لا تخفي حتى الكثير من الأسر المتدينة فرحها بالمولود الذكر، ولا نقول (إمتعاضها)، بل أسفها المبطّن من المولود الأنثى.
الآن وقد رزقنا الله ما رزق، واختار لنا ما اختار، وعلى صعيد (النظرية) – على الأقل – نقول: الحمد لله على ما اختار لنا، فطالما هو الذي يختار فلا خيرة لنا في قبال خياره، وخياره صالح حتى وإن لم نقدر الصلاح فيه، ورب أنثى خير من ذكر.
المسألة ليست هنا، بل في انتقال هذه المشاعر والانطباعات من مكمن (القوة) إلى حيّز (الفعل) بأن تترجم إلى أفعال وتصرفات تشعر هذا الكائن الرقيق المنعم بالنعومة واللطف والرهافة أنّه (كائن دونيّ) أي أدنى من أخيه الذكر حتى وإن فاقه وتفوّق عليه ليس في المستوى الدراسي فقط، بل في المقام الأدبي والسلوكي والأخلاقي أيضاً.
فبقطع النظر عن (الجنس)، فإنّ العدالة الأبوية تقتضي إعطاء كلّ ذي حقّ حقه، فليس انتقاصاً من الرجولة ولا مسّاً بكرامة الذكورة أن تقول لإبنك (المسيء) إن أخته أكثر أدباً واحتراماً منه، أو أنّها أذكى وأشطر منه، لا لزرع التفرقة البنويّة وخلق الحساسيات بين الأبناء ودقَّ الأسفين بينهم، بل بضرب المثل القريب الحيّ، فكما أنّ الأب قدوة لأبنائه، فقد يكون أبناؤه قدوة لبعضهم البعض، خاصة إذا تصرف الأب – في أكثر من مناسبة – بما يوحي بعدالته وأنّه لا يفرِّق ولا يميِّز تمييزاً أسرياً بين بنت وولد إلّا بمقدار ما يحملان من علم ومن أدب ومن حسن سلوك وتصرّف، وجد واجتهاد.
ومن مقتضيات العدالة الأبوية إشعار البنت أنّها أسوة بأخيها، إنسان، وشخصية قانونية مستقلة، لها حقوق وعليها واجبات، وليسَ لأخيها، تقدّم عليها في السنّ أو تأخر – أيّة وصاية أو ولاية عليها – فكما هما أخوان في النسب فهما (أخوان في الإيمان) وللأخوة الإيمانية شروطها ومستلزماتها، وبالتربية العملية وحدها يمكن إفهام الولد أن لأخته الحق في نقده إن أساء التصرّف أو قصّر في حق نفسه ووالديه وأسرته وأصدقائه، فهو ليس حقاً حصرياً له دونها.
غير أنّه من دواعي تربية البنات أيضاً إفهامهنّ أنّ الفوارق بينهنّ وبين البنين هي في الطبيعة البدنية (البايولوجية) لكل منهما فقط، وما عدا ذلك فهي ندّه الإنساني، وكفؤه الإيماني ونظيرهُ العمليّ. ويقع في الخطأ الأبوان اللذان يسحبان الفوارق البدنيّة على الفوارق الشخصية.
ربّما ليس في هذا الكلام شيء نضيفه إلى ما في جعبة الأبوين من معرفة تربوية في هذا المضمار، لكن ما نريد التنبيه عليه، أو بالأصحّ التذكير به، ما يلي:
نحن نعرف ونعترف أن إصلاح المجتمع يبدأ بصلاح (الأُمّ بالدرجة الأولى لأنّها المدرسة الأولى في حياتنا جميعاً، ونعرف ونعترف أن سبباً من أسباب تخلّف مجتمعاتنا هو إهمال الفتاة في مرحلة الإعداد للدور البنائي والتنموي والمستقبلي الذي ينتظرها، وحين نناقش مسألة تخلّف المرأة وضعفها ننسى أنّنا ساهمنا كآباء ومربين في إيجاد وتكريس هذا الضعف وتجذير ذاك التخلّف يوم زرقنا في وعيها أو لا وعيها بنحو مباشر أو غير مباشر، إنها كائن دونيّ، وإنّ أخاها مقدّم عليها لأنّه (رجل) وهي مؤخرة لأنها (امرأة).
السؤال الصاعق أو المحوري هنا: كيف نتوقّع من مخلوق أو إنسان أو شخص نزعنا منه ثقته بنفسه – طوال مرحلة ما قبل الأمومة – أن يزرع الثقة في نفوس أبنائه مستقبلاً؟ وكيف نتوقع من إنسانة رُكّبت ذهنيتها تركيباً في بيت أبيها ومن ثمّ زوجها على أنها دون الرجل، مهما علت ومهما عملت أن لا تسرّي ذلك إلى بناتها إلّا ما رحم ربِّي منهنّ؟
هذا هو مربط الفرس، والنتائج تتبع أخسّ المقدمات كما يقول المناطقة.
في إطلاعنا المتواضع على تراجم وسير النساء اللواتي ساهمن في صناعة تأريخ البشرية بإبداعاته وإسهاماته الجليلة والنوعية، وجدنا صحة المقولة العكسية: إنّ وراء كلّ امرأة عظيمة رجل، أو امرأة عظيمة مثلها، كما أنّ وراء كلّ رجل امرأة عظيمة أو رجل عظيم مثله.
(ملاحظة: الورائية هنا ليست مرتبة مكانية، بل معنى كنائي عن القوة الداعمة والمؤيدة والمؤازرة).
كانت الأُم الإغريقية (اليونانية) في المجتمع (الإسبارطي) القديم تدرب ابنها على المصارعة والعدو وقذف القرص الحديدي ليشبّ قوياً شجاعاً، إلى جانب تعليمه القراءة والكتابة والحساب والشعر، فالطفل الإسبارطي كان يعتبر منذ ولادته ملكاً للدولة، فإذا كان قوياً صحيح الجسد سمحت لهُ الدولة بالحياة، وإذا كان ضعيفاً معتلّ الصحة حمل إلى جبل يسمّى (تيجاتوس) وترك هناك ليموت.
مَن الذي كان يربِّي الرجال الشجعان في المجتمعات الإسبارطي؟ هي المرأة. هي الأُمّ، فكيف تمنحُ الأُمّ الابن شجاعة؟
فتيات إسبارطة كُنّ يُدربّن من الناحيتين العقلية والجسدية، تدريباً دقيقاً يؤهّل كلّاً منهنّ لتكون (أمّاً شجاعة) لـ(رجل شجاع) كنّ يمارسن الألعاب الرياضية كالفتيان، وكنّ عندما يتزوجن ينفخن في أزواجهنّ روح التضحية والإخلاص للوطن[1].
كم نجني على مستقبل أجيالنا إذاً في (اضطهاد) الفتاة بإشعارها أنّها من جنس أردأ أو أدنى أو أقلّ من جنس إخوانها الذكور، ليس بالتصريح بل ربّما بالمواقف والتلميح وبما يطفو من الذكورية (البدوية) على مساحة مشاعرنا في وقت ننسى فيه أننا مربّون، ومعدّون، ومؤهّلون!
رفقاً بـ(القوارير).. لا لأنّها سهلة الكسر،
بل لأنّها خزائن الطيب..
ولأنّها رمز الصفاء..
ولأنّ السائل الذي يوضعُ فيها يتخذُ شكلها!
[1]- حضارات العالم، منير البعلبكي وآخرون، ص188.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق