أيضاً حكمتي وفهمي خفايا شخصيات البشر، كل ذلك ساعدني على التأقلم شيئاً فشيئاً على الوضع الجديد. كانت الأيام تسير بهدوء وروتينية كنتُ في حاجة ماسة إليهما، فقد كنت في حاجة إلى مساحة من الفراغ وصفاء الذهن لكي أعيد ترتيب بيتي الداخلي، وألملم شتات نفسي، بعكس الصخب المزعج الذي كنتُ أعيشه سابقاً، والذي كان يُفقدني الهدوء النفسي والقدرة على التفكير. وبعد أشهر قليلة، ازداد بطء الأيام، ازدادت الروتينية. فاليوم أضحى مشابهاً للأمس ولا شيء جديداً، أستيقظ صباحاً للعمل ثمّ ينتظرني الفراغ والملل، يا لهذا الملل الذي يُداهم أيامنا بقوة وإن اختلفت أشكاله. بدأتُ أشك في مدى صحة قراري بالرحيل، لكن في كل الأحوال هذا قراري وعليّ تحمل مسؤوليته.   -        حكاوي الموظفات: هالتني الفوضى العارمة التي كان القسم الجديد يرتع فيها، فلا أنظمة واضحة ولا قوانين، فضلاً عن عشرين موظفة يعملن في هذا القسم، وما يتبع ذلك من حكاوي وبلبلات. أمضيت قُرابة الشهرين في استحداث أنظمة وقواعد للعمل قابلة للتطبيق، خاصة أنّه مجتمع نسائي. فالنظام الواضح أقصر طريق إلى الإنتاج الجيِّد، ونجحت بحمد الله. فكما ذكرتُ لكم، قوة شخصيتي وخبرتي ومعرفتي بخبايا النفوس البشرية، كان لها دور كبير في اجتيازي كثيراً من المواقف. وأصبح قسمي وموظفاتي من أهم أقسام المستشفى وأكثرها نبضاً وإنتاجاً، وهذا الأمر أثر فينا جميعاً بطريقة إيجابية. ومضت الأيام بهدوء واستقرار، لا يكسرهما إلا حكاية من إحدى الموظفات، أو موقف مع أحد العملاء، أو مُخاصمة بين الموظفات، أو تجمع وحفل نقيمه لمناسبة مُعينة.   -        العاطفة كقطرة عطر تدخل كل أنف رغم أنف من لا يُريد: كنت قد تلقيت عدداً من عروض الزواج خلال غربتي، فمن طالب للزواج المسيار، أو طالب لزوجة ثانية، إلى زواج السر والعُرفي.. وغيرها من الأنواع التي يزخر بها عصرنا الحالي. لكنني كنت أرفض. فقد كنت أبحث عن زواج وإستقرار بمواصفات معينة بغض النظر عن أي ظرف أمر به. فكم من ليلة قطعتها بالبكاء والألم من جراء الكلمات الجارحة التي أسمعها دائماً، وكنت أسمعها سابقاً. فالكل مجمع على أنّ المرأة خلقت لخدمة الرجل ليس إلا. والتي ليس لها رجل، وإن حققت النجاحات في أمور الحياة، هي امرأة فاشلة لا داعي لوجودها. وفي أحد الصباحات كُلفت من قبل إدارة المستشفى بمتابعة أمور أحد المرضى من الشخصيات المهمة، بدءاً من دخوله وحتى آخر إجراء لخروجه من المستشفى، وبالفعل أتمت المهمة على خير وجه، وبعد أشهر عديدة من خروج هذا المريض مُعافى، ومن التعارف المحترم، تم زواجي به في إحتفال بسيط حضره أفراد أسرتي، الذين أتوا لهذا الغرض، وكذلك أفراد أسرته.. كنتُ سعيدة جدّاً بهذا الزواج، على الرغم من كونه عقلانياً ناضجاً، ومن فرط سعادتي كنت أخشى أن يعقبه ألم. فهذه هي النفس البشرية، تظن أنّ الفرح لابدّ أن ينتهي بحزن وألم، ولكن حالتي ابتدأت بحزن وإحباط أعقبهما فرح، ولله الحمد. ومضت الأيام باستقرار وهدوء ورضا. سنتنين كاملتين قضيت في الغربة، واليوم وصلتُ إلى مدينتي التي دفعتني دفعاً إلى تركها، بعد أن أجهدت نفسي بكثرة الإحباط والتوتر.. اليوم أنا موظفة تشغل منصباً مرموقاً، متعلمة وحاصلة على درجة الماجستير، زوجة رجل مشهور ومهم، إذن فأنا حديث الساعة في مدينتي. أقامت أمي إستقبالاً لنساء الحي والقريبات، وكنت أستمع إلى ثرثراتهنّ التي لا تنتهي، وأقول: حقاً أينما تُوجد النساء توجد الثرثرة.   *كاتبة من الرياض

ارسال التعليق

Top