بالإضافة إلى الحاجات البيولوجية كالطعام والهواء والنشاط والحركة والراحة يتطلّب الطفل كذلك من أجل نموه الحاجات الاجتماعية والنفسية فهو يحتاج إلى:
1- الحاجة إلى المكانة: يتطلع كلّ طفل إلى الاعتراف بوجوده ويحب أشد الحب في أن يحظى باهتمام من هم حواليه. فهو ينشد احترام أبويه له ومعلميه لشخصيته والأقران لكرامته.
2- الحاجة إلى الطمأنينة: يصبو الطفل إلى الانتظام والاستقرار في حياته. فعدم التيقن من موقفه بين سائر أفراد أسرته يفقده الثقة بنفسه. وإن تخوفه مما يخبىء له الغيب أو تخويفه من جانب الأسرة أو الأقران يعرضه إلى أن يكون قلقاً غير مستقر العاطفة، أو كأن يصادف الطفل من المواقف المخيفة مما يجعله يحمل المخاوف في نفسه. ولا يدري المرء أحياناً أي موقف من مواقف الحياة سيجعله يتمثل الخوف في حياته، ولعل في المثال التالي ما يجلو بعض جوانب هذا الموضوع.
التفت الكاتب إلى أنّ الطفل قُصي وله من العمر سبع سنوات ونصف السنة، يكثير من حمل لعبته الكبيرة المخملية (لها شكل الدب). فهو لا يكاد يفارقها إذ يحتضنها حتى وقت الطعام أحياناً ويضعها بجانبه في فراشه ليلاً، ويتأبطها إذا لعب في فناء الدار نهاراً، ولا يبارحها إلا إذا كان في المدرسة. وعندما سُئل عن السبب أجاب بأنّها "تخاف من الأشباح". فهذا في الواقع تعبير غير مباشر عن خوفه من الأشباح. ولهذا قصة مرّت به في حياته. سبق له، وهو في الخامسة والنصف من العمر، أن شاهد فلماً للأطفال في السينما اسمه (Snow White) وقد استمتع بمشاهدة هذا الفلم أيما استمتاع، ولكن جد فيه ما لم يكن بحسبانه؛ إذ ظهر في الفلم شبح يمثل امرأة عجوزاً شمطاء ذات طول غير طبيعي ولها مخالب أشبه بالمسامير الطويلة وبأسنان بارزة لا يسر الناظر مشاهدتها. وعندها راح هذا الطفل يتلفت يميناً وشمالاً ولكنه لم يذكر شيئاً لأنّه وجد نفسه جالساً بين أبويه اللذين أدركا معنى التفاته تلك فابتسما له مما أشاع في نفسه الطمأنينة. ولكن بعد فترة قصيرة أخذ يحلم بذلك الشبح وكان أشد ما عليه أن يرى شبحاً في التلفزيون. ولكن الأبوين استطاعا أن يخففا من حدة الوطأة عليه وأن يعيدا إليه الثقة بنفسه وأن يقنعاه بأنّ الشبح ذاك لم يكن إلا وهماً ليس له وجود في دنيا الواقع. بيد أنّ تلك الحالة قد ظهرت مخاوفها في نفسه على نحو متنكر فأراد أن يقنع ذاته بالطمأنينة ولهذا عمد إلى الإكثار من إحتضان "الدب المخملي" لأنّه بذلك يكون قد شعر بوجود شيء آخر يلازمه ملازمة الظل وهذا من شأنه أن يدرأ عنه الخوف من الأشباح، لكنه أسقط هذا الخوف على تلك اللعبة عندما سُئل عن سبب كثرة احتضانه إياها وحمله لها.
3- الحاجة إلى العطف والحنان: يصبح الطفل قلقاً، عديم الاستقرار على حال واحدة، يبدو وكأنه مرتبك حينما يتبين له بأنّه ليس محبوباً أو أنّه في مكانة غير مرغوب فيها بالنسبة إلى أفراد أسرته.
4- الحاجة إلى الشعور بشيء من الاستقلال الذاتي ضمن إطار الأُسرة: يود الأطفال أن يظهروا أنّه باستطاعتهم أن يؤدوا بعض المسؤوليات البسيطة وأنّهم أهل لإتخاذ شيء من القرارات الخاصة بهم والتي يمكن أن تعود عليهم وعلى الأسرة بالنفع، وأنّهم يستطيعون التعبير عن وجودهم الذاتي أوّلاً وقبل كلّ شيء آخر للإفصاح عن مدى ما لديهم من قابليات والقابليات هذه يمكن أن تظهر على صور شتى وذلك بإتاحة الفرصة لها في كلّ من البيت والمدرسة للتعبير عن مقدار طاقتها الخلّاقة. فهي قدرات تتجلى في اللعب بقدر ما تتجلى في إنجاز المهام البسيطة التي قد يُكلف بها الطفل وذلك بما يتناسب وسنه والمرحلة التي هو فيها. وإن هو شعر بأنّ حيفاً قد لحق بما أنجز وحقق فإنّ التجربة لديه لا تنسى فضلاً عن كونها في حينها مؤلمة لنفسه، ولعل في عبارات ميخائيل نعيمة التالية المقتبسة من "البيادر" خير ما يعبر عن لسان حال كلّ طفل لا تدرك أغوار نفسه النامية المتطلعة إلى الأمل وإثبات كيانها.
"أنا لا أزال أحمل من ذكريات صباي ذكرى بيت صغير صرفت ساعات لذيذة في بنائه من الحجارة الصغيرة، فما انتهيت منه إلا والشمس قد أشرقت على المغيب. ولكنني بقيت حتى دهمتني الظلمة وأنا أبتعد عنه ثمّ أدنو منه، وعيني مترعة بالإعجاب، وقلبي طافح بالغبطة. فقد شعرت أنّني صنعت شيئاً، ولولا خوفي من والدي لبت ليلتي بجانب بيتي الصغير. وما أن انبلج الصبح حتى هرولت إلى البيت أتفقده بلهفة وأتحسس حجارته وترابه بشوق – وإذا بوالدي يلمح البيت ويلمحني من بعيد فيأمرني بلطف أن أهدمه في الحال وأحمل حجارته من هناك لأنّه مزمع أن يحرث الأرض بما فيها البقعة الصغيرة حيث شيدت بيتي الصغير. فانصعت لأمر والدي وفي القلب دموع كأنّها الجمر، وفي العين دياجير لا يخترقها شعاع رجاء، وفي النفس قنوط..".
الكاتب: د. عبدالعليّ الجسماني
المصدر: كتاب سايكولوجية الطفولة والمراهقة وحقائقهما الأساسية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق